More on this book
Kindle Notes & Highlights
Read between
February 18 - February 22, 2022
فالعرب لم ينظروا قط إلى المرأة هذه النظرة، ولم يحكموا عليها قط بالنجاسة والأصالة في الشر والخباثة؛ لأنهم لم يعرفوا الخطيئة بهذا المعنى في عهد الجاهلية.
Ghadeer and 1 other person liked this
من يئد البنات عَيلة — أي إشفاقًا من النفقة — كما وجد فيهم من يئد البنات أنفة من العار، وآية ذلك أن صعصعة بن ناجية كان يشتري البنات من آبائهن ليستحييهن، فيقبلون ذلك ويبيعونهن راضين عن بيعهن، حتى قيل إنه افتدى ثمانين ومائتي وليدة بالشراء، ولو كان آباؤهن يئدونهن خشية العار وحده لما أغنى عنهم إقصاؤهن وهن في قيد الحياة، ولحق بهم في بيعهن عار لا يقبله من يأنف من العار، والقرآن الكريم يقول: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ.
ونخرج من هذا جميعه بأن هذه النقائض الظاهرة مصدرها واحد، وهو النزاع على الرزق وما أوجبه من تقديس فضائل الحماية والدفاع عن الحرمات. فهذا المصدر يفسر لنا وأد البنات خشية الإملاق كما يفسر لنا وأدهن خشية العار، ويفسر لنا احتقار البكاء على المرأة كما يفسر لنا إعزاز جارها حتى لتنشب الحرب أربعين سنة غضبًا من إصابة ناقة في جوار خالة رئيس، ويرجع كله إلى نظرة طبيعية تجري مع الحوادث في مجراها، فلا يشوبها وهم من عقيدة دينية، ولا يخالطها قيد من أحكام التشريع.
الرجل والمرأة؛ لأنها العلاقة التي تمتحن بها الكياسة وآداب الخطاب.
ويلوح من تكرار هذه الأنباء أن استشارة البنات في أمر زواجهن كان سنة من السنن المرعية بين سادات العرب، لا يشذ عنها إلا القليل.
فآداب الرجال والنساء في بني تيم كانت مثالًا للرعاية التي تظفر بها المرأة العربية في بيئة السيادة وبيئة الحضارة.
جاء الإسلام فبدأ من النهاية التي انتهت إليها آداب الحضارة والسيادة، وهي خلاصة العرف الذي تعارف عليه سادة الحضر في معاملة المرأة العربية. إلا أنه جعل هذا العرف حقًّا مكتوبًا على الرجال لكل امرأة من كل طبقة، ولم يقصره على عقائل البيوتات كما كان مقصورًا عليهن في آداب الجاهلية بحكم الاصطلاح والعادة، يتبعه من يرضاه ويهمله من يأباه. ثم زاد على هذا العرف منزلة من الرعاية لم تصل إليها أرفع النساء في أرفع البيوتات قبل الدعوة المحمدية؛ لأنه جعلها مناط التكليف، ووجه إليها الخطاب في كل شيء كما وجهه إلى الرجال، إلا ما هو من خصائص عمل الرجال في العرف المستقيم.
ومن «الأنثويات» الخالدة في طبيعة المرأة دلالها ومغاضبتها وهي أشوق ما تكون إلى المصالحة وتقصير أمد المغاضبة.
ولا يعرف على التحقيق في أي سنة ولدت السيدة عائشة رضي الله عنها، ولكن أقرب الأقوال إلى الصدق وأحراها بالقبول أنها ولدت في السنة الحادية عشرة أو الثانية عشرة قبل الهجرة، فتكون قد بلغت الرابعة عشرة من عمرها أو قاربتها يوم بنى بها الرسول عليه السلام.
وكانت السيدة عائشة تشترك في خصومات المتخاصمين على الخلافة باختيارها، أو تساق إلى المشاركة فيها على كره منها، وكانت هي أول من يُسمع له إذا روت حديثًا يدمغ خصومها ويعزز أنصارها، ولكنها لم تنقل قط في كل ما ثبتت نسبته إليها حديثًا واحدًا تمسه الشبهات من قريب أو بعيد ولا تؤيده الأسانيد الأخرى، ولم تحرف كلمة واحدة إلى غير موقعها طواعية لإغراء تلك النوازع النفسية التي تطيش بالألسنة أو تضلل العقول، وهو امتحان ليس أعسر منه امتحان في هذا الباب، ولهذا كانوا يروون عنها الأحاديث فيقولون: حدثتنا الصديقة بنت الصديق!
