More on this book
Kindle Notes & Highlights
أما اسم المرأة التي أحبها قلبي فهو الحياة. فالحياة امرأة ساحرة حسناء تستهوي قلوبنا، وتستغوي أرواحنا، وتغمر وجداننا بالوعود، فإن أمطلت أماتت فينا الصبر، وإن أَبَرَّت أيقظتْ فينا الملل. الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها، وتتعطر بدماء قتلاها. الحياة امرأة ترتدي الأيام البيضاء المبطنة بالليالي السوداء. الحياة امرأة ترضى بالقلب البشري خليلًا، وتأباه حَلِيْلًا. الحياة امرأة عَاهِرَة؛ ولكنها جميلة، ومن يرى عُهْرَهَا يكره جمالها.
أنتم تتبعون الملاهي، وأظافر الملاهي مزقت ألف ألف من الشهداء في مراسح رومية وأنطاكية، ونحن نلاحق السكينة، وأصابع السكينة؛ نسجت الإلياذة وسِفْرِ أيوب، والتائية الكبرى. أنتم تضاجعون الشهوات، وعواصف الشهوات جرفت ألف موكب من أرواح النساء إلى هاوية العار والفجور، ونحن نعانق الوحدة، وفي ظلال الوحدة؛ تجسمت المعلقات، ورواية هملت، وقصيدة دانتي، أنتم تسامرون المطامع، وأسياف المطامع أجرت ألف نهر من الدماء، ونحن نرافق الخيال؛ وأيدي الخيال أنزلت المعرفة من دائرة النور الأعلى. نحن أبناء الكآبة، وأنتم أولاد المسرات، وبين كآبتنا، وسروركم عقبات صعبة لمسالك ضيقة المعابر لا تجتازها خيولكم المُهَطَمَةَ، ولا تسير
...more
نحن أبناء الكآبة، والكآبة غيوم تمطر العالم خيرًا، ومعرفة، وأنتم أبناء المسرات، ومهما تعالت مسراتكم فهي كأعمدة الدُخَانِ تهدمها الرياح، وتبددها العناصر.
هذا بعض ما يقوله الناس عني وهم مصيبون، فأنا متطرف حتى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء، وفي قلبي كره لما يقدسه الناس، وحب لما يأبونه، ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة، أما قول بعضهم: إن كتاباتي «سم في دسم» فكلام يبين الحقيقة من وراء نقاب كثيف، فالحقيقة العارية هي أنني لا أمزج «السم» بالدسم؛ بل أسكبه صِرفًا … غير أنني أسكبه في كؤوس نظيفة شفافة. أما الذين يعتذرون عني أمام نفوسهم قائلين «هو خيالي يسبح مرفرفًا بين الغيوم» فهم الذين يحدقون بلمعان تلك الكئوس الشفافة منصرفين عما في داخلها من الشراب الذي يدعونه «سُمًا» لأن معدهم الضعيفة لا تهضمه.
أنا متطرف؛ لأن من يعتدل بإظهار الحق يبين نصف الحق، ويبقى نصفه الآخر محجوبًا وراء خوفه ظنون الناس وتقولاتهم.
ليس من يكتب بالحبر، كمن يكتب بدم القلب، وليس السكوت الذي يحدثه الملل، كالسكوت الذي يوجده الألم.
إن العاطفة التي تجعلك، يا أخي السوري، أن تعطي شيئًا من حياتك لمن يكاد أن يفقد حياته، هي الأمر الوحيد الذي يجعلك حَرِيًا بنور النهار، وهدوء الليل. وإن الدرهم الذي تضعه في اليد الفارغة الممدودة إليك هو هو الحلقة الذهبية التي تصل ما فيك من البشرية بما فوق البشرية.
