More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلتِ النفسُ من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهمُّ فأنت مقيم لم تبرح.
أليس عجيبًا أن كل إنسان يرى في الأرض بعضَ الأمكنة كأنها أمكنة للروح خاصة؟! فهل يدل هذا على شيء إلا أن خيال الجنة منذ آدم وحواء، لا يزال يعمل في النفس الإنسانية؟
إذا استقبلتَ العالَم بالنفس الواسعة رأيتَ حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيِّق لا هي.
وسر السعادة أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعل الأحسن أحسن مما يكون، وتمنع الأسوأ أن يكون أسوأ مما هو،
فإنه متى ثَقُل الهم على نفس من الأنفس، ثَقُل على ساعتها التي تكون فيها، فتطول كآبتها ويطول وقتها جميعًا.
وأشدُّ سجون الحياة فكرةٌ خائبةٌ يُسْجَنُ الحيُّ فيها، لا هو مستطيعٌ أن يدَعها، ولا هو قادرٌ أن يحقِّقَها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوَّله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولا تزال تُشعِره الحياة أنَّ كل ما فات من العذاب إنما هو بَدْء العذاب.
قَبَّح الله عصرًا يجهل الشاب فيه أن الرجل والمرأة في الوطن كلمتان تفسر الإنسانية إحداهما بالأخرى تفسيرًا إنسانيًّا دينيًّا بالواجبات والقيود والأحمال، لا بالأهواء والشهوات والانطلاق كما تفسِّر الحيوانيةُ الذكرَ والأنثى.
وأعظم أسباب هذا السقوط في رأيي هو ضعف التربية الدينية في الجنسين، وخاصةً الشبان؛ ظنًّا من الناس أن الدين شأن زائد على الحياة، مع أنه هو لا غيره نظام هذه الحياة وقوامها في كل ما يتصل منها بالنفس.
وليست المدنية الصحيحة — كما يحسب المفتونون — هي نوع المعيشة للحياة ومادتها، بل نوع العقيدة بالحياة ومعانيها؛ وإلى هذا ترمي كل مبادئ الإسلام، فإن هذا الدين القوي الإنساني لا يعبأ بزخارف كهذه التي تتلبَّس بها المدنية الأوروبية القائمة على الاستمتاع، وفنون اللذات، وانطلاق الحرية بين الجنسين؛ فهذا بعينه هو التحطيم الإنساني الذي ينتهي بتهدُّم تلك المدنية وخرابها؛ وإنما يعبأ الإسلام بالعقيدة التي تنظِّم الحياة تنظيمًا صحيحًا متساوقًا،١٨ وافيًا بالمنفعة، قائمًا بالفضيلة، بعيدًا من الخلط والفوضى.
وكنت مدمنًا على الخمر؛ لأنها روحانيةُ من عَجَز أن تكون فيه روحانية، وكأنها إلهية يزوِّرها الشيطان — لعنه الله — فيخلق بها للنفس ما تحب مما تكره، ويُثيبها ثوابَ ساعةٍ ليست في الزمن بل في خيال شاربها.
قال الشيخ: هوِّنوا عليكم، فإن للمؤمن ظنَّيْن: ظنًّا بنفسه، وظنًّا بربه؛
والإنسان عند الناس بهيئة وجهه وحليته التي تبدو عليه، ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنِّه الذي يظنُّ به؛ وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة٣ مما تحتها. فيا لها سخرية أن تزعم القشرة لنفسها أن بها هي الاعتبار عند الناس لا بما فيها؛ إذ كان ما تحويه لا يكون إلا فيها هي؛ ومن ثَمَّ تُبْعِدُ في حماقتها فتسأل: لماذا يرميني الناس ولا يأكلونني …؟!
يستنكفون، وإنما السعيد من وجد كلماتٍ روحانية إلهية يعيش قلبه فيهن،
إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجرُّه على الإنسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارفته الشهوات، وبإحساسه غرور القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان عن نفسه ليجلبها على نفسه في صور أخرى!
