More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
الهوية ليست ثابتة بل هي تتحوَّل بمرور الوقت وتحدث في السلوك البشري تغييرات عميقة، وإن وجدت، في كل الأوقات، تراتبية معينة بين العناصر المكوِّنة لهوية كل إنسان.
في كل مجتمع متشرذم، يوجد عدد من الرجال والنساء يحملون في أعماقهم انتماءات متناقضة ويعيشون على خط التماس بين جماعتين متناحرتين، أشخاص تخترقهم، نوعاً ما، تصدعات إتنية ودينية أو سواها. إننا لا نتحدث عن حفنة من الهامشيين، فهؤلاء الأشخاص يعدُّون بالآلاف والملايين، وعددهم يزداد يوماً بعد يوم. وبما أنهم أشخاص «حدوديون» منذ الولادة، أو بحكم المصادفة، أو عن وعي وتصميم، فهم قادرون على التأثير في مجرى الأحداث وترجيح الكفة في هذا الاتجاه أو ذاك. وأولئك الذين يستطيعون، من بين هؤلاء الأشخاص، أن يضطلعوا اضطلاعاً كاملاً بتنوُّعهم، يصلحون «حلقات وصل» بين الجماعات والثقافات المتنوِّعة، ويشكلون نوعاً ما «لحمة»
...more
الكثير من البلدان التي يتعايش فيها اليوم سكان أصليون يحملون ثقافة محلية، وسكان آخرون وفدوا حديثاً يملكون تقاليد مختلفة، تبرز توترات ترخي بظلالها على سلوك كل منهما، وعلى المناخ الاجتماعي والسجال السياسي. ولذا، لا بد من تناول هذه القضايا الحساسة بحكمة وروية.
والحكمة درب متعرج، وطريق ضيقة بين هاويتين ومفهومين كل منهما على طرف نقيض من الآخر. ففي مسألة الهجرة، يتمثل المفهوم الأول في اعتبار البلد المضيف صفحة بيضاء يمكن لكل واحد أن يسطر عليها ما يحلو له، أو أسوأ من ذلك، أرضاً مشاعاً يمكن لأي كان أن يستقر فيها مع أسلحته ومتاعه دون أن يغير شيئاً في سلوكه أو عاداته. ويرى المفهوم الثاني أن البلد المضيف صفحة مكتوبة ومطبوعة أصلاً، أو أرض قد تحددت نهائياً قوانينها وقيمها ومعتقداتها وسماتها الحضارية والانسانية، وما على المهاجرين سوى الامتثال لها.
حين أن العقلاء سوف يخطون خطوة نحو التسوية البدهية التي تعتبر أن البلد المضيف ليس صفحة بيضاء ولا صفحة مكتملة، بل صفحة في طور الكتابة.
شرط التبادل ـ النابع من الحرص على العدل والفعالية. ومن هذا المنطلق، أود أن أقول «لهؤلاء» أولاً: «كلما انطبعتم بثقافة البلد المضيف، استطعتم طبعه بثقافتكم»، ثم أنبري «لأولئك» قائلاً: «كلما احترم المهاجر ثقافته الأصلية، انفتح على ثقافة
لقد علمنا القرن العشرون أن ليس هنالك بالضرورة عقيدة تحريرية بذاتها، فجميع العقائد قد تنحرف عن أهدافها ويشوبها الفساد، وتقوم بسفك الدماء، من الشيوعية والليبرالية والقومية وكل ديانة من الديانات الكبرى، وحتى العلمانية. فلا أحد يحتكر التطرف، وبالعكس، لا أحد يحتكر النزعة الإنسانية.
إن ما أكافح وسوف أكافح ضده ما حييت، هو تلك الفكرة القائلة بوجود دين من جهة ـ المسيحية ـ كان مهيئاً في كل الأوقات لنقل الحداثة والحرية والتسامح والديموقراطية، يقابله دين آخر ـ الإسلام ـ محكوم منذ البداية بالطغيان والظلامية. إن هذه الفكرة مغلوطة وخطرة، وهي تسد كل الآفاق أمام قسم كبير من البشرية. لم أتنكَّر قط لدين أجدادي، وأنا أدافع عن انتمائي الديني أيضاً، ولا أتردد في الاعتراف بتأثيره في مجرى حياتي.
