More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
يدهشنى الآن أيضًا طول الوقت الذى احتجت إليه لكى أتعلم كيف أن علىّ أن أضع ثقتى لا فى الكتاب، مهما بدا جذابا باسمه أو موضوعه، بل فى مؤلفه. وأن أدرك أن هناك بعض الكُتاب الذين يمكن أن يشعر معهم القارئ بالأمان، فيستطيع أن يطمئن إلى أن أى شىء يصدر عنهم سوف يكون على الأرجح جديرا بالقراءة، وأن عدد هذا النوع من الكتاّب فى أى فرع من فروع المعرفة، أقل بكثير مما نظن،
«هل هناك أى أمل حقيقى فى أن ينقل أى جيل تجربته للجيل الذى يليه؟ أم أن من المحتم على كل جيل أن يمرّ بالتجربة بنفسه، وأن يستخلص كل جيل بنفسه ما يستطيع استخلاصه من تجربته هو، دون أى أمل فى أن يحصل على أى مساعدة من الأجيال السابقة؟».
وهنا لابد أن أعترف بأن واحدًا من تحّيزاتى القوية والثابتة فى ذهنى منذ زمن طويل وتأبى أن تفارقنى، هو هذه الفكرة: أن الحرمان المادى فى الصغر أمر خطير للغاية إذ يترتب عليه فى الغالب مادية مفرطة فى الكبر. هكذا كنت أميل دائما، كلما رأيت شخصا يسيطر عليه حب المال، إلى البحث عن سبب ذلك فى ظروف نشأته، وكلما وجدت شخصا كريما سخيا ومستعدا للتضحية بالكسب المادى من أجل فكرة أو مبدأ افترضت على الفور أنه لم يصادف حرمانا فى صباه. والحقيقة أنى لم أصادف فى حياتى أمثلة كثيرة تدحض نظريتى هذه، وصادفت الكثير جدا مما يؤيدها، ولكنى على استعداد بالطبع للاعتراف بأن هناك حالات غير عادية تعجز هذه الفكرة البالغة التبسيط عن
...more
مرة أخرى خطر لى: كم يمكن للإسلام أن يكون قوة، وكم نجهل ما لنا من أصدقاء وإخوان فى أركان الأرض المترامية.
كان مالكولم كير يجمع على نحو فريد بين منتهى الجدية والإخلاص لعمله، وبين إحساس قوى بالسخرية والمفارقات الكامنة فى الأشياء وفى تصرفات الناس، مما كان يمنعه من أن يأخذ نفسه بجدية أكثر من اللازم أو أن يبالغ فى أهمية ما يصنعه.
كانت لا تزال لدىّ عندئذ فكرة مثالية أكثر من اللازم وغير واقعية بتاتا عن أستاذ الجامعة، أىّ جامعة، تتعلق بالاهتمام الحقيقى بالعلم، والانشغال المستمر بالقضايا الفكرية، بدرجة تفوق درجة اهتمامه وانشغاله بأى شىء آخر. فلما رأيت أساتذة الجامعة عن قرب وجدت أنهم، باستثناء قلة نادرة للغاية، على عكس هذا تماما: رجال من لحم ودم، لهم تطلعاتهم المادية مثل غيرهم، وذوو أهواء وتحيزات صارخة تحكم آراءهم ومواقفهم. والذى وجدته أغرب من كل هذا أن صبرهم على أى مناقشة فكرية حقيقية ضئيل للغاية، وميلهم إلى تقليب الأمور على أوجهها المتعددة ضعيف أو غير موجود أصلا.
لقد تبينت مع مرور السنين، أن مدلول الكلمة الإنجليزية intellectual لا يتوافر إلا فى عدد قليل جدا من الناس، وتوافره بين أساتذة الجامعة، مصرية كانت أو أمريكية، ليس أكبر بالضرورة منه بين غيرهم، وأن الحصول على الشهادات العالية، كالدكتوراه، من جامعات عظيمة، كهارفارد أو لندن أو أكسفورد أو باريس، لا يدل على أى شىء على الإطلاق فيما يتعلق بهذه الصفة. إن كلمة (intellectual) ليس لها فى الحقيقة مقابل شائع باللغة العربية، فهى بالطبع لا تعنى المتعلم ولا حتى المثقف، بل تشير إلى الانشغال المستمر، أو شبه المستمر، بأمور فكرية، أو رؤية المشكلة الفكرية وراء أى حدث أو ظاهرة من أحداث وظواهر الحياة اليومية
كم سررت إذن عندما قرأت قولا لذلك الكاتب الأثير لدىّ (جورج أورويل) يفسّر به إرساله لابنه بالتبنى إلى مدرسة من المدارس الأرستقراطية والمسماة فى إنجلترا Public Schools، على الرغم من ميوله الاشتراكية وكراهيته للامتيازات الطبقية. قال أورويل تعليقا على ذلك: (نعم أنا ضد نظام Public Schools ، وأؤيد إلغاءه، ولكن طالما هو موجود سأظل أرسل
ابنى إلى مدرسة من هذه المدارس!). لقد فهمت هذا القول بمعنى تفضيل الواقعية الكاملة على الاستسلام للشعارات المجردة، وبمعنى الاعتراف بأن قدرة المرء منا على أن يحدث بعمله المنفرد تغييرا مهما فى النظام السائد قدرة محدودة جدًا، وأنه قد تكون من الحماقة أن يضحى المرء بنفسه، أو بمصالح شخصية مهمة له أو لأسرته، فى سبيل التمسك بمبدأ عام لا توجد أمامه فرصة جدية للتحقق فى المدى المنظور.
