More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
في حين أنّـي ختمتُ على فمي بيدي. وقد أدركت حلاوة السكوت ولم يدرك المتكلّمون مرارة الكلام.
وهل يدرك الناس يومًا أنّ سجلّاتهم ليست سوى كتابة على الماء، وأنّ لا سجلّ يدوم إلّا سجلّ الكون الرهيب حيث لا ينطلق صوت، ولا تُذرف دمعة، ولا تصعد
زفرة، ولا يولد فكر، ولا تُلفظ كلمة، ولا تتحرّك شهوة إلّا تنطبع على صفحاته الأبديّة؟ هنالك لا أسماء ولا ألقاب، ولا أنساب، ولا رتب، بل أعمال وأفكار وعواطف لا غير. متشابهة ولكنّها مختلفة، ومتّحدة ولكنّها منفصلة. ومدوّنو السجلّ الأعظم يميّزون بين هذه وتلك نظير ما يميّز الأثريّ الماهر بين خطوط إبهامي وخطوط إبهام سواي.
لقد اشتاقت نفسي عرائس الليل. وصومعتي لا نافذة فيها أرقب منها النجوم. ولو كانت فيها نافذة لما مكّنتني من رؤية كوكب واحد. لأنّ يد الإنسان قد فعلت كلّ ما في وسعها لتحجب النجوم عن عينيه.
من سيّـئات الحرب أنّـها تُجلس البطولة الزائفة على عرش البطولة الحقّـة. فتدعو الذي يقهر أخاه الإنسان «بطلًا» وتبالغ في تمجيده وتكريمه. والذي يقاهر نفسه ليحسن معاملة أخيه الإنسان تدعوه «جبانًا» وتنبذه نبذ النواة.
نور الثقاب. ونور الغاز. ونور الكهرباء. ونور الشمس – نور واحد، ومصدر واحد. تبارك النور الذي منه كلّ نور، والذي لا تغشاه ظلمة قطّ. وإنّ في داخلي لجذوة من ينبوعك أيّها النور الذي لا يخبو. وما أشدّ شوقها إليك وإلى الفناء فيك!
لله ما أسرع النّاس في خلق أسباب الشقاق، وما أبطأهم في خلق أسباب الوفاق! وهل من شيء في عالم النّـاس لم يكن يومًا من الأيّام مدعاة للخصام بين اثنين أو أكثر؟ ولعلّ أغرب ما في شؤون النّـاس ادّعاؤهم أنّـهم يختصمون على «الحقّ». ومتى يدرك النّـاس أن الحقّ ينفر من كلّ خصام، وأنّهم ما اختصموا يومًا من الأيّام إلّا على الباطل؟
احذر قلمك مثل لسانك يا أرقش. واحذر على نفسك من كليهما. ثمّ احذر على نفسك من نفسك.
الزائل لا يدوم. والدائم لا يزول. فما هو الدائم في كون كلّـه للزوال؟ إنّـه الزوال بعينه. أنقول إنّ الحياة زوال؟ بل هي ديمومة الزوال. هي القدرة التي تُزيل ولا تزول. فليعلم المعتركون.
يساورني اليوم شعور ما أذكر أن عرفته من قبل. ولعلّـه الحزن. فكأنّ قلبي غير قلبي، ودمي غير دمي، وحركاتي وأنفاسي غير حركاتي وأنفاسي، ففي كلّها انكماش وارتعاش وفتور. وكأنّ الأذن ملّـت السماع، والعين ملّـت البصر. أو كأنّهما تخشيان أن تسمع الواحدة وتبصر الأخرى غير ما تشتهيان، بل عكس ما تشتهيان.
أُحبّ زبدك وأمواجك. فبي زبدٌ كزبدك وأمواجٌ كأمواجك. أُحبّ انكماشك وانبساطك، فبي مثل انبساطك وانكماشك.
لو كان لي يا أُذن أن أجمع كلّ ما ولجك من الأصوات في خلال ثلاثة عقود من السنين، ثمّ أن أصنع منها شبه قنبلة صوتيّـة، ثمّ أن أُطلق تلك القنبلة في الفضاء، أما كان يجفل لدويّها البحر، وتصطكّ الجبال اصطكاك أسنان المقرور، وترتجف أمعاء الهواء ارتجاف أمعاء المحموم، ويرتجّ كلّ دماغ في كلّ جمجمة، وتنفخت كلّ طبلة في كل أذن؟ ثمّ لو كان لي أن أقتنص كلّ كلمة سمعتِـها منذ بدأتِ تسمعين حتّى اليوم، وأن أسطّرها بالمداد على القرطاس، وأن أبسط القرطاس على الأرض أفما كان يغطّي الأرض؟
معلّم بليغ هو الألم في كلّ ما يلقيه على النّاس من دروس ما بين المهد واللّحد. أتظنّـه يفقد رشده وبلاغته ويُبتلى بالخرف حالما يبلغ بالنّـاس حافّة القبر، فيروح يلقي عليهم دروسًا لا نفع منها البتّـة؟