More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
إننا نقرأ كي نفهم، أو من أجل التوصل إلى الفهم. إننا لا نستطيع فعل أي أمر مغاير: القراءة مثل التنفس؛ إنها وظيفة حياتية أساسية.
Moayed hossami and 1 other person liked this
استقيتُ تجاربي الأولى من الكتب. عندما كنتُ مثلاً أواجه حدثاً ما، أو أرى مشهداً من المشاهد، أو أتعرف على شخص معيّن، فإن جميع تلك الأشياء كانت تذكّرني بأمر كنتُ قد قرأت عنه، مما كان يُولّد عندي على الفور الإحساس بأنني كنت أعرف كل ذلك نظراً لأنني كنتُ أرى أنّ الحدث الحاضر ـ كالشيء المقروء ـ كان قد صادفني مرة من المرات وبأن إشارة معينة كانت قد أتت على ذكره في موضع ما.
في إحدى المناسبات أخبرني كاتب المقالات الكندي ستان برسكي: «يجب على القراء أن يكون لهم مليون سيرة ذاتية»، ذلك أننا نجد في كل صفحة من صفحات كتاب نطالعه آثار حياتنا الذاتية. «إنّ كتابة الانطباعات عن هاملت عند قراءته عاماً بعد عام»، كتبت فرجينيا وولف، «يشبه كتابة القارئ سيرته الذاتية، ذلك أنه عندما تتزايد معرفتنا بالحياة باطّراد، يقوم شكسبير بتزويدنا بالتعليق اللازم على معرفتنا»6.
فمَن يستحوذ على كتاب يواجه تاريخ الكتاب وآثار صاحبه السابق، أي أنّ كل قارئ جديد يتأثر بالتصورات عمّا كان الكتاب يعنيه لصاحبه السابق أو لأصحابه السابقين.
وكان القديس توما الأكويني يقول عن البصر «إنه أهم الحواس التي نستطيع الحصول عَبْرها على المعرفة»42.
ويعود تصورنا إلى أننا قادرون على القراءة حتى قبل أن نتعلمها ـ لا بل قبل أن نرى في حياتنا صفحة مكتوبة ـ إلى مصطلح أفلاطوني عن المعرفة الموجودة في داخلنا قبل أن تتأكد بواسطة المدارك الحسية الخارجية. وكما يبدو فإن تطور الكلام يحدث وفق الوتيرة نفسها. إننا «نكتشف» كلمة ما نظراً لأنّ الموضوع أو التصوّر الذي تريد هذه الكلمة التعبير عنهما موجودان في الوعي وكيف أنهما «ينتظران الحصول على كلمة تُشير إليهما»60
«من أجل فهم نص ما»، كتب الدكتور مرلين سي. وتروك في الثمانينيات: «إننا لا نقرأه بالمعنى الحرفي للكلمات، بل إننا نقوم بإنشاء معنى له».
وفي أحد أيام شهر آب/أغسطس من عام 386، قرأ أوغسطينُس وصديقه رسائل بولص الرسول بالطريقة نفسها التي نقرأها اليوم: الأول بصمت من أجل التعلّم، والآخر بصوت مرتفع من أجل إشراك الصديق في ما كانت النصوص توحي به.
وحتى العصور الوسطى المتأخرة كان الكتّاب يفترضون أن قراءهم يهتمون في المقام الأول بالاستماع إلى النصوص أكثر من رؤيتها، نظراً لأنهم أنفسهم كانوا ينطقون كلماتهم بصوت مسموع خلال كتابتها. ونتيجة قلّة عدد الذين كانوا يحسنون القراءة، فإنّ القراءات العامة كانت أمراً شائعاً في ذلك الحين. لهذا السبب كانت نصوص العصور الوسطى ترجو الجمهور «الإنصات» إلى حكاية أو قصة. وهكذا فإنّ أصداء سلفية ما زالت موجودة حتى اليوم فيما نقوله من عبارات، مثل: «سمعت من فلان أو علاّن» (الذي يمكن أن يعني: إني استلمت رسالة)، أو: «فلان وعلاّن قال» (أي «فلان وعلاّن» كتب رسالة)، أو: «إن هذا النص غير جيد على السمع» (أي: «إنه غير
...more
في الواقع إنّ شيئاً ما في إيقاع صوت القديس أوغسطينُس يبعث إلى الخصوصية اللطيفة الملائمة جداً لجعل الإنسان يتقاسم أسراره مع الآخرين.
