More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
ولكن لم يعد يخامرنى أى شك، بعد ما شاهدته فى إخوتى من ناحية، وفى أولادى من ناحية أخرى، وفى أصدقائى ومعارفى وأولادهم، فى أن أثر الأسرة والمناخ السائد فى البيت فى التربية العقلية والخلقية أهم من أثر المدرسة، ولكن الأهم بكثير من هذا وذاك هو الاستعداد الفطرى الذى يولد به الطفل. فإذا توفر هذا الاستعداد الفطرى فما أسهل أن يعوض الجهد الشخصى عما فشلت المدرسة فى تحقيقه.
أن هذه الرحلة كانت مجرد مثال واحد من أمثلة كثيرة صادفتها فى حياتى لقيام المرء بسبب حماقته بإفساد فرصة ذهبية للبهجة والاستمتاع بالحياة، إذ ينشغل بأفكار ممعنة فى السخافة تدور حول نفسه، ونفسه فقط.
لم يمتحنى أبى بعد عودتى فيما رأيت وما الذى استفدته منه. فهكذا كان أبى دائما، تخطر بباله أفكار سديدة فيما يتعلق بتربيتنا ويضحى بالمال اللازم لتنفيذها دون تردد، ولكن وقته كان دائما أثمن من أن ينفقه فى تبادل الحديث معنا أو فى محاولة اكتشاف ما يدور برءوسنا من أفكار.
لم ييأس الأستاذ روبنز لحسن الحظ وقال لى إن هناك خمسة كتب علىّ أن أبدأ بقراءتها. ويبدو أن هذه القائمة هى ما كان ينصح بقراءته أى طالب يبدأ فى دراسة الاقتصاد، لاعتقاده أنها تساعد على تكوين قاعدة سليمة وصلبة لفهم طريقة التفكير الاقتصادى. كانت هذه الكتب هى: ألفرد مارشال: «مبادئ الاقتصاد»، وفيكسيل «محاضرات فى النظرية الاقتصادية»، وفرانك نايت «المخاطرة وعدم اليقين والربح» وباتنكين «النظرية النقدية»،
أذكر أننى فى إحدى مقابلاتى مع أستاذى روبنز ذكر لى أن علىّ قراءة كتاب شومبيتر فى تاريخ التحليل الاقتصادى. وهو كتاب مشهور، ويتمتع بتقدير الجميع، ولكنه يحتوى على نحو ١٢٠٠ صفحة من الحجم الكبير والبنط الصغير. فلما سألته بدهشة: «كل الكتاب؟» أجابنى بإجابة ظلت عالقة فى ذهنى وهى: «يجب أن تتعلم كيف تقفز فى القراءة!» (You have to learn how to skip!) وأظن أنه كان على صواب تمامًا، فقد اكتشفت، بعد أن تعلمت هذا القفز، حجم الفائدة التى يجنيها القارئ من ورائه، وكيف أنى أضعت وقتا كثيرًا فى كتب سخيفة كان من الواجب علىّ تركها فى وقت مبكر.
من فرنسا والذى التحق بنفس الكلية وفى نفس السنة التى التحقت بها فيها، فكان أيضًا رجلا مكتفيا بنفسه ولكنه كان ودودا، لطيف المعشر، ذا شهامة، وعلى استعداد كامل للمساعدة طالما أن هذا لا يتطلب منه جهدا زائدا أو عناء. كان يؤمن إيمانا قويا بقاعدة: «عش واترك الآخرين يعيشون». لديه من الموارد الذاتية النفسية والعقلية ما يكفل له حياة هانئة، ولا يحتاج إلى شىء يتوقف الحصول عليه على إرادة الآخرين، فهو يشعر بأنه قادر دائما على الاستغناء عنهم. ولكنه لا يحمل أى حقد أو غيرة من الآخرين، إذ إنه لا يتمنى لنفسه شيئا مما يتوافر لهم، ولا يستطيع أن يوفره لنفسه دون مساعدتهم. كان من الواضح أنه وضع لنفسه هدفا محددا وواضحا
...more
وهنا لابد أن أعترف بأن واحدًا من تحّيزاتى القوية والثابتة فى ذهنى منذ زمن طويل وتأبى أن تفارقنى، هو هذه الفكرة: أن الحرمان المادى فى الصغر أمر خطير للغاية إذ يترتب عليه فى الغالب مادية مفرطة فى الكبر. هكذا كنت أميل دائما، كلما رأيت شخصا يسيطر عليه حب المال، إلى البحث عن سبب ذلك فى ظروف نشأته، وكلما وجدت شخصا كريما سخيا ومستعدا للتضحية بالكسب المادى من أجل فكرة أو مبدأ افترضت على الفور أنه لم يصادف حرمانا فى صباه. والحقيقة أنى لم أصادف فى حياتى أمثلة كثيرة تدحض نظريتى هذه، وصادفت الكثير جدا مما يؤيدها، ولكنى على استعداد بالطبع للاعتراف بأن هناك حالات غير عادية تعجز هذه الفكرة البالغة التبسيط عن
...more
فالناس هنا بصفة عامة يذكروننى فى طباعهم، بطالب مصرى أرستقراطى لم يصادف مشكلة مادية قط، وتخرج فى مدرسة أجنبية فى مصر: الدماثة والرقة والسذاجة والتفاؤل والبساطة، مع عدم القدرة على تكوين علاقات اجتماعية عميقة، وغيبة أية رغبة فى التحليل وتقليب الأمر على وجوهه. فلعل الأمريكيين هم أكثر الشعوب التى أعرفها بعدًا عن أن يوصفوا بالـ intellectuals ، بل لعلهم ينفرون من أى جهد ذهنى يُبذل لوجه الله.
