More on this book
Kindle Notes & Highlights
«أنت تنظر بعين الوهم فترى الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة؛ فتظنهم أحياء، وهم أموات منذ الولادة، ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم، فظلوا متطرحين فوق الثرى، ورائحة النتن تنبعث منهم».
«إن الميت يرتعش أمام العاصفة أما الحي فيسير معها راكضًا ولا يقف إلا بوقوفها».
إنما الناس عبيد الحياة، وهي العبودية التي تجعل أيامهم مُكْتَنَفَةً بالذل، والهوان، ولياليهم مغمورة بالدماء والدموع.
فرأيت الأطفال يرضعون العبودية مع اللبن، والصبيان يتلقنون الخضوع مع حروف الهجاء، والصبايا يرتدين الملابس مبطنة بالانقياد، والخنوع، والنساء يَهْجعن على أَسِرَّةِ الطاعة، والامتثال.
العبودية العمياء: وهي التي تُوثِقُ حاضر الناس بماضي آبائهم، وَتُنِيْخُ نفوسهم أمام تقاليد حدودهم، وتجعلهم أجسادًا جديدة لأرواح عتيقة، وقبورًا مُكَلَّسَة لعظام بالية.
والعبودية الصماء: وهي التي تُكْرِهُ الأفراد على اتباع مشارب محيطهم، والتلون بألوانه والارتداء بأزيائه، فيصبحون من الأصوات كَرَجْعِ الصدى، ومن الأجسام كالخيالات.
وما عسى ينفع الزئير، والضجيج، والناس طُرْش لا يسمعون؟!
منذ تسعة عشر جيلًا، والبشر يعبدون الضعف بشخص يسوع، ويسوع كان قويًا، ولكنهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية.
ما عاش يسوع مسكينًا خائفًا، ولم يمت شاكيًا متوجعًا، بل عاش ثائرًا، وصُلب متمردًا، ومات جبارًا.
لم يكن يسوع طائرًا مكسور الجناحين، بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المُعْوَّجَةِ. لم يجئ يسوع من وراء الشفق الأزرق، ليجعل الألم رمزًا للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزًا للحق والحرية. لم يَخَفْ يسوع مضطهديه، ولم يخش أعدائه، ولم يتوجع أمام قاتليه، بل كان حرًا على رؤوس الأشهاد جريئًا أمام الظلم والاستبداد، يرى البثور الكريهة فَيِبْضَعُهَا، ويسمع الشر متكلمًا فيخرسه، ويلتقي بالرياء فيصرعه. لم يهبط يسوع من دائرة النور الأعلى، ليهدم المنازل ويبني من حجارتها الأديرة والصوامع ويستهوي الرجال الأشداء ليقودهم قسوسًا ورهبانًا، بل جاء ليبث في فضاء هذا العالم روحًا جديدة قوية تُقَوِّضُ قوائم
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
إن إكليل الشوك على رأسك هو أجلُّ وأجمل من تاج بهرام، والمسمار في كفك أسمى وأفخم من صولجان المشترى، وقطرات الدماء على قدميك أسنى لمعانًا من قلائد عشتروت، فسامح هؤلاء الضعفاء الذين ينوِّحون عليك لا يدرون كيف ينوحون على نفوسهم، واغفر لهم لأنهم لا يعلمون بأنك صرعت الموتَ بالموت، ووهبت الحياة لمن في القبور.
وما هذه الأيدي الخفية، الناعمة، الخشنة التي تقبضُ على روحي في ساعات الوحدة والانفراد، وتسكب في كبدي خمرةً ممزوجة بمرارة اللذة وحلاوة الأوجاع؟
وما هذه الأجنحة التي ترفرف حول مضجعي في سكينة الليل، فأسهر مترقبًا ما لا أعرفه، مُصغيًا إلى ما لا أسمعه، مُحَدِقًا بما لا أراه، مفكرًا بما لا أفهمه، شاعرًا بما لا أدركه، متأوهًا لأن في التأوه غصَّات أحب إليَّ من رنة الضحك والابتهاج، مستسلمًا إلى قوةٍ غير منظورة تُميتني وتحييني، ثم تميتني وتحييني حتى يطلع الفجر ويملأ النور زوايا غرفتي، فأنا إذ ذاك، وبين أجفاني الذابلة ترتعش أشباح اليقظة، وعلى فراشي الحجري تتمايل خيالات الأحلام.
أخبروني هل بينكم من لا يستيقظ من رقدة الحياة إذا ما لمس الحب روحه بأطراف أصابعه؟
وعرفتها أيام الصبا، فكنت أرى خيال وجهها في وجوه الكتب، والأسفار، وأشاهد خطوط قامتها بين غيوم السماء، وأسمع نغمة صوتها متصاعدة مع خرير السواقي.