قد روت للنبي — عليه السلام — أكثر من ألفي حديث في مختلف المسائل التي تدخل فيها الأحكام الشرعية، والعظات الخلقية، والآداب النفسية، والأصول التي يرجع إليها في الدين والعبادة.
كانت خديجة أمًّا ترعاه. ثم كانت عائشة طفلة تنعم بتدليله. وكانت خديجة تسعده بالعقل والحنكة. ثم كانت عائشة تسعده بالطرافة والجمال.
والأرجح عندنا أن السيدة عائشة كانت لا تقل عند زفافها إلى النبي — عليه السلام — عن الثانية عشرة، ولا تتجاوز الخامسة عشرة بكثير.
فقد جاء في بعض المواضع من طبقات ابن سعد أنها خطبت وهي في التاسعة أو السابعة، ولم يتم الزفاف كما هو معلوم إلا بعد فترة بلغت خمس سنوات في أشهر الأقوال.
نرجح أنها كانت بين الثانية عشرة والخامسة عشرة يوم زفت إليه، وأنها هي — رضي الله عنها — كانت تسمع تقديرات سنها ممن كان حولها؛ لأنها لم تقرأها بداهة في وثيقة مكتوبة، فكان يعجبها — على سُنَّة الأنوثة الخالدة — أن تأخذ بأصغرها، وكانت هي كثيرًا ما تدل بالصغر بين أترابها فلا تنسى إذا اقتضى الحديث ذلك أن تقول: وكنت يومئذ جارية حديثة السن، أو كنت يومئذ صغيرة لا أحفظ شيئًا من القرآن، إلى أشباه ذلك من أحاديثها في هذا المعنى.
وقد علمنا من حديث الإفك أنها إذا فوجئت بخبر محزن أو مغضب تصاب بحمى نافض كما يصاب الذين تعاودهم حمى البرداء في هذه الحالات. والأطباء الذين سألتهم عن هذه الحمى التي تسقط الشعر وتتجدد لها معاودة تنهك الجسم رجَّحوا أنها البرداء (الملاريا) أو التيفويد، والأولى أرجح؛
فكل ما روي لنا من تغاير زوجات النبي إن ذكرنا أنهن نساء من طينة الأنوثة الخالدة فلن ينسينا أنهن نساء نبي يتأدبن بأدبه، ولا يجاوزن بالغيرة ما يجمل بهن في كنفه ورعايته، وإن تسع أخوات شقيقات من أب واحد وأم واحدة ليقع بينهن من شحناء الغيرة إذا اجتمعن في بيت أسرتهن أضعاف ما روي لنا من غيرة زوجات النبي في عشرتهن الطويلة.
ومن الصدق للتاريخ وللطبع الإنساني أن نلاحظ هذه الأمور؛ لأن الطبع الإنساني لن يدع حقوقه على أبنائه، ولن يكون الإنسان من لحم ودم إلا إذا كان فيه للحم والدم نوازعهما التي لا فكاك منها، وإن راضها أدب النبوة ونبل العشيرة، فثابت إلى أكرومة تجمل بالكرامة.
فغضب السيدة عائشة من نقص العطاء لم يكن غضب الحريص على مال والطامع في ادخار، ولكنه كان غضبًا عادلًا من غضاضة لا حاجة إليها ولا حكمة فيها، ولا تستريح إليها النفس بتعليل مقبول.
إن فهم مأساة الجمل هي وسيلتنا إلى فهم السيدة عائشة؛ لأننا نعرف مصادرها ومواردها ومبلغ الأخطار المنظورة من ورائها عند الهجوم عليها، فنعرف النية التي جنحت بالسيدة عائشة إلى الدخول فيها، وهي كل ما يعنينا من تاريخ تلك المأساة في هذا السياق. والذي يبدو لنا من تلك الحوادث التي لخصناها فيما تقدم أن مأساة الجمل لم تكن عند السيدة عائشة إلا دفعة من دفعات الحدة التي طبعت عليها، قدحتها المفاجأة وأوقدتها كثرة المغريات بعداوة عليٍّ في بيئة لم يرتفع فيها صوت لغير أعدائه، ومهدت لها حوادث الماضي تمهيدها الذي رسم لها الوجهة، واندفع بها عن هذه الخطة دون غيرها.
