More on this book
Kindle Notes & Highlights
Read between
December 31 - December 31, 2022
وكانت الحمير والبغال، و«عربات الكارو»، التي لا تزال لها بقية لا يستهان بها، هي وسائل النقل والتنقل. فأما البغال فكان يركبها «الذوات» والموسرون من طلاب العلم في الأزهر.
فإذا كان يوم الأحد، وهو يوم الزيارة الأسبوعية لمسجد السيدة نفيسة، أو يوم الخميس وهو يوم زيارة «المحمدي» بالعباسية، لبس أصحاب الحمير أفخر ما عندهم من الثياب الحريرية، وامتطرا هذه الحمير المضمرة المحلاة، وخرجوا في موكب باهر يتسابقون، ويعرضون مزايا دوابهم.
لأن «مصروف» الواحد منا كان لا يزيد على خمسة ملاليم، وكانت كافية للب، والحمص، والفول السوداني. ولم نكن قد سمعنا في ذلك الزمان بالشكولاتة!
وكانت أمي — على صغر سنها — زعيمة الأسرة. وكان أهلي جميعاً يلجأون إليها يطلبون رأيها فيما يعرض لهم، وفصلها فيما يقع بينهم من المشاكل.
فصارت تعاملني على أني رب الأسرة وسيد البيت وتعودني احترام النفس والتزام ما يقتضيه مقامي في البيت وتستجوبه زعامتي للأسرة.
تلك هي أمي، أو تلك هي بعض خطوط الصورة. وإني لجليد في العادة، ولكن موتها هدني. فقد كانت لي أماً وأباً، وأخاً وصديقاً.
ورأت سهومي وتقطيبي فلم تترفق بي، على فرط حنوها بل زادت عليّ شدة وقالت: (واسمع يا إبراهيم. إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني أحب أن تعد نفسك من الآن، رجلاً فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال).
في هذه اللحظة قطعت الطفولة كلها وثباً — وما كنت إلا ابن عشر، ولكن أمي تقول لي إني أصبحت رجل البيت وسيده والمسئول عنه — عن أخي الصغير وعن أمي وجدتي لأبي. كل هؤلاء مسئولون مني أنا الذي لا يزال يتعلم الجمع والطرح والضرب وكلمات من الإنجليزية لا يحسن أن ينطقها! مسئول عن هؤلاء وبي حاجة إلى من يتعهدني، ويبرني ويسرني ويهذبني ويؤدبني!
وجرت فائدة الابتسام وفضله في التداوي فصارت قاعدتي أن أبتسم لكل شيء لأرى ما يكون، فما لبثت حياتي كلها أن تغيرت فقد كنت حاد الطبع سريع الغضب، فصرت أراني إذا ابتسمت لما يغضبني يزول عني الغضب وأشعر بسكينة غريبة، وأحس أني أستطيع أن أفكر بهدوء وأن أضع نفسي في مكان الذي أغضبني وأنظر إلى ما فعل من ناحيته هو فأعذره،