More on this book
Kindle Notes & Highlights
by
شكيب أرسلان
Read between
May 6 - May 11, 2019
كيف ترى في أمة ينصرها الله بدون عمل، ويفيض عليها الخيرات التي كان يفيضها على آبائها، وهي قد قعدت عن جميع العزائم التي قد كان يقوم بها آباؤها؟! وذلك يكون أيضًا مخالفًا للحكمة الإلهية والله هو العزيز الحكيم، وما قولك في عزة دون استحقاق، وفي غلة دون حرث ولا زرع، وفي فوز دون سعي ولا كسب، وفي تأييد دون أدنى سبب يوجب التأييد؟!
ولو أيد الله مخلوقًا بدون عمل لأيد من دون عمل محمدًا رسوله ولم يحوجه إلى القتال والنزال والنضال، واتباع سنن الكون الطبيعية للوصول إلى الغاية.
ولكن الأمم الإسلامية تريد حفظ استقلالها بدون مفاداة ولا تضحية، ولا بيع أنفس ولا مسابقة إلى الموت، ولا مجاهدة بالمال، وتطالب الله بالنصر على غير الشرط الذي اشترطه في النصر٦ فإن الله — سبحانه — يقول: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ،٧ ويقول: إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.٨
وإذا سألت هؤلاء المسلمين الممالئين للعدو على إخوانهم: كيف تفعلون مثل هذا وأنتم تعلمون أنه مخالف للدين وللشرف وللفتوة وللمروءة وللمصلحة وللسياسة؟ أجابوك: كيف نصنع فإن الأجانب انتدبونا، ولو لم نفعل لبطشوا بنا، فاضطررنا إلى القتال في صفوفهم؛ خوفًا منهم، ونسوا قوله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.
فإنهم اكتفوا من الإسلام بالركوع والسجود، والأوراد والأذكار، وإطالة السبحة والتلوم في السجدة، وظنوا أن هذا هو الإسلام، ولو كان هذا كافيًا في إسلام المرء وفوزه في الدنيا والآخرة لما كان القرآن ملآن بالتحريض على الجهاد، والإيثار على النفس، والصدق والصبر، ونجدة المؤمن لأخيه، والعدل والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق، ولو كان هذا كافيًا لأجل التحقق بالإسلام لما قال الله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ
...more
والجامد هو سبب الفقر الذي ابتلى به المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط، والحال أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وإن هذه مزية له على سائر الأديان، فلا حصر كسب الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه كما هي ديانات أهل الهند والصين، ولا زهده في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حصر سعيه في أمور هذه المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوروبة الحاضرة.
والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعاتها بحجة أنها من علوم الكفار، فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم، وأورث أبناءه الفقر الذي هم فيه، وقص أجنحتهم،
ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم الدينية والمحاضرات الأخروية جعلنا أنفسنا بمركز ضعيف بإزاء سائر الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم يزالوا يعلون في الأرض ونحن ننحط في الأرض، إلى أن صار الأمر كله في يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا عن نفس ديننا فضلًا عن أن يملكوا علينا دنيانا، ومن ليست له دنيا فليس له دين، وليس هذا هو الذي يريده الله بنا وهو الذي قال: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الآية.٢ وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.٣ وقال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
...more
لأن إفراط المرء في الاعتماد على نفسه يورطه في البطر إذا نجح، وفي الجزع إذا فشل، والذي يريده الإسلام إنما هو أن يعقل الإنسان ويتوكل
إن الإسلام هو من أصله ثورة على القديم الفاسد، وجبٌّ للماضي القبيح، وقطع كل العلائق مع غير الحقائق، فكيف يكون الإسلام ملة الجمود؟ والقرآن هو الذي جاء فيه من قصة إبراهيم عليه السلام: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.
وهكذا أصبح المسلمون في الأعصر الأخيرة يعتقدون أنه ما من صراع بين المسلم والأوروبي إلا سينتهي بمصرع المسلم ولو طال كفاحه، وقر ذلك في نفوسهم، وتخمَّر في رءوسهم، لا سيما هذه الطبقة التي تزعم أنها الطبقة المفكرة العاقلة المولعة بالحقائق، الصادفة عن الخيالات — بزعمها — فإنها صارت تقرر هذه القاعدة المشئومة في كل نادٍ، وتجعل التشاؤم المستمر والنعاب الدائم من دلائل العقل وسعة الإدراك، وتحسب اليأس من صلاح حال المسلمين من مقتضيات العلم والحكمة وما زالت تنفخ في بوق التثبيط، وتبث في سواد الأمة دعاية العجز؛ إلى أن صار الاستخذاء ديدن الجميع إلا من رحم بك، وكانت روحه من أصل فطرتها قوية عزيزة.
فانطبق على هؤلاء الناعقين بالبين الآية الشريفة: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا.
ولم يكن الإفرنجة وسعاتهم ودعاتهم بملومين على ترويج هذه النظريات التاعسة بين المسلمين؛ لأنها مما يسهِّل الاستعمار ويمهِّد طرقه ويكفيهم المقاتلات والمنازلات
لقد صدق فيهم كلام الله — تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.٢
فالمسلمون يمكنهم إذا أرادوا بعث العزائم وعملوا بما حرضهم عليه كتابهم أن يبلغوا مبالغ الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء، وأن يبقوا على إسلامهم كما بقي أولئك على أديانهم، بل هم أولى بذلك وأحرى، فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي يعوزنا الأعمال، وإنما الذي يضرنا هو التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال، فلننفض غبار اليأس ولنتقدم إلى الأمام، ولنعلم أننا بالغو كل أمنية بالعمل والدأب والإقدام، وتحقيق شروط الإيمان، التي في القرآن: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.