فيا ما أحكمَ وأعجبَ قول النبي ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن.» جعل نزع الإيمان موقوتًا «بالحين» الذي تُقْتَرَفُ فيه المعصيةُ؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك «الحين».
وآلةُ الوقوع والطيران بالإنسان شهواته ورغباته؛ فإن حطَّتْه شهوة لا ترفعه؛ فقد أوبقتْهُ وأهلكتْهُ وقذفتْ به ليُؤخَذ.
لقد رُوينا عن النبي ﷺ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.» وهذا ضربٌ من خشوع القلب المؤمن فيما يحلُّ له: يدع أشياءَ كثيرة لا بأس عليه فيها لو أتاها؛ ليقوى على أن يدع ما فيه بأس، فإنَّ الذي يترك ما هو له يكون أقوى على ترك ما ليس له.
فإذا وجدَتْ إحدانا رجلًا بأخلاقه لا بأخلاقها … ردَّتْها أخلاقُهُ إلى المرأة التي كانت فيها من قبل، وزادتها طبيعتُها الزَّهْو٤ بهذا الرجل النادر، فتكون معه في حالةٍ كحالةِ أكمل امرأةٍ،
إذا خرجتِ المرأة من حدود الأسرة وشريعتها، فهل بقي منها إلا الأنثى مجردة تجريدَها الحيواني المتكشِّف المتعرِّض للقوة التي تناله أو ترغب فيه؟ وهل تعمل هذه المرأة عند ذلك إلا أعمالَ هذه الأنثى؟
تتجدَّد الحياة متى وَجَدَ المرء حالةً نفسيةً تكون جديدةً في سرورها.
حريةُ المرأة في هذه المدنية أوَّلُها ما شئتَ من أوصاف وأسماء، ولكنَّ آخرَها دائمًا إما ضياع المرأة، وإما فساد المرأة.
أما الرجل فينبغي له أن يتزوَّج، ويتحصَّن، ويغار على المرأة، ويعمل لها؛ وأما المجتمع فيجب عليه أن يتأدَّب، ويستقيم، ويُعين الفرد على واجبات الفضيلة، ويتدامج٤ ويشدَّ بعضه بعضًا؛ وأما الحكومة فعليها أن تحميَ المرأةُ، فتُعاقِب على إسقاطها عقابَ الموتِ والألم والتشهير؛ لتقيم من الثلاثة حُرَّاسًا جبابرة، من لا يخشَ الله خشيها؛ فليس يمكن أبدًا أن يكون في ديننا موضع غلطة تسقط فيه المرأة.
قلت: ولهذا لا أرجع عن رأيي أبدًا، وهو أنه لا حريةَ للمرأة في أمَّة من الأمم، إلا إذا شعر كل رجل في هذه الأمة بكرامة كل امرأة فيها، بحيث لو أُهينتْ واحدةٌ ثارَ الكلُّ فاستقادوا لها،١١ كأن كرامات الرجال أجمعين قد أُهينت في هذه الواحدة؛ يومئذٍ تصبح المرأة حرة، لا بحريتها هي، ولكن بأنها محروسة بملايين من الرجال …
وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياءُ؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمتْ؛ أي توقَّحت، أي تبذَّلت، استوى عندها أن تذهب يمينًا أو تذهب شِمالًا، وتهيَّأت لكلٍّ منهما ولأيهما اتفق؛ وصاحبات اليمين في كَنَف١٢ الزوج وظِلِّ الأسرة وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال …!
قالتْ: ذاك أردتُ، فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق، فلا تَعُدَّنَّهُ من فَرْط الجمال،١٤ بل من قلة الحياء.
والدين حرية القيد لا حرية الحرية؛ فأنت بعدَ أن تُقَيِّدَ رذائلك وضَرَاوتك وشرَّك وحيوانيتك، أنت من بعد هذا حرٌّ ما وسعتك الأرض والسماء والفكر؛ لأنك من بعد هذا مكمِّل للإنسانية، مستقيم على طريقتها.
وإنما الرجولة في خلالٍ ثلاث: عملُ الرجل على أن يكون في موضعه من الواجبات كلها قبل أن يكون في هواه؛ وقبولُهُ ذلك الموضع بقبول العامل الواثق من أجره العظيم، والثالثة: قدرتُهُ على العمل والقبول إلى النهاية.
