More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
إذا استقبلتَ العالَم بالنفس الواسعة رأيتَ حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيِّق لا هي.
انظري ها هم أولاء يُرَى عليهم أثر الغنى، وتُعرف فيهم روح النعمة؛ وقد شَبِعوا … إنهم يلبسون لحمًا على عظامهم، أما نحن فنلبس على عظامنا جلدًا كجلد الحذاء؛ إنهم أولاد أهليهم، أما نحن فأولاد الأرض؛ هم أطفال، ونحن حطب إنساني يابس؛ يعيشون في الحياة ثم يموتون، أما نحن فعيشنا هو سكرات الموت إلى أن نموت؛ لهم عيش وموت، ولنا الموت مكررًا.
ويحك، إن الأقدار لا تدلِّل أحدًا، لا ملكًا ولا ابن ملك، ولا سوقيًّا ولا ابن سوقي، ومتى صِرتم جميعًا إلى التراب فليس في التراب عظمٌ يقول لعظمٍ آخر: أيها الأمير
أحببتها جهدَ الهوى حتى لا مزيد فيه ولا مطمع في مزيد، ولكنَّ أسرارَ فتنتِها استمرت تتعدد فتدفعني أن يكون حبي أشد من هذا؛ ولا أعرف كيف يمكن في الحب أشد من هذا!
ولقد كنتُ في استغاثتي بها من الحب كالذي رأى نفسه في طريق السيل ففرَّ إلى ربوة عالية في رأسها عقلٌ لهذا السيل الأحمق، أو كالذي فاجأه البركان بجنونه وغلظته فهرب في رقة الماء وحلمه، ولا سيل ولا بركان إلا حُرقتي بالهوى وارتماضي من الحب.
فإن السَّعَةَ سَعَةُ الخُلُقِ لا المال، وإن الفقر فقرُ الخُلُق لا العيش.
فلمَّا فرغوا من دفنها وسُوِّيَ عليها، قام شيخنا على قبرها وقال: يرحمكِ الله يا فلانة! الآن قد شُفيتِ أنتِ ومرضتُ أنا، وعُوفيتِ وابتُليتُ، وتركتِنِي ذاكرًا وذهبتِ ناسية، وكان للدنيا بك معنى، فستكون بعدَكِ بلا معنى؛ وكانت حياتك لي نصف القوة، فعاد موتك لي نصف الضعف؛ وكنت أرى الهموم بمواساتك همومًا في صورها المخففة، فستأتيني بعد اليوم في صورها المضاعفة! وكان وجودك معي حجابًا بيني وبين مشقات كثيرة، فستخلُص كل هذه المشاق إلى نفسي؛ وكانت الأيام تمر أكثر ما تمرُّ رقتُك وحنانُك، فستأتيني أكثر ما تأتي متجردة١ في قسوتها وغلظتها. أما إني — والله — لم أُرزأ منكِ في امرأة كالنساء، ولكني رُزئت في المخلوقة
...more
ذاك يومٌ امتدَّ فيه الموت وكبر، وانكمشت٧ فيه الحياة وصغرت، وتحاقرت الدنيا عند أهلها، حتى رجعت بمقدار هذه الحفرة التي يُلقى فيها الملوك والصعاليك والأخلاط بين هؤلاء وأولئك، لا يصغر عنها الصغير، ولا يكبر عنها الكبير؛ لا بل دون ذلك، حتى رجعتِ الدنيا على قدر جِيفة حيوان بالعَرَاء، تنكشف للأبصار عن شَوْهاءَ٨ نجسةٍ قد أَرَمَّتْ٩ لا تُطاقُ على النظر، ولا على الشم، ولا على اللمس؛ وما تتفجَّرُ إلا عن آفة، وما تتفجر إلا لهوام الأرض.
وأما الظن بالله فينبغي أن يعلو به فوق الفترات والعلل والآثام، ولا يزال يعلو؛ فإن الله عند ظن عبده به، إن خيرًا فله وإن شرًّا فله.
والإنسان عند الناس بهيئة وجهه وحليته التي تبدو عليه، ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنِّه الذي يظنُّ به؛
والدين حرية القيد لا حرية الحرية؛ فأنت بعدَ أن تُقَيِّدَ رذائلك وضَرَاوتك وشرَّك وحيوانيتك، أنت من بعد هذا حرٌّ ما وسعتك الأرض والسماء والفكر؛ لأنك من بعد هذا مكمِّل للإنسانية، مستقيم على طريقتها.
ثم يستوي الجميع في هذا المسجد استواءً واحدًا، ويقفون موقفًا واحدًا، ويخشعون خشوعًا واحدًا، ويكونون جميعًا في نفسية واحدة؛ وليس هذا وحده، بل يَخِرُّون إلى الأرض١٥ جميعًا ساجدين لله؛ فليس لرأس على رأس ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز؛ ومن ثم فليس لذات على ذات سلطان. وهل تحقِّق الإنسانيةُ وَحْدَتها في الناس بأبدعَ من هذا؟ ولعمري أين يجدُ العالمُ صوابَه إلا ها هنا؟
دموع المظلومين هي في أعينهم دموع، ولكنها في يد الله صواعق يضرب بها الظالم.»
ولو اجتمعتْ فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألِّهين وجُعلت في نصابٍ واحد، ما بلغتْ أن يجيء منها مثلُ نفسه ﷺ.
هي خمس صلوات، وهي كذلك خمس مرات يفرغ فيها القلب مما امتلأ به من الدنيا، فما أدقَّ وأبدعَ وأصدقَ قوله ﷺ: «جُعِلت قرَّة عيني في الصلاة»!
أفليس هذا فصلًا فلسفيًّا دقيقًا يعلِّم المسلمين كيف يجب أن ينشأ المسلم: غِناه في قلبه، وقوته في إيمانه، وموضعه في الحياة موضع النافع قبل المنتفع، والمصلح قبل المقلِّد؛ وفي نفسه من قوة الحياة ما يموت به في هذه النفس أكثر ما في الأرض والناس من شهوات ومطامع؟
وأن ساعة من الحزن في يوم، لا يُحكَم بها على الزمن كله،
أما لو أن شيئًا يخترع التوبة في الأرض لاخترعها القبر الذي يدفن فيه بعضكم بعضًا كل طرفة عين من الزمن، فتنزلون فيه الميت المسكين قد انقطع من كل شيء وتتركونه لآثامه، وحساب آثامه، والهلاك الأبدي في آثامه، ثم تعودون أنتم لاقتراف هذه الآثام بعينها.