More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
وأي بيانٍ في خضرة الربيع عند الحيوان من آكل العشب، إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد تكون بعدد أزهاره، ويكاد الندى يُنَضِّرها حُسْنًا كما ينضِّره. ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى — كالإيمان، والجمال، والحب، والخير، والحق — ستبقى محتاجةً في كل عصرٍ إلى كتابةٍ جديدة من أذهانٍ جديدة.
فاطمة وائل liked this
وفي هذه الحياة أحوال «ثلاث» يغيب فيها الكون بحقائقه؛ فيغيب عن السَّكران، والمخبول، والنائم؛ وفيها حالة رابعة يتلاشى فيها الكون إلا من حقيقة واحدة تتمثل في إنسان محبوب.
كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحاني في أجمل معانيه، فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيواني في أكثر معانيه؛ وكان يوم استرواح من جِدِّها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذُلِّه؛ وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة!
ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير؛ وليس العيد للأمة إلا يومًا تَعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع؛ يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيامِ، لا القدرة على تغيير الثياب …
لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلتِ النفسُ من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهمُّ فأنت مقيم لم تبرح.
في لحظة من لحظات الجسد الروحانية حين يفور شِعر الجمال في الدم، أطلتُ النظر إلى وردة في غصنها زاهية عطرة، متأنقة، متأنثة؛ فكدتُ أقول لها: أنتِ أيتها المرأة، أنتِ يا فلانة …
أليس عجيبًا أن كل إنسان يرى في الأرض بعضَ الأمكنة كأنها أمكنة للروح خاصة؟! فهل يدل هذا على شيء إلا أن خيال الجنة منذ آدم وحواء، لا يزال يعمل في النفس الإنسانية؟
والأمور المطمئنة كهذه التي أنت فيها هي للحياة أمراض مطمئنة، فإن لم تنقص من لذتها فهي لن تزيد في لذتها، ولكن مكابدة الحياة زيادة في الحياة نفسها.
ويخرج من ذلك أن يتقرر في الأمة أن كذب القوة صدقٌ بالقوة!
وتَمَجَّدَتِ الفضيلةُ كعادتها …! أَنَّ مسكينًا حلم بها
وكسرُ قلبٍ بكسرِ قلب وحَطْمُ نفسٍ بحَطْمِ نفس ورُبَّ عِزٍّ تراهُ أمسى كُنَاسة هُيِّئت لكَنْس
ولقد كنتُ في استغاثتي بها من الحب كالذي رأى نفسه في طريق السيل ففرَّ إلى ربوة عالية في رأسها عقلٌ لهذا السيل الأحمق، أو كالذي فاجأه البركان بجنونه وغلظته فهرب في رقة الماء وحلمه، ولا سيل ولا بركان إلا حُرقتي بالهوى وارتماضي من الحب.
وظننتُ أن هذه الجميلة إِنْ هي إلا صورةٌ من الوجود النسائي الشاذِّ، وقعَ فيها تنقيحٌ إلهي لتُظْهِرَ للدنيا كيف كان جمال حواء في الجنة.
قال: لا تسأل المرأة ممَّ تغضب، فكثيرًا ما يكون هذا الغضب حركة في طباعها، كما تكون جالسة وتريد أن تقوم فتقوم، وتريد أن تمشي فتمشي!
إن عمرَ الزوجة لو كان رقبةً وضُربت بسيف قاطع لكان هذا السيف هو الطلاق! وهل تعيش المطلقة إلا في أيامٍ ميتة؟ وهل قاتِلُ أيامها إلا مطلِّقها؟
وليست العين وحدها هي التي تؤامر في أيِّ الشيئين أجمل، بل هناك العقل والقلب، فجواب العين وحدَها إنما هو ثلث الحق، ومتى قيل: «ثلث الحق» فضياع الثلثين يجعله في الأقل حقًّا غير كامل.
والمرأة في كل امرأة، ولكن ليس العقل في كل امرأة.
فقلت لها: إن جزاء ما قدَّمتِ ما تسمعينه مني: «والله لأجعلنَّك حظِّي من دنياي فيما يُؤثِره الرجل من المرأة، ولأضربنَّ على نفسي الحجاب، ما تنظر نفسي إلى أنثى غيرك أبدًا.»
وأشدُّ سجون الحياة فكرةٌ خائبةٌ يُسْجَنُ الحيُّ فيها، لا هو مستطيعٌ أن يدَعها، ولا هو قادرٌ أن يحقِّقَها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوَّله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولا تزال تُشعِره الحياة أنَّ كل ما فات من العذاب إنما هو بَدْء العذاب.
