More on this book
Kindle Notes & Highlights
وقد نذكر الحوادث توسعًا في التعبير، فإن الحوادث لا تعنينا لذاتها إن لم يكن معناها تقويمًا لأعمال وقيامًا بأعمال، أو لم يكن معناها في صيغة أخرى تعريفًا بأقدار الناس مما عملوه واستطاعوه
وقد هان عرض إنسان واحد يشتريه المال أو الغرض في حياته، فماذا يقال في عرض الإنسانية الذي يشترى في الحياة وبعد الممات، ويزيف فيه الواقع للعيان، ثم يلازمه الزيف بعد ذلك مدى الأجيال على صفحات التاريخ!
فمن الناس من يحب أن تتغلب المنفعة على الفضيلة أو على الحقيقة، وإن لم يكن هو صاحب المنفعة، ولا حاضرًا لها عند انتفاع المنتفع بها. من الناس من يحب ذلك؛ لأنه يرجع إلى طبيعته، فيشعر بحقارتها إذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة، والحقائق الصريحة. ومنهم من يحب الناجحين بالمنافع؛ لأنه يتمنى أن ينجح على مثالهم، ولا ينكر النجاح إذا جاءه بوسيلة كوسيلتهم.
إن الطبيعة النهازة لا تريد هنا أن تحكم، وأن تنصف بين خصمين. إنها تريد أن تعذر نفسها لتقول: إن ذلك المثالي ناقص، وإن هذا النفعي يجري على العرف الشائع بين جميع الناس؛ ولهذا يتناول النهاز الميزان وهو يتعمد أن يزيد في ناحية من السيئات ويحط من الحسنات، ويتعمد في الناحية الأخرى أن يقلب الكفة، فيزيد على الحسنات ويحط من السيئات
وإذا لم يرجح من أخبار هذه الفترة إلا الخبر الراجح عن لعن «عليٍّ» على المنابر بأمر معاوية لكان فيه الكفاية؛ لإثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان.
ويبقى عمل النهازين المطبوعين بعد عمل النهازين المأجورين، فإنهم قد تطوعوا في ذلك العصر، وفي العصور التالية؛ لترجيح كفة النجاح المنتفع على كفة المثالية العالية، ولم يخفَ الأمر على أبناء ذلك العصر كما نشرحه الآن بأساليب علم النفس في الزمن الأخير، فإن الأقدمين لم تفتهم «النفس» بجوهرها، وإن فاتتهم مصطلحات النفسانيين من أبناء القرن العشرين، وقد نفذوا إلى بواطنهم بالنظرة الثاقبة؛ لأنهم أصحاب نفوس تعلم ما تنطوي عليه النفوس.
جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الإمام ابن حنبل أنه سأل أباه عن علي ومعاوية، فقال: «اعلم أن عليًّا كان كثير الأعداء، ففتش له أعداؤه عيبًا فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله، فأطروه كيادًا٦ منهم له.»
فكثير من الثناء لا يصدر عن حب للمثني عليه كما يصدر عن حقد على غيره، وكثير من هذا الحقد تبعثه الفضائل ولا تبعثه العيوب
وما كان أحد ليطمع في بقاء عصر الخلافة على سنة الصديق والفاروق أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ لأن اطراد النسق من ولاة الأمر على هذه الطبقة العليا من الخلق والتقوى أمر تنوء به طاقة بني الإنسان.
زبدة الصفحات التالية أن رأس الدولة الأموية كان رجلًا قديرًا، ولكنه لم يكن بالرجل العظيم.
فكل عظيم قدير … ولكن ليس كل قدير بالعظيم … والعظمة قدرة وزيادة …
إلا أننا — مع العلم بغيرته الدينية في شعوره وفعاله — نستطيع أن نعلل جميع أعماله بعلة المصلحة «الذاتية» أو مصلحة الأسرة والعشيرة.
وكان النبي — صلوات الله عليه — يتحرى في اختيار الولاة أن يندبهم للولاية حيث يتيسر لهم العمل بموافقة الرعية، فاختار عمرو بن سعيد بن العاص واليًا لتيماء وخيبر وتبوك وفدك، وكلها على طريق التجارة الأموية، وسار أبو بكر على هذه السُّنَّة، فاختار يزيد بن أبي سفيان قائدًا لجيش من جيوش الحملة على الشام، وولاه بعض أقاليمها بقية حياته، وكانت وفاته في عهد الفاروق، فجرى على هذه السنة وعهد بالولاية إلى أخيه معاوية حيث بقي إلى ما بعد خلافة الفاروق، وكان يعمل برئاسة أخيه قبل موته ويحمل اللواء بين يديه.
كان الناس مع علي ينظرون إلى سنة النبي، وسنة الصديق، والفاروق من بعده، وكان الناس مع معاوية ينظرون إلى هرقل وكسرى، ولا يسومونه٢ أن يحكم كما حكم النبي، أو كما حكم من بعده الخليفتان الأولان
وقد كانت العصبية العربية قوة للدولة الأموية في نشأتها، وكان اختلاط الموالي ضعفًا للدولة القائمة في الجزيرة؛ لأنهم أشتات متفرقون لم يكن منهم أحد يقبض على زمام من أزمَّتها
وتتلخص قدرة معاوية في خلائق مشهورة مترادفة، أشهرها: الدهاء والحلم وعلو الهمة أو الطموح.