كانت الحوارات القديمة تتناول، في المقام الأول، طبيعة الحب، إلاّ أنّ المناقشات كانت تبتعد عن الموضوع وتستقر في نهاية الأمر في صنعة الكتاب. قصّ سقراط على فيدروس الرواية التالية: في أحد الأيام زار الإله المصري ثوث، مخترع النرد والشطرنج والأرقام وعلم الهندسة وعلم الفلك والكتابة، الملك المصري وقدّم له هذه الاختراعات كي يقدمها بدوره إلى أبناء الشعب. قام الملك بمناقشة منافع ومضار كل واحدة من هذه العطايا الإلهية، إلى أن وصل ثوث في نهاية المطاف إلى الكتابة: «إنّ هذا»، قال ثوث، «فرع من التعلّم سيحسّن ذاكرة شعبك؛ إنّ اختراعي وصفة تخدم الذاكرة والحكمة». إلاّ أن الملك لم يتأثر بهذا على الإطلاق. «عندما يحصل
...more
أما أنا، القارئ الحالي، فأخزّن ملاحظاتي عن القراءة في ذاكرة الحاسوب الموجود بحوزتي. وكما كان عالم عصر النهضة يجول في رحاب صروح الذاكرة للتوصل إلى نص أو اسم، أدخل أنا كالمكفوف داخل المتاهات الإلكترونية الموجودة داخل الحاسوب. بمعونة هذه الذاكرة أستطيع أن أتذكّر بصورة أدق (إذا ما كانت الدقة مطلوبة) وأشمل (إذا ما بدت النوعية ضرورية) مما كان يستطيعه أسلافي العظماء. أما نظام ملاحظاتي والنتائج المستخلصة منه فيجب أن أعده بنفسي. علاوة على ذلك، فأنا أخشى باستمرار فقدان ذكرى مخزونة ـ الخوف الذي كان يبدأ عند أسلافي فقط عند تقدمهم في السنّ
إنّ ما كان يجول في خاطر أوغسطينُس (حسب تصورات بتراركه) هو نوع جديد من القراءة: عدم استخدام الكتاب كدعامة للأفكار، وعدم الثقة به دون قيد أو شرط كما يثق المرء بكلمات رجل حكيم. عليك أن تستخلص منه أفكاراً وجملاً وصوراً ومقارنتها مع ثمار قراءات أخرى، وربط جميع هذه الأمور مع تصوراتك الذاتية، وبالتالي تحقيق نص من إعدادك. في مقدمة كتاب عن
تنحصر في نظرهم في الاقتراب من النص من الخارج، كالمراقب.
هذا النور، من أجل استعمال كلمات بتراركه، يحلّ علينا جميعاً بصور متباينة خلال مختلف مراحل أعمارنا. نحن لا نعود أبداً إلى الكتاب نفسه، ولا إلى المقطع نفسه، نظراً لأننا في ظلّ النور المختلف نتغيّر، والكتاب يتغيّر، وتتنور ذاكرتنا ثم تخبو ثم تتنور من جديد، ولا نعرف أبداً ما هو الذي نتعلمه وننساه، وما هو الذي نتذكره. الشيء المؤكّد هو أننا في القراءة نستدعي أصوات الماضي ونحافظ عليها أحياناً إلى المستقبل حيث تستطيع أن تتحدث إلينا ربما بطريقة جريئة غير متوقعة أبداً.
بهذه الصورة يقدّم ويتمان نفسه إلى قرائه. ويتمان مضاعف إن توخينا الدقة: ويتمان أوراق العشب، و«ولت ويتمان، الكون، ابن مانهاتن»، لكن المولود أيضاً في كل الأماكن الأخرى. («أنا من آدلايد... أنا من مدريد... أنا أنتمي إلى موسكو»346)، وويتمان المولود في لونغ آيلاند الذي كان يقرأ روايات المغامرات، والذي كان عشاقه من شباب المدينة، والجنود، وسائقي الحافلات.
