المعذبون في الأرض
Kindle Notes & Highlights
عادت مصر إذن إلى مثل ما كانت عليه فرنسا أثناء القرن السابع عشر، حين كان بعض كتَّابها يفرون بكتبهم لينشروها في هولندا؛ مخافة البأس والبطش وطغيان الرقيب. وأحاول أن أفهم مصدر هذا الخوف الذي أغرى تلك الحكومة بهذا الكتاب، فحرمت عليه الحياة في مصر، فلا أجد إلى فهمه سبيلًا؛ فليس في الكتاب سياسة أو شيء يشبه السياسة، وليس في الكتاب تحريض على النظام الاجتماعي ينكره القانون، وليس فيه إغراء بتلك المبادئ الهدَّامة كما كان يقال في ذلك الوقت، وليس من فصوله فصل إلا وقد نُشِر في مجلة أو صحيفة سيَّارة، فلم تنكره الحكومة، ولم تَضِقْ به النيابة، ولم يُقدَّم كاتبه وناشره إلى القضاء. وإذن فهو الخوف الذي يورِّط في
...more
فكنا نؤثر الغموض على الوضوح، والرمز والإلغاز على التصريح، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها، وكانت حكومات ذلك العهد ورقابتها تقرأ فلا تفهم، فتخلي بين الكتَّاب وما يكتبون، وتخلي بين القراء وما يذاع فيهم من ذلك الأدب الجديد. وكذلك قهر الأدب بغي البغاة، وأفلت من رقابة الرقباء، وسجل على الظالمين ظلمهم، وعلى المفسدين إفسادهم، وأنشأ بينه وبين القراء لغة جديدة يفهمها الأدباء وقراؤهم، وفنًّا جديدًا يذوقه القراء ويحبونه ويؤثرونه على فنون التصريح والوضوح.
والأدب أشبه شيء بالنهر العظيم القوي الذي يندفع من ينابيعه، فيشق مجراه حتى يصل إلى البحر، قاهرًا ما يلقاه من المصاعب، مقتحمًا ما يعترضه من العقاب، محتالًا في شق طريقه ألوانًا من الحيل تنتهي به كلها إلى غايته، فظلم الظالمين وبطش أصحاب الطغيان، وتحكُّم الرقباء، كل أولئك أضعف من أن يقوم في سبيل الأدب والفن، أو يحول بينهما وبين القراء.
أبي العلاء: وَلَمَّا رَأَيْتُ الْجَهْلَ فِي النَّاسِ فَاشِيًا تَجَاهَلْتُ حَتَّى قِيلَ إِنِّي جَاهِلُ