لقد تميز الإسلام، منذ بداياته، بقدرة لافتة على التعايش مع الأديان الأخرى. ففي أواخر القرن الماضي، كانت إسطمبول عاصمة الدولة الإسلامية العظمى، تضم أغلبية من غير المسلمين، جلُّهم من اليونان والأرمن واليهود. فهل يسعنا أن نتصور، في الفترة نفسها، عدداً لا بأس به من غير المسيحيين، مسلمين كانوا أم يهوداً، يعيشون في باريس أو لندن أو فيينا أو برلين؟ وحتى اليوم، لا يزال الكثير من الأوروبيين يمتعضون لسماع صوت المؤذن في مدنهم.
غير أننا يجب أن نقارن ما هو قابل للمقارنة. فلقد وضع الإسلام «بروتوكول تسامح» في فترة كانت لا تتقبل فيها المجتمعات المسيحية شيئاً. وطوال قرون عديدة، كان هذا «البروتوكول» أحدث أشكال التعايش في الأرض قاطبةً. وربما
إن التاريخ يقدم البرهان الساطع على أن الإسلام يحمل في جوهره قدرات كامنة على التعايش والتفاعل المثمر مع الحضارات الأخرى؛ ولكن التاريخ الحديث يبين كذلك أن التقهقر ممكن، وأن هذه القدرات الكامنة قد تبقى طويلاً في حالة كمون.
وسوف أذهب أبعد من ذلك، مضخِّماً التفاصيل ربما ولكن دون غلوٍّ: فلو قمنا بدراسة التاريخ المقارن للعالم المسيحي والعالم الإسلامي، لاكتشفنا من جهة ديانةً ظلت طويلاً تجهل التسامح، وتحمل نزعة توتاليتارية أكيدة، ولكنها تحولت شيئاً فشيئاً إلى ديانة منفتحة؛ ومن جهة أخرى، ديانة حاملة لدعوة انفتاح ولكنها انحرفت تدريجاً عن دعوتها واعتمدت سلوكيات متشددة وتوتاليتارية.
ولا أعتقد كذلك أنه بالإمكان فصل ديانة عن مصير أتباعها كما قلت أصلاً، إنما يبدو لي أننا غالباً ما نهوِّل تأثير الأديان على شعوبها، ونهمل، على العكس، تأثير الشعوب في الأديان.
لقد لمسنا هذا السلوك في حقب أخرى أيضاً، ومنها حقبتنا المعاصرة. فكلما شعر المجتمع الإسلامي بالأمان، عرف ممارسة التسامح،
وأعود إلى فكرتي الأساسية وفحواها أننا غالباً ما نولي الأهمية أكثر مما ينبغي لتأثير الأديان في الشعوب وتاريخها، وليس كفايةً لتأثير الشعوب وتاريخها في الأديان. وأنا أعرف أن هذا التأثير متبادل؛ فالمجتمع يصنع الدين الذي بدوره يصنع المجتمع. غير أنني ألاحظ أننا قد اعتدنا رؤية هذا الجانب من الجدلية فحسب مما يشوه المشهد بصورة غريبة.
ولا يعيش الأشخاص الذين ولدوا في كنف الحضارة المتفوقة والأشخاص الذين ولدوا خارج إطارها هذا الواقع بالطريقة نفسها. فالأولون يتحولون ويتقدمون في حياتهم ويتأقلمون دون أن تتغير هويتهم، بل كلما تعصرن الغربيون، شعروا بالانسجام مع حضارتهم، ووحدهم الذين يرفضون الحداثة يعيشون في غربة. أما بالنسبة إلى سائر العالم، بالنسبة إلى كل الذين ولدوا في كنف حضارات مهزومة، فظروف استقبال التغيير والحداثة تختلف. فقد كانت الحداثة تعني دائماً التخلي عن جزء من الكيان بالنسبة إلى الصينيين والأفارقة واليابانيين والهنود أو هنود أميركا، وكذلك القول بالنسبة إلى اليونانيين والروس والإيرانيين والعرب واليهود أو الأتراك. وحتى لو
...more
وكان الحل الذي جرى اعتماده يقوم على التوزيع المسبق للمناصب المختلفة بحيث لا تتم المواجهة قط بين طائفتين، بل بين مرشحين ينتميان إلى الطائفة عينها. وكانت هذه الفكرة ذكية ومنطقية من الناحية النظرية. ولكن، عندما جرت محاولة تطبيقها على كل مستويات الحكم، من رئاسة الجمهورية إلى المجلس النيابي والوظائف العامة، أصبح كل منصب «ملكاً» لطائفة واحدة في الواقع!