تتحدث الكتب عن طهو قصة، وإعادة تسخين حكاية قديمة، وقلي أفكار نصف ناضجة، وتتبيل مشهد، وجعل موضوع صعب لذيذ الطعم والمذاق، وصنع شعر من مقومات طيبة قابلة للشرب، ووضع فلفل التفسيرات على مقطع من الحياة كي يعض القارئ عليه بنهم. هكذا نتحدث نحن القراء أيضاً عن كتاب نتشممه ونحب الغذاء الموجود فيه، والتهام كتاب في جلسة واحدة، واجترار نص أو تقيؤه... في مقال عن فن الدراسة يلخص علامة عصر النهضة الإنكليزي فرانسيس بيكون هذه العملية بالكلمات المختصرة التالية: «بعض الكتب يجب التلذذ بها، وغيرها يجب أن تُلتهم، وأخرى تمضغ جيداً وتهضم»371.
«مَنْ يستطع أن يقرأ ير ضعف ما يراه الآخرون»، كتب الشاعر الأتيكي مناندر في القرن الرابع ق.م396.
كانت الأعمال تُجمع بأعداد كبيرة لأنّ المكتبة كانت تحمل شعار «احتواء مجموع المعارف البشرية». بالنسبة إلى أرسطو مثلاً، كان تجميع الكتب إلزاماً للعلماء «مثل أهمية جمع الملاحظات بالنسبة إلى الذاكرة». لذا فإن تأسيس المكتبة على يد تلميذه لم يكن إلاّ رؤية إضافية لهذه القناعة: ما أرادوا تحقيقه كان المحافظة على ذاكرة العالم.
بدأ الإقبال العربي على أرسطو بحلم. في القرن التاسع رأى الخليفة العباسي المأمون، ابن الخليفة الأسطوري هارون الرشيد، في الحلم رجلاً شاحب الوجه أزرق العينين ذا جبهة عريضة وحاجبين متصلين ومتربعاً في هيئة ملكية على عرش. عرف الخليفة، بيقين الحالم، أن الأمر كان يتعلق بأرسطو. كانت نتيجة الحديث الغريب الذي دار بينهما، صدور الأوامر إلى علماء أكاديمية بغداد بتكريس أنفسهم فوراً لترجمة كتب الفيلسوف الإغريقي419.
أو هذا التحذير المعلق في مكتبة دير سان بدرو في برشلونة: مَن يسرق كتباً، أو يحتفظ بكتب كان قد استعارها، عسى أن يتحول الكتاب الموجود في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يُصاب بشلل ارتجافي قاهر وأن تُشل جميع أطرافه، عسى أن يصرخ عالياً طالباً الرحمة وعسى ألاّ تنقطع آلامه إلى أن يتحوّل إلى رمّة متفسخة، وأن تعشّش الديدان في أحشائه مثل دود الموتى الذي لا يفنى. وعندما يمثل أمام يوم الدين لتلتهمْه نار جهنم إلى الأبد553.
ذكر بلينيوس سلسلة من الأسباب التي جعلته يرى في المحاضرات والقراءات العامة تمريناً جالباً للمنفعة. إن الاحتفاء بالشخص عامل مهم دون شك، إضافة إلى التمتع بالاستماع إلى إيقاع الصوت الذاتي.
على القارئ (في هذا الحال أنا القارئ الجالس في المقهى وأمامي على الطاولة ديوانا شعر ريلكه ولابيه بالألمانية والفرنسية) أن يتعمق في فهم الكلمات بصورة عاطفية حميمة، ودون اللجوء إلى أي تفسيرات لغوية، بل النظر إليها كتجربة عارمة، مهيمنة، مباشرة، دون كلمات التي تُعيد من جديد خلق العالم وتعريفه عَبْر صفحات ديوان الشعر وأبعد من ذلك ـ أو ما سمّاه نيتشه «حركة الأسلوب» عَبْر النص. قد تكون الترجمة من الأمور المستحيلة؛ قد تكون تضليلاً وخداعاً، تزويراً واختراعاً، أكذوبة بيضاء. إلاّ أنّ من يشارك في حركة الأسلوب وينقلها من لغة إلى لغة أخرى يصبح أذكى، يتحوّل إلى قارئ أفضل: أقل اعتداداً بنفسه، لكن أكثر رهافة في
...more