Kindle Notes & Highlights
وكل ذلك كان لا يشغلني عن التفاني للتلامذة في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وتعليمهم وغير ذلك، وكنت أباشر ذلك بنفسي حتى أُعلم التلميذ كيف يلبس وكيف يقرأ وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يُلقي الدرس وكيف يؤدب التلامذة، ولا يمضي يوم إلا وأدخل عند كل فرقة وأتفقد أحوالها مع التشديد على الضباط والخَدَمة حتى الفراشين في القيام بما عليهم كما ينبغي،
فلما حضرتُ المزادات رأيت الأشياء تُباع بأبخس الأثمان، ورأيت ما كان لمدرسة المهندسخانة من اللوازم والأشياء الثمينة العظيمة، وفي جملتها الكتب التي كنتُ طبعتها وغيرها تباع بتراب الفلوس؛ وكذا أشياء كثيرة من نحو آلات الحديد والنحاس والرصاص والعقارات والفضيات والمرايا والساعات والمفروشات وغير ذلك، وليتها كانت تُباع بالنقد الحال بل كانت الأثمان تؤجل بالآجال البعيدة، وبعضها بأوراق المرتبات، ونحو ذلك من أنواع التسهيل على المشتري، فكان التجار يربحون فيها أرباحًا جمة، فلبطالتي واستدانتي وكثرة مصرفي مالت نفسي للشراء من هذه الأشياء والدخول في التجارة، ففعلت، وعاملت التجار وعرفتهم وعرفوني وكثر مني الشراء
...more
وأعملت فكري فيما يحصل به نشر المعارف وحسن التربية، وكانت المكاتب الأهلية في المدن والأرياف جارية على العادة القديمة ليس فيها — على قلة أهلها — إلا تعليم القرآن الشريف، وأقل من القليل من يتممه منهم، ويجيد حفظه، ويجوِّده ويحسن قراءته، مع رداءة الخط في عامة المكاتب المذكورة، فاستحسنت إجراءها على نسق المدارس المنتظمة، فحررت لائحة بتنظيمها وترتيبها على الوجه الذي هي عليه، ودعوت إلى النظر في هذا الترتيب جماعة من أعلام العلماء والأعيان النبهاء فنظروا فيه، واستحسنوه ووضعوا خطوطهم عليه، وصدر الأمر الخديوي بالجري على مقتضاه، ورتب مفتشون لرعاية العمل بموجبه.
ثم لأجل تسهيل التعليم على المعلمين والمتعلمين وصون ما تعلموه عن الذهاب، جُعل بالمدارس مطبعة حروف، ومطبعة حجر، لطبع كل ما يلزم من الكتب، وأمشق الخط الرسم، وغير ذلك.
وحيث كان من أهم ما يلزم للمدارس الحصول على معلمين مستعدين للقيام بسائر وظائف التعليم، أمعنت النظر في هذا الأمر المهم، واستحدثت مدرسة دار العلوم بعد استصدار الأمر بها، وجعلتها خاصة لعدد كافٍ من الطلبة، يؤخذون من الجامع الأزهر،
وقد كان الخديوي إسماعيل يرغب في إنشاء كتبخانة عمومية تجمع الكتب المتفرقة في الجهات الأميرية، وجهات الأوقاف في المساجد ونحوها، وأمرني بالنظر في ذلك، فوصفت له المحل الذي أنشئ، فعين لمعاينته جماعة من الأمراء والعلماء، فاستحسنوه ووجدوه فوق المرام، فصدر الأمر بأن تُجمع فيه الكتب المتفرقة، فجُمعت من كل جهة، وجُعل لها ناظر وخَدَمَة، وخُصص لها مغير من علماء الأزهر لمباشرة الكتب العربية، وآخر لمباشرة الكتب التركية،
وكانت هيئة النظارة سائرة في الطريق الجادة ناشرة ألوية العدل والتسوية بين القويِّ والضعيف والرفيع والوضيع، فاستوجب ذلك إثارة الحقد في صدور أرباب الأغراض، فتقوَّلوا على هذه الهيئة، وطعنوا فيها، واختلط كثير منهم بضباط العسكرية، فأوغروا صدورهم، وألقوا في آذانهم أنهم الأحق بتعديل القوانين والتصرف في الحكومة، حيث إنهم أهل الوطن وأصحاب القوة، وحسَّنوا لهم ما صنع بعضهم من الثورة السابقة التي لم يعاقبوا عليها، فتعصبوا وتمكن منهم الغرور وكان رئيسهم أحمد عرابي أحد أمراء الآلايات وقتئذ، فاستمال سائرهم وعاقدهم على مضادة الحكومة،
وتقدم من رؤسائهم لمجلس النظار عريضة يطلبون فيها تغيير ناظر الجهادية عثمان باشا رفقي وتشكيل مجلس نواب وغير ذلك مما يخرج عن حدود وظائفهم، فانعقد لذلك مجلس النظار تحت رئاسة المرحوم الخديوي توفيق، وانحط الرأي على عقد مجلس من الأهليين وبعض أمراء العسكرية للنظر في أمرهم والحكم فيهم بما تقتضيه قوانين الجهادية، وتعهد ناظر الجهادية بأن لا ينجم عن ذلك خطر ولا ضرر، فانعقد ذلك المجلس بقصر النيل وجُلبوا إليه لمحاكمتهم، فقام جمع من الضباط والعساكر وهجموا على قصر النيل، وأهانوا من بالمجلس، وأخذوا العرابي ومن معه بالقوة على حسب عهد كان بينهم، فكان ذلك أول التظاهر بالعصيان والخروج عن طاعة الحكومة، وشاعت هذه
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.

