More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
إن فلسطين، على كل حال، ليست مكانًا عاديًّا، إنها متوغّلة بعمق في كل التواريخ المعروفة وفي تراث الديانات التوحيدية،
«الاحتلال»، يقول البرغوثي: «خلق أجيالًا عليها أن تحب حبيبًا مجهولًا، نائيًا، عسيرًا، محاطًا بالحرّاس وبالأسوار وبالرؤوس النووية وبالرعب الأملس»!
الغربةُ كالموت، المرءُ يشعر أن الموت هو الشيء الذي يحدث للآخرين،
ـ هذه هي «الأرض المحتلة» يا «أبو نزار» إنني أستطيع أن أمسكها باليد! عندما تسمع في الإذاعات وتقرأ في الجرائد والمجلات والكتب والخُطب كلمة «الأرض المحتلة» سنة بعد سنة، ومهرجانًا بعد مهرجان، ومؤتمر قمة بعد مؤتمر قمة، تحسبها وهمًا في آخر الدنيا! تظن أن لا سبيل للوصول إليها بأي شكل من الأشكال.
أنا أسير نحو أرض القصيدة: زائرًا؟ عائدًا؟ لاجئًا؟ مواطنًا؟ ضيفًا؟ لا أدري!
لماذا يظن كل شخص في هذا العالم أن وضعه بالذات هو وضعٌ «مختلف»؟! هل يريد ابن آدم أن يتميز عن سواه من بني آدم حتى في الخسران؟
المرة السابقة لم يكن أحدٌ يجادلني في حقي في رام الله، الآن أتساءل عن دوري في حفظ حقه في رؤيتها، وهل سأخرجه من سجلات اللاجئين والنازحين وهو لم يلجأ ولم ينزح وكل ما فعله أنه ولد في الغربة؟
بندقيته هي التي أخذت منا أرض القصيدة وتركت لنا قصيدة الأرض. في قبضته تراب، وفي قبضتنا سراب.
غرفة حراسة عادية، الحارس فيها يحرس وطننا. مِنّا!
فلسطين في هذه اللحظة ليست الخريطة الذهبية المعلقة بسلسال ذهبي يزيّن أعناق النساء في المنافي. كنت أتساءل كلما رأيت الخريطة تحيط بأعناقهن عما إذا كانت المواطنة الكندية أو النرويجية أو الصينية تعلق خريطة بلدها على نحرها كما تفعل نساؤنا!
إنها إسرائيل الفكرة والإيديولوجيا والجغرافيا والحيلة والذريعة.. إنها المكان الذي لنا وقد جعلوهُ لهم.. المستوطنات هي كتابهُم. شكلهم الأول. هي الميعاد اليهودي على هذه الأرض.. هي غيابنا. المستوطنات هي التيه الفلسطيني ذاته.
ربيعُها المُعانِد، لا يريد أن يُسْلِمَ نفسهُ لصيفها المتردد الخجول في الموعد المألوف.
وإذا كان الأحياء يشيخون فإن الشهداءَ يزدادون شبابًا.
موتانا ما زالوا في مقابر الآخرين، وأحياؤنا ما زالوا عالقين على حدود الآخرين.
غربة غيابه عنهم، وغربة غيابهم عن هنا.
الاحتلال يمنعك من تدبر أمورك على طريقتك. إنه يتدخل في الحياة كلها وفي الموت كله. يتدخل في السهر والشوق والغضب والشهوة والمشي في الطرقات. يتدخل في الذهاب إلى الأماكن ويتدخل في العودة منها،
زيت الزيتون بالنسبة للفلسطيني هو هدية المسافر. اطمئنان العروس. مكافأة الخريف. ثروة العائلة عبر القرون. زهو الفلاحات في مساء السنة. وغرور الجِرار.
خلق في الوقت نفسه أجيالا من «الفلسطينين الغرباء عن فلسطين» ولدتْ في المنفى ولا تعرف من وطنها إلا قصته وأخباره، أجيالًا بوسعها أن تعرف كل زُقاقٍ من أزقة المنافي البعيدة وتجهل بلادها، أجيالًا لم تزرع ولم تصنع، ولم ترتكب أخطاءها الآدمية البسيطة، في بلادها، أجيالًا لم تر جدّاتِنَا يجلسن القرفصاء أمام الطوابين ليقدمن لنا رغيفًا نغمِّسهُ بزيت الزيتون،
الاحتلال خلق أجيالًا بلا مكان تتذكر ألوانه ورائحته وأصواته، بلا مكانٍ أوّلٍ خاص بها،
الاحتلال الطويل خلق منا أجيالًا عليها أن تحب الحبيب المجهول. النائي. العسير.
الاحتلال الطويل استطاع أن يحولنا من أبناء «فلسطين» إلى أبناء «فكرة فلسطين».
كنت دائما من المقتنعين بأن من مصلحة الاحتلال، أي احتلال أن يتحول الوطن في ذاكرة سكانه الأصليين إلى باقة من «الرموز»، إلى مجرد رموز.
إنه لم يسلبنا طوابين الأمس الواضحة بل حرمنا من الغموض الجميل الذي سنحققه في الغد.
أنا أعيش في بقع من الوقت بعضها فقدته وبعضها أملكه لبرهة ثم أفقده لأنني دائما بلا مكان.
ـ أيوه احنا هيك. الولد عندنا له مئة أم، مش مثل أولادكم كل ولد له مئة أب!
ظاهرة المرأة الفلسطينية في الانتفاضة تستحق التمجيد بلا تردد، لكن قصتها الكاملة لم تُكتب بعد.
تفاصيل حياة كل من نحب وتقلب حظوظهم من هذه الدنيا كانت كلها تبدأ برنين الهاتف. رنة للفرح.. رنة للحزن.. ورنة للشوق. حتى المشاجرات والعتب واللوم والاعتذار بين الفلسطينيين يفتتحها رنين الهاتف الذي لم نعشق رنينًا مثله أبدًا ولم يرعبنا رنين مثله أبدًا..
الغربة لا تكون واحدة، إنها دائما غُربات.
ولا نريد استرداد الماضي بل استرداد المستقبل،
ركضوا بكل ما لديهم إلى الأمام واتخذوا كل التدابير اللازمة ليطمئنوا أننا نظل نركض إلى الخلف.
ورغم ذلك كله فلم أكن ذات يوم مغرمًا بالجدال النظري حول من له الحق في فلسطين. فنحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق. لقد خسرناها بالإكراه وبالقوة.
وإذا كان موتى الغربة وموتى السلاح وموتى الاشتياق وموتى الموت البسيط شهداء، ولو كانت الأشعار صادقة وكان كل شهيد وردة، فيمكن لنا أن ندعي أننا صنعنا من العالم حديقة.
أيّ عيد زواج بعد اليوم يا ناجي؟ وأي عيد ميلاد بعد اليوم يا غسان؟ ما الذي نذكر وما الذي ننسى!
أصيبتْ رزنامتُنا بالعطب وبتراكم الأوجاع طبقةً فوق طبقة، حتى أصبح الزمانُ الفلسطينيُّ نفسه أضغاثًا من النقائض،
كانت الجنازات جزءًا لا يتجزأ من حياة الفلسطنيين في كل تجمع بشري ضمهم في الوطن، أو في المنافي: في أيام هدوئهم، وفي أيام انتفاضاتهم، في أيام حروبهم، وفي أيام سلامهم المشوب بالمذابح.
رابين سلبنا كل شيء حتى روايتنا لموتنا!