من هذه الكتب أيضًا كتاب ابن رشد «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» فبذلت جهدا فى محاولة فهم الأسباب الحقيقية للخلاف بينه وبين الغزالى. وأعجبت إعجابا فائقا برواية الكاتب النيجيرى المعاصر (أشيبى) «عندما ينهار كل شىء» (Things Fall Apart) وأبرزت فى محاضرتى عنها قضية اصطدام ثقافات العالم الثالث بالحضارة الغربية، وهو ما أبرزته أيضًا عندما حاضرت، أكثر من مرة، عن تلك الرواية الأثيرة لدىّ «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. كنت قد قرأت مقدمة ابن خلدون قبل اشتراكى فى تدريس مادة تاريخ الفكر الاقتصادى، وأثار حماسى أن أكتشف أن كاتبا عربيا أحرز كل هذا التقدم فى صياغة بعض الأفكار الاقتصادية
...more
كانت عملية الكتابة نفسها مصدر سرور يفوق ما تجلبه لى رؤية المقال منشورا، بل ويفوق ما يجلبه ثناء أسمعه أو أقرأه على المقال. نعم كان هذا وذاك يسراننى بالطبع، ولكنه سرور قصير العمر سرعان ما يزول، أما السرور الذى يجلبه التفكير فى موضوع المقال ووضع خطته ثم كتابته، فهو، كما تبينت، الأكثر حدوثًا والأطول عمرًا.
فى أثناء عملى فى هذا الكتاب (٧٨ - ١٩٧٩) كان من بين أكثر الكتب تأثيرا فىّ كتاب صغير لكاتب لم أكن قد قرأت له من قبل شيئا، ولا أعرف شيئا عن أهميته ومواهبه. قرأت الكتاب ففتنتنى لغته العربية البديعة وأسلوبه القوّى النفاذ، ووجدت موقفه من الدين شبيها جدّا بموقفى، إذ يغلب عليه التأكيد على دور الدين فى إحداث النهضة القومية بدلا من اعتباره مجرد طريق للخلاص الروحى للفرد. كان هذا الكتاب «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» لشكيب أرسلان.
بديعا، عن ضرورة تحرير الدولة من العلم، مثلما تحررت من الكنيسة. ذلك أنى من ناحية تبينت شيئا فشيئا، كيف أن العلم هو أكثر «شخصية أو ذاتية» مما كنت أظن، وليس دقيقا بالدرجة التى كنت أظنها، ومن ثم من الممكن جدّا أن يكون ضارا ومدمّرا. وفى نفس الوقت تبينت أن الدين رغم أنه لا يقوم على التجربة أو الملاحظة، قد يكون قوة دافعة لأعمال عظيمة. فما كل هذا الغرور إذن الذى يتسم به الكثيرون من العلمانيين؟، ولماذا كل هذه المعاملة السيئة والاحتقار اللذين يبديانها إزاء المتدينين؟ المسألة إذن ليست مسألة اختيار بين العلم والدين، وإنما هناك علم فاسد وعلم ينفع الناس، كما أن هناك تدينا فاسدا وتدينا ينفع الناس.