فطلحة من بني عمومتها، ومن بني تيم قبيلتها وقبيلة الخليفة الأول أبيها. والزبير زوج أختها أسماء، وابنه عبد الله ابنها الذي اختارته لكنيتها في بعض الروايات، فكانت تكنى من أجله بأم عبد الله. وعليٌّ أقرب الناس إلى بيت النبي وزوج ابنته وأبو حفيديه، وصاحب الرأي الذي لا ينسى في حديث الإفك، وهو نصيحته للنبيِّ بتطليقها. ومن الحق أن نقول إن الشعور الذي تُكِنُّه السيدة عائشة لعلي من جراء هذه النصيحة شعور طبيعي لا غرابة فيه.
كانت السيدة عائشة أَمْيَلَ إلى طريق طلحة والزبير بشعورها وسابقة رجائها، فليس ذلك — كما أسلفنا — بغريب ولا مخالف للمعهود في طبائع الناس.
على أننا لا نريد بما تقدم أن نسوِّغ موقف السيدة عائشة من وقعة الجمل وخصومات الخلافة، وإنما أردنا تفسير شعورها على الوجه الذي لا غرابة فيه، ولم نرد تسويغه في نظر العقل ولا في نظر التاريخ.
فعليٌّ قد أخطأه التوفيق في نصيحته، وعائشة قد أخطأها التوفيق في مكافحته من أجل هذه النصيحة، وإن كانت لا تُلام عل...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ولكنها على ذكائها وعلمها، وعلى أنها في بيت الرئاسة نشأت وفي بيت الرئاسة عاشت، وأنها تعودت أن يُؤبَه لها وتُسمَع كلمتها، قد تحولت بها طوارئ العصر إلى السياسة العامة، فكانت فيها طوعًا لأواصر البيت ودواعي المودة والنفور التي توحيها، ولم تكن مثلًا يُقتَدى به في توجيه الأمور العامة كما كانت مثلًا للنساء كافة وهي ربة بيتها وشريكة زوجها.
والمرأة تخالف الرجل في أعمالها وتكاليفها منذ القدم في جميع الشعوب، ومن قال إن هذه المخالفة من فعل الرجال وسيطرتهم وليست من فعل الطبيعة وسيطرتها فقد قال إنها من فعل الطبيعة وليست من فعل الرجال.
سنة الفطرة لا ترمي إلى توحيد العمل، بل إلى توزيعه وتنويعه، ولا تجعل جنسين ليشتركا في حقوق واحدة وواجبات واحدة، بل تجعلهما جنسين ليختلفا في الحقوق كاختلافهما في الواجبات.
واعتقادنا نحن أن المثل الأعلى للزواج هو الزواج بين رجل وامرأة يتحابان ويمتزجان بالجسم والروح ولا يفترقان مدى الحياة. ولكننا نعتقد مثل هذا الاعتقاد أن المثل الأعلى لم يُخلَق قَطُّ لتفرضه القوانين على جميع الناس. إنما المثل الأعلى هو الحالة النادرة التي تتيسر كلما تيسر الكمال أو تيسرت مقاربة الكمال. وليست هذه بالحالة التي تفرضها القوانين على كل رجل وكل امرأة من جميع مراتب التفكير والتهذيب.
والإسلام لم يقل إن تعدد الزوجات هو المثل الأعلى، ولم يفرضه على كل مسلم، ولم يحمده من كل مسلم، ولم يُخلِهِ من شرطٍ عسيرٍ، هو العدل في المعاملة وإن تعذر العدل في المحبة، ولم يفعل إلا أنه وضع التشريع في موضعه الذي يحسب فيه حساب المثل النادر والمثل الشائع، ولم تأت بعده شريعة حلت هذه المشكلة بغير الهرب منها أو المغالطة فيها، كما هو الواقع الملموس في الأمم التي تحظر تعدد الزوجات ولا تحظر المعيشة مع الخليلات، أو معاملة النساء كمعاملة العجماوات.
تصدق الأديان؛ لأنها تنطق بلسان الفطرة السليمة، وتكذب المذاهب التي تحسب أن ضوابط الجنس في المرأة والرجل من اعتساف الأديان؛ لأن الإباحة التي تنادي بها هذه المذاهب تدل على جهل بالفطرة، وهي تنادي نداءها باسم العلم والمعرفة الحديثة، وهنا فلنحسب للقدم مزيته الأولى؛ إذ هو قدم الفطرة الباقية، وهي أسبق إلى المعرفة الصادقة من كل حديث.