فالدهاء عندهم كان مزية، وضرورة، وعزاء، وغطاء للخوف والجبن، ودعوى سهلة لمن يدَّعيها بغير برهان … أما الشجاعة فبرهانها حاضر لا سبيل للمغالطة فيه
فكل حيلة «غير صريحة» فهي دهاء على سواء
وحد الحلم عنده ألا يكون في العدوان والتطاول مساس بملكه وسلطانه، أغلظ له رجل فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: «إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.»
ودعواه فيها أنه هو صاحب الرأي والحلم والحزم، وأن عليًّا صاحب الشجاعة والصلاح، وقد شاعت الموازنة بينهما بهذا المعنى على ألسنة الدعاة من حزب معاوية، وكاد أن يقبلها الناقدون لعلي من حزبه لاشتداده في الحق الذي لا مثنوية فيه، وأمسك معاوية على كل لجاجة في أمر التقوى والصلاح؛ ليقول كلما نافس عليًّا وابنه الحسن: إن لم أكن خيركم فأنا خيركم لدنياكم.
وتكاد القصص مع بني هاشم في مجلس معاوية تجري كلها على وتيرة واحدة: رجل من آل البيت يدعى إلى المجلس، أو يأتي إليه في أمر من أموره، فيغرى به جليس من الحاشية يتحرش به ويستثيره فيجاب بما هو أهله، ويتغاضب معاوية على الجليس فيلومه إذا بلغ الجدال والمحال١٨ فصل المقال، وما نرى أن الملهاة كلها كانت مدبرة؛ لكي تنتهي إلى خاتمة أخطر من هذه الخاتمة، وماذا عليهم إذا استطال الموتورون بالمقال وهم يستطيلون بالسلطان؟
ثم حذر ابنه قائلًا: ليس يجب القتل في هذا ولكننا نكفه بالصلة
ولا بد من التفرقة هنا بين الحلم إيثارًا للنفع القومي، وبين الحلم إيثارًا للسلامة وعملًا بطبيعة «الأنانية» وحب الذات.
«إن أبا بكر سلم من الدنيا وسلمت منه، وعمر عالجها وعالجته، وعثمان نال منها ونالت منه، أما أنا فقد تضجعتها ظهرًا لبطن وانقطعت إليها فانقطعت لي …»
وليس من أخبار بني أمية في الجاهلية وصدر الإسلام خبر واحد ينفي عنهم هذه الخليقة الغالبة عليهم جميعًا من الأثرة، والكلف بالمناعم الدنيوية، وتقديمها على غيرها من مناقب الإيثار والمثل العليا. وبهذه الخليقة يُفسَّر كل عمل من أعمال معاوية
عمل معاوية لنفسه في كل مطلب طلبه من عثمان، وكل نصيحة أسداها إليه، وكل مشورة أشار بها عليه، فليس في هذه المطالب والنصائح أو المشورات شيء قط تجرد من منفعة ينظر إليها معاوية في حاضره أو مصيره،
لم يتغير موقف معاوية في جميع هذه الروايات، وهو موقف الرجل الذي لا يبالي بعد أمانه على ولايته أن تنجم الفتنة حيث نجمت، وأن يبتلى بها الخليفة بنجوة منه.
فإذا كان معاوية قد طلب ولاية الدم بعد مقتل عثمان؛ فقد طلب ولاية العهد وفارقه وهو يعلم أنه مقتول.
وكل ما فعله معاوية من نصرة عثمان قبل مقتله وبعده، فهو ثابت النفع لمعاوية غير ثابت النفع لعثمان،
«إن السلطان يغضب غضب الصبي، ويبطش بطش الأسد.»
«لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، أرخيها إذا شدوها، وأشدها إذا أرخوها.»
إنما شيبني حذر الخطأ في الجواب.
ومعاوية بعد إسلامه لم تثبت عليه كلمة ولا فعلة تنقض تصديقه بدينه ورعايته لفروضه وشعائره: كان يصلي ويصوم، ويزكي ويحج، ويقرأ القرآن ويستمع إليه، وكانت كل لفظة فاه بها وأحصيت عليه في مرض الوفاة تدل على الإيمان بلقاء الله، وعلى الإيمان بالجزاء في العالم الآخر،
واختلاف طبائع الناس في الدين على غير وعي منهم لا معنى له إلا أنهم يتدينون على حسب طبائعهم، وليس معناه أنهم يناقضون الدين ولا ينطوون في بواطنهم عليه.
إن معاوية لم يضيع عملًا حاضرًا في سبيل متعة حاضرة، ولكنه أوشك أن يضيع الغد كله في سبيل اليوم الذي يشهده، أو في سبيل العمر الذي يحياه.
فلما بنى قصر الخضراء بلغ من إعجابه بالبناء أن سأل أبا ذرٍّ داعية الزهد والكفاف من الرزق: كيف ترى هذا؟ فسمع منه جوابًا كان خليقًا أن يترقبه لو لم يكن لزهوه بما ابتناه لا يصدق أن أحدًا يراه بغير ما رآه، قال أبو ذر إمام «الاشتراكيين» في ذلك الزمان: «إن كنت بنيته من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كنت بنيته من مالك فأنت من المسرفين …»
… لقد تمهدت لمعاوية أسباب لم تتمهد في عصره لأحد غيره من قبل الإسلام، وفي صدر الإسلام، إلى أيام عثمان.