والسعادة في جملتها وتفصيلها أن يكون لك فكرٌ غير مقيد بمعنى تتألم منه، ولا بمعنى تخاف منه، ولا بمعنى تحذر منه؛ والشقاء في تفصيله وجملته انحباس الفكر في معاني الألم والخوف والاضطراب.
التزيد في الأنوثة زيادةٌ في الأنثى عند الرجل، ولكن التزيُّد في الرجولة نقصٌ في الرجل عند الأنثى!
قالت شهر زاد المتعلمة، المتفلسفة، البيضاء، البضَّة، الرشيقة، الجميلة، للعبد الأسود الفظيع الدميم الذي تهواه: «ينبغي أن تكون أسود اللون، وضيع الأصل، قبيح الصورة؛ تلك صفاتك الخالدة التي أحبها …»
ولكن قبَّح الله المدنية وفنَّها؛ إنها أطلقت المرأة حرة، ثم حاطتها بما يجعل حريتها هي الحرية في اختيار أثقل قيودها لا غير. أنت محمَّل بالذهب، وأنت حر ولكن بين اللصوص؛ كأنك في هذا لست حرًّا إلا في اختيار من يجني عليك …!
ما كان الحجاب مضروبًا على المرأة نفسها، بل على حدود من الأخلاق أن تُجاوِز مقدارها أو يخالطها السوء أو يتدسَّس٢٢ إليها؛ فكل ما أدى إلى هذه الغاية فهو حجاب، وليس يؤدِّي إليها شيء إلا أن تكون المرأة في دائرة بيتها، ثم إنسانًا فقط فيما وراء هذه الدائرة إلى آخر حدود المعاني.
وما حال رجل عذابُهُ أنه رجل، وذُلُّه أنه رجل؟ يلبس ثيابه الإنسانية على مثل الوحش في سلاسله وأغلاله، ويحمل عقلًا تسبُّه الغريزة كل يوم، وتراه من العقول الزُّيُوف٩ لا أثر للفضيلة فيه؛ إذ هو مجنون بالمرأة جنونَ الفكرة الثابتة، فما يخلو إلى نفسه ساعة أو بعض ساعة إلا أخذته الغريزة مُجْتَرِحًا جريمةَ فِكْر …
ولا يعرف أن انفلاته من واجبات الزواج هو إضعافٌ في طبيعته لمعنى الإخلاص الثابت، والصبر الدائب،١٣ والعطف الجميل في أي أسبابها عَرَضتْ.
فلمَّا فرغوا من دفنها وسُوِّيَ عليها، قام شيخنا على قبرها وقال: يرحمكِ الله يا فلانة! الآن قد شُفيتِ أنتِ ومرضتُ أنا، وعُوفيتِ وابتُليتُ، وتركتِنِي ذاكرًا وذهبتِ ناسية، وكان للدنيا بك معنى، فستكون بعدَكِ بلا معنى؛ وكانت حياتك لي نصف القوة، فعاد موتك لي نصف الضعف؛ وكنت أرى الهموم بمواساتك همومًا في صورها المخففة، فستأتيني بعد اليوم في صورها المضاعفة! وكان وجودك معي حجابًا بيني وبين مشقات كثيرة، فستخلُص كل هذه المشاق إلى نفسي؛ وكانت الأيام تمر أكثر ما تمرُّ رقتُك وحنانُك، فستأتيني أكثر ما تأتي متجردة١ في قسوتها وغلظتها. أما إني — والله — لم أُرزأ منكِ في امرأة كالنساء، ولكني رُزئت في المخلوقة
...more
وقد تخشعُ القلوبُ لبعض الأهواء خشوعًا هو شرٌّ من الطغيان والقسوة؛ فتقيُّد خشوع القلب «بذكر الله» هو في نفسه نفي لعبادة الهوى، وعبادة الذات الإنسانية في شهواتها، وما الشهوة عند المخلوق الضعيف إلا إله ساعتها. فيا ما أحكمَ وأعجبَ قول النبي ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن.» جعل نزع الإيمان موقوتًا «بالحين» الذي تُقْتَرَفُ فيه المعصيةُ؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك «الحين».
فلا يكون من إيمانه إلا سُموُّه وقوته وثباته، وينزل العمر عنده منزلة اللحظة الواحدة، وما أيسرَ الصبرَ على لحظة! وما أهون شر «الآن» إن كان الخير فيما بعده!
أي لأنه أعمى الأدب، وليس على الأعمى حرج.
احذري السقوط؛ إن سقوط المرأة لِهَوْلِهِ وشِدَّتِهِ ثلاثُ مصائب في مصيبة: سقوطها هي، وسقوط مَن أوجدوها، وسقوط من تُوجِدهم! نوائب٦ الأسرة كلها قد يسترها البيتُ، إلا عارَ المرأة.