وعرفتها أيام الرجولة؛ فكنت أجالسها محدثًا، وأسألها مستفتيًا، وأقترب منها شاكيًا ما في قلبي من الأوجاع، باسطًا ما في روحي من الأسرار.
الحياة امرأة ترتدي الأيام البيضاء المبطنة بالليالي السوداء.
الحياة امرأة عَاهِرَة؛ ولكنها جميلة، ومن يرى عُهْرَهَا يكره جمالها.
قد غنيت لكم، فلم ترقصوا، وَنُحْتُ أمامكم، فلم تبكوا، فهل تريدون أن أترنم، وأنوح في وقت واحد؟
نفوسكم تتلوى جوعًا، وخبز المعرفة أوفر من حجارة الأودية، ولكنكم لا تأكلون، وقلوبكم تختلج عطشًا، ومناهل الحياة تجري كالسواقي حول منازلكم، فلماذا لا تشربون؟
واليوم صرت أرى ضعفكم؛ فترتعش نفسي اشمئزازًا، وتنقبض ازدراءً.
أنتم لا تعرفوننا، أما نحن فنعرفكم، أنتم سائرون بسرعة مع تيار نهر الحياة، فلا تلتفتون نحونا، أما نحن فجالسون على الشاطئ نراكم ونسمعكم، أنتم لا تَعُونَ صراخنا؛ لأن ضجيج الأيام يملأ آذانكم، أما نحن فنسمع أغانيكم؛ لأن همس الليالي قد فتح مسامعنا، نحن نراكم؛ لأنكم واقفون في النور المظلم، أما أنتم فلا تروننا؛ لأننا جالسون في الظلمة المنيرة. نحن أبناء الكآبة، نحن الأنبياء، والشعراء، والموسيقيون، نحن نَحُوكُ من خيوط قلوبنا ملابس الآلهة؛ فنملأ بحبات صدورنا حفنات الملائكة، وأنتم أنتم أبناء غفلات المسرات، ويقظات الملاهي، أنتم تضعون قلوبكم بين أيدي الخَلْو؛ لأن أصابع الخلو لينة الملامس، وترتاحون بقرب
...more
نحن نبكي؛ لأننا نرى تعاسة الأرملة، وشقاء اليتيم، وأنتم تضحكون؛ لأنكم لا ترون غير لمعان الذهب، نحن نبكي لأننا نسمع أنَّة الفقير، وصراخ المظلوم، وأنتم تضحكون؛ لأنكم لا تسمعون سوى رنة الأقداح، نحن نبكي؛ لأن أرواحنا منفصلة بالأجساد عن الله، وأنتم تضحكون لأن أجسادكم تلتصق مرتاحة بالتراب.
ولكن لما انقضت تلك الساعة نزل من عن صليبه وسار كالجبال يتغلب على الأجيال بالروح، والحق، ويملأ الأرض بمجده، وجماله.
كنا فكرًا، صامتًا، مختبئًا في زوايا النسيان، فأصبحنا صوتًا صارخًا ترتجف له أعماق القضاة.
مشتاقين إلى من لا نعرفه، مستوحشين لأسباب نجهلها، مُحَدِقِيْنَ بفضاءٍ خالٍ مظلم، مصغين إلى أنة السكون والعدم.
زرعتها في حقل بعيد عن سبل الزمن، وكنت أسهر بجانبها قائلًا إن السهر يدنينا من النجوم، وكنت أسقيها بدمي، ودموعي قائلًا: إن في الدم نكهة، وفي الدموع حلاوة، ولما عاد الربيع أزهرت نفسي ثانية. وفي الصيف أثمرت نفسي، ولما جاء الخريف جَمَعْتُ أثمارها الناضجة بأطباق من الذهب ووضعتها على ملتقى السبل، فمر الناس أفرادًا وجماعات، ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها. فأخذت إذ ذاك ثمرة وأكلت، فوجدتها حلوة كالشهد، لذيذة كالكوثر، طيبة كالخمرة البابلية، عطرة كأنفاس اليَاسَمِيْنِ، فصرخت قائلًا: «إن الناس لا يريدون البركة في أفواههم ولا الحق في أجوافهم، لأن البركة ابنة الدموع، والحق ابن الدماء».
فنبذوني؛ لأن عيونهم لا ترى سوى المظاهر الخارجية.
تمتنع الصبية عن اتباع عوائد العجائز، فتقول لها والدتها «ليست الابنة أفضل من أمها، فالطريق التي سلكتها تسلكينها أنت أيضًا».
