أخذ عبد الرحمن يرتدي ملابسه على مهل أمام المرآة الطولية المثبتة على الخوان في حجرته الدافئة، وبعد أن عقد ربطة عنقه النحيفة الزرقاء، ارتدى النظارة المربّعة ذات الإطار البلاستيكي الأسود، وأخذ ينقل عينيه بين صورته المنعكسة على المرآة وبين صورة جان بول سارتر المعلّقة على الجدار، فشعر بحزن عظيم طاغ، اجتاح كيانه كله: (ماذا لو كان أعور؟). ماذا لو كان أعور؛ لتتطابق الصورتان ملمحًا؟ فإن كان عبد الرحمن قد حلق شاربه، وصفّف شعره المسرّح المدهون على شاكلة تصفيفة شعر سارتر، وإن كان وجهه المثلث الوسيم يحمل ملامح سارتر كلها: الأنف النحيف، الاستدارة الجميلة للخدود، الفم الملموم على نفسه، فإن هذا التطابق سيظلّ
أخذ عبد الرحمن يرتدي ملابسه على مهل أمام المرآة الطولية المثبتة على الخوان في حجرته الدافئة، وبعد أن عقد ربطة عنقه النحيفة الزرقاء، ارتدى النظارة المربّعة ذات الإطار البلاستيكي الأسود، وأخذ ينقل عينيه بين صورته المنعكسة على المرآة وبين صورة جان بول سارتر المعلّقة على الجدار، فشعر بحزن عظيم طاغ، اجتاح كيانه كله: (ماذا لو كان أعور؟). ماذا لو كان أعور؛ لتتطابق الصورتان ملمحًا؟ فإن كان عبد الرحمن قد حلق شاربه، وصفّف شعره المسرّح المدهون على شاكلة تصفيفة شعر سارتر، وإن كان وجهه المثلث الوسيم يحمل ملامح سارتر كلها: الأنف النحيف، الاستدارة الجميلة للخدود، الفم الملموم على نفسه، فإن هذا التطابق سيظلّ عصيًا على التحقّق، طالما أن العور لا يطال عينه اليمنى على الإطلاق، فماذا سينقص الوجود، لو صار أعور، وكان بعوره سارتر آخر؟ أدرك عبد الرحمن في تلك اللحظة عذاب الوجود، ولا عدالته، لو كان وجودًا عادلاً ومتساويًا وأخلاقيًا، لصار عبد الرحمن أعور، لكان منحه الله العين العوراء، مثلما منحها لجاسب الأعور الذي يبيع الخضرة الباهتة على عربة سحب في سوق الصدرية، فهذا الأعور الجاهل لا يدرك عبقرية عينه السارترية، لا يدرك عظمة عوره الفلسفي، ولا مكانة هذه العين المطفأة في تاريخ الفلسفة، ولذا؛ فإنه يفضّل عينه السليمة على عينه العوراء، ولا يدرك ابتذال عينه السليمة، ولا عاديّتها، وهكذا تجده حزينًا خجلاً من وجوده ناقصًا، في عالم كلّ مَن فيه يملك عينين اثنتين، لا واحدة، من عالم كله ينشدّ للكمال. وإن كان عبد الرحمن يؤمن بهذا العور الفلسفي، ويعرف قيمته وعظمته إلاّ أنه يدرك في الوقت ذاته، أنه عور صعب المنال، إنه عور مستحيل، عور ميتافيزيقي، كعور إله المعرفة سارتر. وكان يدرك على نحو يائس أن هذا العور لن يتحقّق مه...
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.