More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
ما أكثر هذا المتاع على طالب الخلوة وما أمضاها في إفسادي. إذا سهرتُ لأشهد مطالع الأنوار الإلهية ضيّعت عليّ ذلك حشيّة الصوف بالنوم، وإذا لزمت الصمت لأسمع حفيف الأسرار القدسيّة قرقرت بطني فجعتُ وانشغلت، وإذا أشعلت مصباحي وأخرجت أوراقي وغمست دواتي في قنينة الحبر ووضعتها حيث توقفتُ ليلة البارحة انشقّ من حيث تتماس الدواة والورق شبّاكٌ تطلّ منه أرباض الأندلس وأزقة فاس وزوايا تونس وخوانق القاهرة وشعاب مكة وحوانيت بغداد وغوطة دمشق وبحيرات قونيّة... أي عزلة هذه!
Ali Shalwani liked this
كل ما أذكره أني تركت ”ملطية“ واتجهت شرقاً وعلى ظهري بساطٌ من وبرٍ حملتُ فيه كل متاعي. أمشي حتى أتعب، وآكل مما ألقى، وأنام حيث يطبق الليل. تيبّس باطنا قدمَيّ منذ اليوم الثالث من المشي وصار لونهما غريباً كأنهما ليسا من جسدي. وزادت لحيتي شعثاً وتشققت شفتاي حتى لا أفتحهما لأقضم لقمةً إلا سال منهما خيط دمٍ يسير. لم يبقَ في جسدي عضوٌ إلا أنَّ واشتكى وأنا على سيري لا أتوقف. تتلقفني الطريق بعد الطريق.
أعطاني الله برزخين: برزخٌ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني وفي الثاني رأيت ابني وهو يدفنني.
منذ أوجدني الله في مرسيّة حتى توفاني في دمشق وأنا في سفرٍ لا ينقطع. رأيت بلاداً ولقيت أناساً وصحبت أولياء وعشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريقٍ قدّره الله لي قبل خلقي.
وكعادة هؤلاء النساء كن يخلطن خبراً بخبر ويقسمن على صحته وثبوته. وأمي تصدقهن بلا أدنى ارتياب.
سلطان الشريف and 2 other people liked this
ولأني كنت طفلاً لا يعي آلام الفراق فقد احتفظت ذاكرتي بالموقف كما هو ثم تألمت منه لاحقاً بعدما كبرت. لأن آلام الأولياء مثل الديون لا تؤخذ من الأطفال ولا تسقط بالتقادم. فكنتُ أتذكّرها بعد سنواتٍ في درسٍ من الدروس وحولي تلاميذي، فأبكي بينهم فجأةً دون مقدمات،
يا ويل الوليّ الذي تأخر حتى مات وتده، يا ويل الشقيّ الذي لم يطهّر قلبه فجفاه وتده. تحول بكائي إلى شهقات والخياط لا يكفّ يضمني لئلا أنفصل عن جسده حتى هدأ صوتي وظلت دموعي تجري والدنيا تميد بي.
– ثم ألا تعلم أن المحبّ يفنى في محبوبه فيصبح لسانه لسانه وقلبه قلبه؟
”أنت أيها الإنسان. أنت المصباح والفتيلة والمشكاة والزجاجة“ ابن عربي