قد سألت نفسي مرات إذا كنت من المستيقظين المتمردين الذين يأبون شرب المخدرات، والمسكنات، فكانت نفسي تجيبني بكلمات مبهمة ملتبسة، ولكنني لما سمعت الناس يجدفون على اسمي، ويتأففون من مبادئي، أيقنت بحقيقة يقظتي، وعلمتُ أنني لست من المستسلمين إلى الأحلام اللذيذة، والخيالات المستحبة، بل من أولئك المستوحدين الذين تُسيرهم الحياة على سبل ضيقة مغروسة بالأشواك، والأزهار محفوفة بالذئاب الخاطفة، والبلابل المترنمة.
أنا متطرف؛ لأن من يعتدل بإظهار الحق يبين نصف الحق، ويبقى نصفه الآخر محجوبًا وراء خوفه ظنون الناس وتقولاتهم.
«الحياة بغير الحرية كجسم بغير روح، والحرية بغير الفكر كالروح المشوشة … الحياة والحرية والفكر، ثلاثة أَقَانِيْمَ في ذات واحدة أزلية لا تزول ولا تضمحل».
وما أكثر الأطباء الذين يداوُّن أضراس الإنسانية بالطلاء الجميل، والمواد البراقة، وما أكثر المرضاء الذين يستسلمون إلى مشيئة أولئك الأطباء المصلحين، فيتوجعون، ثم يموتون بعلتهم مخدوعين.
غير أن الأمة التي تعتل، ثم تموت لا تُبْعَثُ ثانيةً لِتُظْهِرَ للملأ أسباب الأمراض المعنوية وماهية الأدواء الاجتماعية التي تؤول بالأمم إلى الانقراض والعدم.
أما أنا فسرت وحيدًا، منفردًا، مبتعدًا عن الزحام، والضجيج أفكر بصاحب العيد. أفكر بنابغة الأجيال الذي ولد فقيرًا، وعاش متجردًا، ومات مصلوبًا …
ليس من يكتب بالحبر، كمن يكتب بدم القلب، وليس السكوت الذي يحدثه الملل، كالسكوت الذي يوجده الألم.
أما الدماء التي أُهْرِقَت فسوف تجري أنهارًا كوثرية، وأما الدموع التي نُثِرَت، فستنبت أزهارًا زكية، وأما الأرواح التي فاضت فسوف تجتمع، وتأتلف، وتتطلع من وراء الأفق الجديد صباحًا جديدًا، فيعلم الناس بأنهم قد ابتاعوا الحق في سوق البؤس، وأن من ينفق في سبيل الحق لم يخسر.
«لقد كان بإمكاني عبادة الله وأنا بين خلقه؛ لأن العبادة لا تستلزم الوحدة والانفراد. وأنا لم أترك العالم لأجد الله؛ لأنني كنت أجده في بيت أبي، وفي كل مكان آخر، ولكنني هجرت الناس؛ لأن أخلاقي لا تنطبق على أخلاقهم، وأحلامي لا تتفق مع أحلامهم، تركت البشر؛ لأنني وجدت نفسي دولابًا يدور يمنة بين دواليب تدور يسارًا، تركت المدينة؛ لأنني وجدتها شجرة مسنة فاسدة، قوية هائلة عروقها في ظلمة الأرض، وأغصانها تتعالى إلى ما
وراء الغيوم، أما أزاهرها فمطامع، وشرور، وجرائم، وأما أثمارها فويل، وشقاء، وهموم، ولقد حاول بعض المصلحين تطعيمها، وتغيير طبيعتها، فلم يفلحوا بل ماتوا قانطين، مضطهدين، مغلوبين على أمرهم».
لا، لم أطلب الوحدة للصلاة، والتنسك؛ لأن الصلاة، وهي أغنية القلب، تبلغ آذان الله وإن تصاعدت ممزوجةً بصياح ألوف الألوف، وأما التنسك، وهو قهر الجسد وإماتة رغائبه، فمسألة لا مكان لها في ديني؛ لأن الله بنى الأجسام هياكل للأرواح، وعلينا أن نحافظ على هذه الهياكل؛ لتبقى قوية نظيفة لائقة بالألوهية التي تحل فيها، لا يا أخي لم أطلب الوحدة للصلاة، والتقشف؛ بل طلبتها هاربًا من الناس، وشرائعهم، وتعاليمهم، وتقاليدهم، وأفكارهم وضجتهم، وعويلهم. طلبت الوحدة؛ لكي لا أرى أوجه الرجال الذين يبيعون نفوسهم ليشتروا بأثمانها ما كان دون نفوسهم قدرًا وشرفًا. طلبت الانفراد؛ لكي لا ألتقي بالنساء اللواتي يسرن ممدودات
...more
«إني احترم أفكارك، ومقاصدك يا سيدي، واحترم وحدتك، وانفرادك غير أنني أعلم، والعلم مجلبة الأسف، أن هذه الأمة التعسة قد فقدت بتنحيك، وابتعادك رجلًا، موهوبًا، قادرًا على خدمتها وإيقاظها».
