More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
Read between
November 20, 2018 - June 27, 2020
أيها القارئ، إنني أطرب لنقيق الضفادع على حوافي الجداول حين يبهجها نسيم الليل، ولمعة القمر، طربًا قل أن ألقاه في المهرجان الصاخب والعرس المنير، فقد يكون فرح المهرجانات والأعراس صناعة مستكرمة لا سعادة فيها ولا صدق في أصواتها، ولكن الضفدع التي يرتفع نقيقها في قمراء الليل، أو غاشية الظلام، لن تكون إلا شعورًا صادقًا تمت الألفة بينه وبين أرضه وسمائه، فلا ريب ولا مراء فيما وراء دعائه الساذج من السعادة والرضوان.
وقد أنصف شوبنهور حين شبه الإنسان في الحياة بالحمار الذي يصعدون به جبال الألب، ويضعون على رأسه حديدة يعلقون فيها العلف بحيث لا يناله ولا يغيب عن نظره! فهو أبدًا صاعد وهو أبدًا بعيد من ذلك العلف المأمول! ولكنه يصعد ويصعد وينسى مشقة الصعود، ويتلهى عن الجوع، ويقوم بأداء ما هو مسخر فيه، وكذلك الإنسان يفتأ ينظر إلى الأمل الذي بين عينيه فيخطئه أو يصيبه، ولكنه يستعين به على الصعود في مرتقى الحياة، ويؤدي ما هو مفروض عليه وهو يحسب أنه ساع إلى طعامه، فلنستقر على هذا إذا كان لا بد من استقرار، ولنعلم إن رضينا أو غضبنا أننا ما لنا غيره من قرار.
بقي أن نشغل أنفسنا بما يتاح لنا من الكمال المحدود في هذا العمر القصير، ولا عجب أن نشغل أنفسنا بهذا فقد سمعنا بالكثيرين ممن قضي عليهم بالموت يذهبون إلى الجلاد في أجمل بزة، وأحسن هيئة، ويأبون أن يذهبوا إليه شعثًا غبرًا على غير ما يليق بهم من السمت والجمال، فإذا كانت «الإنسانية» مقضيًا عليها بالموت بعد الدهر الدهير، فليس ذلك بمانع أحدًا أن يتزيا بما يتاح له من أزياء الكمال في البقية الباقية لها من العمر الطويل؛ لأن الكمال خير من النقص على كل حال، أو لعله أسهل من النقص في عرف من ينشدونه ولا يعيشون بغيره.
فقد كان البحتري أسلس من المتنبي نظمًا، وأسرى إلى النفس نغمًا، وأعذبه في الذوق مسًّا، وكان مع هذا يعاني في النظم ما لم يكن يعانيه المتنبي الذي لا تسمع منه تلك الصيحة البلبلية الدافقة الطيعة، ولا تتوسم على قصائده ذلك السخاء الفياض بالخواطر والعبارات، وربما حذف البحتري نصف القصيدة لتسلم له السلاسة في بقيتها، ولم يكن المتنبي يفرط في بيت مما يقصد معناه، ولقد كان زهير أسلس من طرفة، وكان طرفة أسخى بالشعر وأسرع في صياغته من صاحب الحوليات الذي قيل: إنه كان ينظم كل قصيدة في عام، وقد عرف عن أناتول فرانس أنه كان يعيد كتابة الجملة الواحدة خمس مرات وستًّا وثمانيًا في بعض الأحيان، وهو ذلك الكاتب الذي يخيل
...more