«رأس الحكمة معرفة الذات، وأنا قد عرفت نفسي في هذه الليلة، ومنذ الليلة سأبتدئ بالعمل العظيم الذي انتدبتني إليه فكرة هذا العالم بوضعها في أعماق عناصر متعددة متباينة، رافقت عظماء البشر من نوح، إلى سقراط، إلى بوكاشيو، إلى أحمد فارس الشدياق، أنا لا أدري ما هو العمل العظيم الذي سأقوم به، ولكن رجلًا جمع في شخصه الهيولي وذاته المعنوية ما أنا جامع له من معجزات الأيام، ومبتكرات الليالي … لقد عرفت نفسي نعم، والآلهة قد عرفت نفسي فلتحيَّ نفسي، ولتعيش ذاتي، وليبقى الكون كونًا حتى تتم أعمالي». ومشى سليم أفندي في تلك الغرفة ذهابًا وإيابًا، وسيماء البِشْرِ على سحنته القبيحة، وهو يردد بصوت يأتلف بنبراته مواء
...more
«نعم إن للطير شرفًا ليس للإنسان، فالإنسان يعيش في ظلال شرائع، وتقاليد ابتدعها لنفسه، أما الطيور فتحيا بسبب الناموس الكلي المطلق الذي يسير بالأرض حول الشمس». فلمعت عيناه وانبسطت ملامحه كأنه وجد بي تلميذًا سريع الفهم ثم قال: «أحسنت، أحسنت، فإذا كنت تعتقد حقيقةً بما تقول، فاترك الناس وتقاليدهم الفاسدة وشرائعهم التافهة، وعش كالطيور في مكان بعيد خالٍ إلا من ناموس الأرض والسماء». فقلت: «إني اعتقد بما أقول يا سيدي». فرفع يده وقال بصوت يمازجه التعنت، والتصلب: «الاعتقاد شيء والعمل به شيء آخر، كثيرون هم الذين يتكلمون كالبحر، أما حياتهم فشبيهة بالمستنقعات، كثيرون هم الذين يرفعون رؤوسهم فوق قمم الجبال،
...more
لا يا أخي لم أطلب الوحدة للصلاة، والتقشف؛ بل طلبتها هاربًا من الناس، وشرائعهم، وتعاليمهم، وتقاليدهم، وأفكارهم وضجتهم، وعويلهم. طلبت الوحدة؛ لكي لا أرى أوجه الرجال الذين يبيعون نفوسهم ليشتروا بأثمانها ما كان دون نفوسهم قدرًا وشرفًا. طلبت الانفراد؛ لكي لا ألتقي بالنساء اللواتي يسرن ممدودات الأعناق، غامزات العيون على ثغورهن ألف ابتسامة، وفي أعماق قلوبهن غرض واحد.
وسكتت الوردة هنيهة، ثم زادت بلهجة مفعمة بالفخر والتفوق: «أي لقد عشت ساعة كوردة، لقد عشت ساعة كملكة، لقد نظرت إلى الكون من وراء عيون الورود، وسمعت همس الأثير بآذان الورود … ولمست ثنايا النور بأوراق الورود، فهل بينكن من تستطيع أن تدَّعي شرفي؟». ثم لوت عنقها، وبصوت يكاد أن يكون لهاثًا قالت: «أنا أموت الآن، أموت وفي نفسي ما لم تُكِنُهُ نفس بَنفسجة من قبلي، أموت وأنا عالمة بما وراء المحيط المحدود الذي ولدت فيه، وهذا هو القصد من الحياة، هذا هو الجوهر الكائن وراء عرضيات الأيام والليالي».
والآن وقد أَبَنْتُ بعض قرفي، واشمئزازي من الكلام، والمتكلمين، أراني كالطبيب المعتل، أو كمجرم يقف واعظًا بين المجرمين، فقد هجوت الكلام ولكن بالكلام، وتطيرت من المتكلمين، وأنا واحد من المتكلمين، فهل يغفر الله ذنبي قبيل أن يرحمني، وينقلني إلى غابة الفكر، والعاطفة، وألحق حيث لا كلام ولا متكلمون.