«ليست هذه الأمة إلا كالأمم كافة، فالناس من جِبِلَةٍ واحدة، وهم لا يختلفون بعضهم عن بعض إلا في الظواهر، والمظاهر الخارجية التي لا يُعْتد بها، فتعاسة الأمم الشرقية هي تعاسة الأرض بكاملها، وليس ما تحسبه رقيًا في الغرب سوى شبح آخر من أشباح الغرور الفارغ، فالرياء يظل رياءً وإن قَلَّم أظافره، والغش يبقى غشًا، وإن لانت ملامسه، والكذب لا يصير صدقًا إذا لبس الحرير، وسكن القصور، والخداع لا يتحول إلى أمانة إذا ركب القطار، أو اعتلى المنطاد، والطمع لا ينقلب قناعة إذا قاس المسافات، أو وزن العناصر، والجرائم لا تصبح فضائل وإن سارت بين المعامل والمعاهد، أما العبودية، العبودية للحياة، العبودية للماضي، العبودية
...more
باطلة هي أعمال الإنسان، وباطلة هي تلك المقاصد، والمرامي والمنازع والأماني، وباطل كل شيء على الأرض، وليس بين
أباطيل الحياة سوى أمر واحد خليق بحب النفس وشوقها، وَهُيَامِهَا، ليس هناك غير شيء واحد».
«هي يقظة في النفس، هي يقظة في عمق أعماق النفس، هي فكرة تفاجئ وجدان الإنسان على حين غفلة، وتفتح بصيرته، فيرى الحياة مُكْتَنَفَةً بالأنغام، محاطةً بالهالات، منتصبةً كبرج من النور بين الأرض واللانهاية، هي شعلة من شعلات ضمير الوجود تتأجج فجأة في داخل الروح، فتحرق ما يحيط بها من الهشيم، وتصعد سابحةً، مرفرفة في الفضاء الوسيع، هي عاطفة تهبط على قلب الفرد فيقف مستغربًا مستهجنًا كل ما يخالفها، كارهًا كل شيء لا يجاريها، متمردًا على الذين لا يفهمون أسرارها، هي يد خفية قد أزالت الغشاء عن عيني وأنا في وسط الاجتماع بين أهلي وأصحابي ومواطني، فوقفت منذهلًا مدهوشًا قائلًا في نفسي: ما هذه الوجوه، وما شأن هؤلاء
...more
:نعم، له تمام الحرية أن يفعل ما يشاء، ولكنني أرى أن حياتنا الاجتماعية لا تتفق مع هذا النوع من الحرية، إن ميولنا وعاداتنا وتقاليدنا لا تسمح للفرد الواحد أن يفعل ما فعله
إنما الموسيقى لغة الأرواح، هي سيال خفي يتموج بين روح المنشد وأرواح السامعين، فإذا لم يكن هناك من أرواح تسمع وتفهم ما تسمع، فالمنشد يفقد ذلك الميل إلى البيان، ويفقد ذلك الشوق إلى إظهار ما في أعماقه من الحركات والسكنات. والموسيقى مثل قيثارة ذات أوتار مشدودة حساسة، فإذا تراخت تلك الأوتار فقدت خاصتها وأصبحت كخيوط من الكتان
«ألا فاسمعن أيتها الجاهلات المقتنعات، الخائفات من العواصف، والإعصار، فقد كنت بالأمس مثلكن أجلس بين أوراقي الخضراء مكتفيةً بما قُسِمَ لي، وقد كان الاكتفاء حاجزًا منيعًا يفصلني عن زوابع الحياة، وأهوائها، ويجعل كياني محدودًا بما فيه من السلامة، متناهيًا بما يساوره من الراحة والطمأنينة، ولقد كان بإمكاني أن أعيش نظيركن ملتصقةً بالتراب حتى يغمرني الشتاء بثلوجه، وأذهب كمن ذهب قبلي إلى سكينة الموت، والعدم قبل أن أعرف من أسرار الوجود ومخبآته غير ما عرفته طائفة البنفسج منذ وُجِدَ البنفسج على سطح الأرض، لقد كان بإمكاني الانصراف عن المطامع، والزهد في الأمور التي تعلو بطبيعتها عن طبيعتي، ولكني أصغيت في
...more
«أي لقد عشت ساعة كوردة، لقد عشت ساعة كملكة، لقد نظرت إلى الكون من وراء عيون الورود، وسمعت همس الأثير بآذان الورود … ولمست ثنايا النور بأوراق الورود، فهل بينكن من تستطيع أن تدَّعي شرفي؟».