More on this book
Kindle Notes & Highlights
ولكنَّ ذاكرة الأطفال غريبة، أو قلْ: إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة؛ فهي تتمثل بعض هذه الحوادث واضحًا جليًّا كأن لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء، ثم يمَّحِي منها بعضها الآخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد.
هذه الحادثة أعانته على أن يفهم حقًّا ما يتحدَّث به الرُّواة عن أبي العلاء من أنه أكل ذات يومٍ دبْسًا،٤ فسقط بعضه على صدره وهو لا يدري، فلما خرج إلى الدرس قال له بعض تلاميذه: يا سيدي أكلت دبْسًا، فأسرع بيده إلى صدره، وقال: نعم، قاتل الله الشَّرَهَ! ثم حرَّم الدبس على نفسه طوال الحياة.
ولم يترك هذه العادة إلا حين خطب قرينته، فأخرجته من عاداتٍ كثيرة كان قد أَلِفها.
ممعودًا،
والنساء في قرى مصر لا يُحْبِبْنَ الصمت ولا يَمِلْنَ إليه؛ فإذا خلت إحداهن إلى نفسها ولم تجد من تتحدَّث إليه، تحدَّثت إلى نفسها ألوانًا من الحديث، فغنَّت إن كانت فرحة، وعدَّدت١٠ إن كانت محزونة، وكل امرأة في مصر محزونة حين تريد. وأحب شيء إلى نساء القرى إذا خلون إلى أنفسهن أن يذكرن آلامهن وموتاهن فيعدِّدن، وكثيرًا ما ينتهي هذا التعديد إلى البكاء حقًّا. وكان صاحبنا أسعد الناس بالاستماع إلى أخواته وهن يتغنَّين، وأمه وهي تعدِّد، وكان غناء أخواته يغيظه ولا يترك في نفسه أثرًا؛ لأنه كان يجده سخيفًا لا يدل على شيء، في حين كان تعديدُ أُمِّه يهزُّه
هزًّا عنيفًا، وكثيرًا ما كان يُبكيه. وعلى هذا النحو حفظ صاحبنا كثيرًا من الأغانى، وكثيرًا من التعديد، وكثيرًا من جِدِّ القصص وهَزْله، وحفظ شيئًا آخر لم تكن بينه وبين هذا كله صلة؛ وهي الأوراد التي كان يتلوها جَدُّه الشيخ الضرير إذا أصبح أو أمسى.
بمُحْرِجات الأيْمان،
وما أشد نُكْر هذه الساعة التي أقبل فيها بعض الناس واحتملوا الطفلة ومضَوا بها إلى حيث لا تعود! كان ذلك اليوم يوم الأضحى، وكانت الدار قد هيئت للعيد، وكانت الضحايا قد أعدت، فيا له من يوم! ويا لها من ضحايا! ويا نكرها من ساعة حين عاد الشيخ إلى داره مع الظهر وقد وارى ابنته في التراب!
ومع ذلك فإن أباك يبذل من الجهد ما يملك وما لا يملك، ويتكلف من المشقة ما يطيق وما لا يطيق، لِيَجْنُبَكِ حياته حين كان صبيًّا.