وعند أهل المروءة والكرم، أن زوجة الرجل إنما هي إنسانيته ومروءته؛ فإن احتملها أعلن أنه رجل كريم، وإنْ نَبَذَها أعلن أنه رجل ليس فيه كرامة.
وهذا رأيٌ حَصِيفٌ٦ جيد، فإن العاشق الذي يتلعَّب الحب به ويصدُّه عن زوجته، لا يكون رجلًا صحيح الرجولة، بل هو أسخف الأمثلة في الأزواج، بل هو مجرم أخلاقي يَنْصِبُ لزوجته من نفسه مثالَ العاهر
يدري. بل هو غبي؛ إذ لا يعرف أن انفراد زوجته وتراجعها إلى نفسها الحزينة يُنشئ
والمرأة التي تجد من زوجها الكراهية لا تعرفها أنها الكراهة إلا أولَ أولَ؛ ثم تنظر فإذا الكراهة هي احتقارها وإهانتها في أخص خصائصها النسوية؛ ثم تنظر فإذا هي إثارة كبريائها وتحدِّيها، ثم تنظر فإذا هي دَفْع غريزتها أن تعمل على إثبات أنها جديرة بالحب، وأنها قادرة على النقمة والمجازاة؛ ثم تنظر فإذا برهانُ كلِّ ذلك لا يجيء من عقل ولا منطق ولا فضيلة، وإنما يأتي من رجل … رجل يحقق لها هي أن زوجها مغفل، وأنها جديرة بالحب.
فإن لم يكن الزوجُ في هذه الحالة رجلًا تامَّ الرجولةِ، أفسدتِ الحياةَ عليه وعلى زوجته صبيانيةُ روحه؛ فالتمس في الزوجة ما لم يعد فيها، فإذا انكشف فراغها ذهب يلتمسه في غيرها،
إن أساس الدين والكرامة ألا يخرج إنسانٌ عن قاعدة الفضيلة الاجتماعية في حل مشكلته إن تورَّط في مشكلة؛
وإذا حلَّ اللصُّ مشكلتَه على قاعدته هو فقد حلَّها، ولكنَّه حلٌّ يجعله هو بجملته مشكلة للناس جميعًا، حتى ليرى الشرع في نظرته إلى إنسانية هذا اللص أنه غير حقيق باليد العاملة التي خُلقت له فيأمر بقطعها.
ولعمري إذا لم يستطع الحكيم أن ينتصر على شهوة من شهوات نفسه، أو يُبطل حاجة من حاجاتها، فماذا فيه من الحكمة؟ وماذا فيه من النفس؟!
وقد بقي أن نذكر — توفيةً للفائدة — أنه قد يقع في مثل هذه المشكلة من نقصَتْ فُحُولَتُه من الرجال، فيدلِّس١١ على نفسه بمثل هذا الحب، ويبالغ فيه، ويتجرَّم على زوجته المسكينة التي ابتُليتْ به، ويختلق لها العلل الواهية المكذوبة، ويبغضها كأنه هو الذي ابتُلي بها، وكأن المصيبة من قِبَلها لا من قِبَله؛ وكلُّ ذلك لأن غريزته تحوَّلت إلى فكره، فلم تعد إلا
صورًا خيالية لا تعرف إلا الكذب. وقد قرر علماء النفس أن من الرجال من يكره زوجته أشدَّ الكره إذا شعر في نفسه بالمهانة والنقص من عجزه عنها … فهذا لا يكون رجلًا لامرأته إلا في العداوة والنقمة والكراهية وما كان من باب شفاء الغيظ، وامرأته معه كالمعاهَدة السياسية من طَرَف واحد: لا قيمة ولا حرمة؛ وإذا أحب هذا كان حبُّه خياليًّا شديدًا؛ لأنه من جهةٍ يكونُ كالتعزية لنفسه، ومن جهة أخرى يكون غَيْظًا لزوجته، وردًّا بامرأة على امرأة …