كما هى عادتى، لم أتأكد من أن المقال جيد إلا عندما قال لى بعض من قرأه إنه جيد، وكانت هذه بداية شعورى بأننى قد أكون أكثر من اقتصادى.
كما قلت لنفسى إن الحق مصيره أن يتضح فى النهاية، وإن الذى يسعى إلى الفهم الكامل للحقيقة المعقدة سوف يصل إليه، ومن لا يسعى إلى هذا الفهم لا يجب أن يبالى به.
ما أكثر ما رأيت هذا التغير فى زملاء الطفولة والصبا، ومع ذلك فأنا لا أريد أن أتعلم وأغيّر رأيى فى نفسى. قد أتظاهر بالاعتراف بأن ما حدث لغيرى قد حدث لى أيضًا، ولكنى لا أعتقد هذا حقيقة فى قرارة نفسى،
إنى لم أقطع بعد شوطا بعيدا فى هذا المنحدر، ولكنى أراه أمامى بكل وضوح، خاصة وأنى لا أزال أذكر ببعض الحزن، ما كان يظهر على وجه أبى فى شيخوخته، من خيبة الأمل عندما كان يدق جرس التليفون فجأة وهو جالس دون انشغال حقيقى بأى عمل محدد، فيعتريه الأمل فى أن يكون المتكلم صديقا له أو حتى شخصا لا يعرفه يحاول أن يحصل على وساطته للحصول على وظيفة أو بعثة أو ترقية، ثم تصيبه خيبة الأمل عندما يكتشف أن المكالمة لابن من أبنائه.
ومع مرور بضعة أيام على هذا الحادث، تأكد لى هذا أكثر فأكثر، وكانت النتيجة مزيجا من الارتياح والفزع فى نفس الوقت. الارتياح لأن الألم أقل بكثير مما كنت أتوقع، والفزع من حجم القسوة التى تبين لى أنها كامنة فى الجميع، بدرجة أكبر بكثير أيضًا مما كنت أظن.
إن هدفنا من قراءة الكتب والصحف ورؤية المسرحيات والأفلام والذهاب إلى حفلات الموسيقى، لم يكن مجرد الترويح عن النفس أو التسلية، بل ولا كان مجرد زيادة معلوماتنا عما يجرى فى العالم، بل كان هدفنا «الفهم» والوصول إلى «الحقيقة»، ولكنى لم أعرف إلا بعد سنوات كثيرة كم هو صعب تحقيق هذا الهدف، إن كان ممكنا على الإطلاق.
لقد اكتشفت أيضًا بعد سنوات كثيرة، أن أكثر الكتب هى أيضا من هذا النوع الذى يعطيك من المعلومات أكثر بكثير مما يعطيك من التحليل والفهم، وأن هذا التحليل، إذا وجد، نادرا ما ينصبّ على الجوهرى والمهم، ونادرا ما يجيب على الأسئلة التى كنت تنتظر أن يجيب عليها، ومن ثم نادرا ما يزيد من فهمك لشىء تريد فهمه.
لجورج أورويل قول طريف يعرّف فيه الكتاب الجيد بأنه «الكتاب الذى يقول لك ما كنت تعرفه من قبل». إنه إذن ليس الكتاب الذى يضيف إلى معلوماتك، فهذا النوع من الكتب لا يقول لك ما كنت تعرفه بالفعل، ولكنه الكتاب الذى يدعم فهمك لبعض الأمور، وقد ينظم هذا الفهم ويرتّبه، فيزيد من وضوح هذا الفهم فى ذهنك، ومن ثقتك بصحته.
أورويل يقصد أن يقول أيضًا، فيما أظن، أن أفضل الأفكار وأهمها هى أبسط الأفكار وأسهلها، ومن ثم فليس من الغريب أن تطرأ على ذهن الكثيرين، فيأتى الكتاب الجيد فقط لتأكيدها وتوضيحها.
«لقد أنفقت ثروة طائلة فى السفر إلى شواطئ بعيدة، فرأيت جبالا شاهقة ومحيطات لا يحدّها حدّ. ولكنى لم أجد متسعا من الوقت لأن أخطو بضع خطوات قليلة خارج منزلى، لأنظر إلى قطرة واحدة من الندى، على ورقة واحدة من أوراق العشب»؟
ألا يفرح الناس بنشر خبر زواجهم أو أعياد ميلادهم فى الصحف والمجلات مع أن الزواج أو الاحتفال بعيد الميلاد ليس بالضرورة داعيا من دواعى الفخر والمباهاة، ومعظم الناس قادرون على هذا أو ذاك، ولا يحتاج الأمر إلى توفر ذكاء خاص أو مزايا نادرة؟
بمرور الزمن ضعفت لدىّ الرغبة فى لفت الأنظار وأصبحت فرصة نشر مقال لى فى جريدة سيّارة، أو إلقاء كلمة أمام بعض الناس المهمين، أو الظهور فى التليفزيون، لا تحمل جاذبية كبيرة لى، وكادت جاذبية أى من هذه الأمور تنحصر فى مدى جاذبية الموضوع الذى يطلب منى أن أتناوله بالكتابة أو الحديث، دون أن أبالى كثيرًا بما قد يتصل به من «جماهيرية».