كان أبى بالطبع، بعلمه الواسع وعقلانيته، محصنا ضد هذه المعتقدات والمخاوف، كما كان أكثر ثقة من أمى بالطب والأطباء. ونشأنا نحن الأولاد والبنات أقرب بالطبع إلى موقف أبى منا إلى موقف أمى. ومع هذا فلابد أن أعترف بأننى إذا نظرت الآن إلى خلاصة خبرتى مع الأطباء، خلال حياتى الماضية بأكملها، أجد أنها أقرب إلى خيبة الأمل منها إلى الإعجاب. بل إنى عندما أستعيد ذكرياتى مع الأطباء، خطوة بخطوة، منذ أول عهدى بهم حتى الآن، تدهشنى كثرة عدد من ارتكبوا أخطاء جسيمة فى حقى. بدأ هذا فى سن مبكرة للغاية إذ لم أكن تجاوزت سن السابعة أو الثامنة عندما أخذنا أبى، نحن الإخوة الثلاثة، أحمد وحسين وأنا، إلى طبيب الأنف والأذن
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
أذكر أنه ذكر أنه تخلص إلى الأبد من أى شعور بالغيرة وروح المنافسة والرغبة فى التفوق على الآخرين، وما يصاحب هذا الشعور أحيانا من آلام. وأضيف إلى ذلك الميزة الأكثر وضوحا والمتمثلة فى انخفاض درجة الاحتياج إلى المال مع انخفاض حدة مختلف الرغبات، وانخفاض درجة الخوف من العوز المادى لقلة المتاح من الوقت الذى يمكن للمرء فيه إنفاق ما سبق له ادخاره. بل لقد لاحظت أن خوفى من الموت نفسه
ولكن خيبة الأمل لها أيضا معنى آخر، غير مجرد الفشل فى تحقيق ما نريد وهو، ويا للغرابة، أن نحقق بالضبط ما نريد ! ما أكثر ما كتب عن السعى الحثيث إلى جمع المال الذى ينتهى بصاحبه إلى اكتشاف أن كثرة المال لم تجلب له من السرور ما كان يظنّه ويأمل فيه. ولكن نفس الملاحظة تنطبق على أشياء كثيرة غير المال. لكم تمنيت فى مختلف مراحل عمرى أن أرى اسمى منشورا ومقترنا بمقال أو كتاب من تأليفى، وقد حققت هذا المرة بعد المرة، حتى أصبحت رؤية اسمى منشورا تكاد تعادل رؤية اسم شخص آخر لا أعرفه. وعندما تقدمت فى السن فقدت الثقة فى أشياء كثيرة كنت أعلق عليها الآمال كمصدر من مصادر السرور، ثم تبينت أننى بالغت فى قدرتها على
...more
كنت فى صباى، وفى مقتبل الشباب، أتصوّر أن ثمة ما يمكن تسميته «الحقيقة» أو«حقيقة الأشياء»، أو أن هناك «إجابات نهائية وحاسمة» على الأسئلة المهمة التى تشغل بالنا، وأن كل ما نحتاج إليه لاكتشاف هذه الحقيقة أو هذه الإجابات النهائية هو أن نقرأ الكتب والمقالات التى كتبها كتّاب يتسّمون بالحكمة، وأن نشاهد المسرحيات والأفلام الجيدة، وأن نستمع إلى الموسيقى الرفيعة. هكذا كنا نظن، ومن ثم شعرنا بأن قراءة ومشاهدة هذه الأشياء، والاستماع إلى هذه الموسيقى، ليست مجرد عمل مفيد أو جدير بالثناء بل واجب من الواجبات التى يُلام المرء إذا قصّر فى أدائها. هكذا اعتبرنا أنفسنا مقصّرين إذا لم نكن مثلا قد قرأنا بعد «الحرب
...more
لجورج أورويل قول طريف يعرّف فيه الكتاب الجيد بأنه «الكتاب الذى يقول لك ما كنت تعرفه من قبل». إنه إذن ليس الكتاب الذى يضيف إلى معلوماتك، فهذا النوع من الكتب لا يقول لك ما كنت تعرفه بالفعل، ولكنه الكتاب الذى يدعم فهمك لبعض الأمور، وقد ينظم هذا الفهم ويرتّبه، فيزيد من وضوح هذا الفهم فى ذهنك، ومن ثقتك بصحته. أورويل يقصد أن يقول أيضًا، فيما أظن، أن أفضل الأفكار وأهمها هى أبسط الأفكار وأسهلها، ومن ثم فليس من الغريب أن تطرأ على ذهن الكثيرين، فيأتى الكتاب الجيد فقط لتأكيدها وتوضيحها. ولكن الحقيقة أن أكثر الكتب ليس من هذا النوع، بل أكثرها يثير أسئلة غير مهمة ويجيب عليها إجابات غير مقنعة. فكيف لا يخيب
...more
لجورج أورويل قول طريف يعرّف فيه الكتاب الجيد بأنه «الكتاب الذى يقول لك ما كنت تعرفه من قبل». إنه إذن ليس الكتاب الذى يضيف إلى معلوماتك، فهذا النوع من الكتب لا يقول لك ما كنت تعرفه بالفعل، ولكنه الكتاب الذى يدعم فهمك لبعض الأمور، وقد ينظم هذا الفهم ويرتّبه، فيزيد من وضوح هذا الفهم فى ذهنك، ومن ثقتك بصحته. أورويل يقصد أن يقول أيضًا، فيما أظن، أن أفضل الأفكار وأهمها هى أبسط الأفكار وأسهلها، ومن ثم فليس من الغريب أن تطرأ على ذهن الكثيرين، فيأتى الكتاب الجيد فقط لتأكيدها وتوضيحها. ولكن الحقيقة أن أكثر الكتب ليس من هذا النوع، بل أكثرها يثير أسئلة غير مهمة ويجيب عليها إجابات غير مقنعة. فكيف لا يخيب
...more