«وكيف يُشعَبُ١ صَدْعُ٢ الحبِّ في كبدي؟» كيف يُشعَب صدع الحب؟ لَعمري ما رأيتُ الجمال مرَّةً إلا كان عندي هو الألم في أجمل صوره وأبدعها! أتُراني مخلوقًا بجُرْحٍ في القلب؟
فتفرَّغْتُ لها أنظر ماذا تصنع، وأنا أعلم أن مثل هذه قليلًا ما يكون لها فكر أو فلسفة؛ غير أن الفكر والفلسفة والمعاني كلها تكون في نظرها وابتساماتها وعلى جسمها كله.
يا عجبًا! إن جلوس إنسان إلى إنسان بإزائه، قد يكون أحيانًا سَفرًا طويلًا في عالم النفس:
إن الفكر في تخفيف العبء الذي تحمله يجعله أثقل عليك مما هو؛ إذ يُضيف إليه الهم، والهم أثقل ما حملتْ نفسٌ؛ فما دمتَ في العمل فلا تتوهمَنَّ الراحة، فإن هذا يوهن القوة، ويخذل النشاط، ويجلبُ السأم؛ وإنما روحُ العملِ الصبرُ، وإنما روح الصبر العزم.
النفس أسمى من المادة الدنيئة، وأقوى من الزمن المخرب، ولا دين لمن لا تشمئز نفسه من الدناءة بأَنَفَةٍ طبيعية، وتحمل هموم الحياة بقوة ثابتة.
وعندي أن المرأة إذا كان لها رأي ديني ترجع إليه، وكان أمرها مجتمعًا في هذا الرأي، وكانت أخلاقُها محشودةً٥ له، مُتَحَفِّلةً به،٦ فتلك هي الياقوتة التي تُرمى في اللهب ولا تحترق، وتظل مع كل تجربة على أول مجاهدتها؛ إذ يكون لها في طبيعة تركيبها الياقوتي ما تهزم به طبيعة التركيب الناري.
وعند أهل الشرف، أنه مهما يبلغ من حرية المرء في هذا العصر فالشرف مقيَّد.
ونحن معها كأرسطاطاليس مع صديقه الظالم حين قال له: هَبْنا نقدر على محاباتك في ألا نقول إنك ظالم؛ هل تقدر أنت على ألا تعلم أنك ظالم؟!
وقد علمنا من طبيعة النفس أن إنسانية الفرد لا تعظُمُ وتسمو وتتخيل وتفرح فرحها الصادق وتحزن حزنها السامي، إلا أن تعيش في محبوب؛ فإنسانية العالم لا تكون مثل ذلك إلا إذا عاشت في نبيها الطبيعي، نبي أخلاقها الصحيحة وآدابها العالية ونظامها الدقيق؛ وأين تجد هذا المحبوب الأعظم إلا في محمد ودين محمد؟
بين ساعاتٍ وساعاتٍ في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة؛ أي إسلامُ النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة٩ القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكارٌ لمعانيها الذاتية الفانية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارُها لحظات في حيز الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها. ومعنى ذلك كله تحقيق المسلم لوجود روحه؛ إذ كانت أعمال الدنيا في جملتها طُرُقًا تتشتَّت فيها الأرواح وتتبعثر، حتى تضلَّ روح الأخ عن روح أخيه فتنكرها ولا تعرفها!
من أوصاف النبي ﷺ أنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي١ ولا المَهِين، يعظِّم النعمة وإن دقَّت، لا يذمُّ منها شيئًا، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تُعُدِّي الحق لم يقُم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها؛ وكان خافض الطرف،٢ نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبَّه، ولا يحسب جليسُهُ أن أحدًا أكرم عليه منه، ولا يَطوي عن أحدٍ من الناس بِشْرَه،٣ قد وسِعَ الناسَ بَسْطُه وخُلُقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء؛ يُحسِّن الحسن ويقوِّيه، ويقبِّح القبيح ويُوهيه،٤ معتدل
...more
أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك.
قالت عائشة — رضي الله عنها: لم يمتلئ جوفُ النبي ﷺ شبعًا قط، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعامًا ولا يتشهَّاه؛ إن أطعموه أكل، وما أطعموه قَبِل، وما سقَوْه شَرِب.
وقالت: ما رفع رسول الله ﷺ قط غداءً لعشاء، ولا عشاءً لغداء، ولا اتخذ من شيء زوجين؛ لا قميصين، ولا ردائين، ولا إزارين، ولا زوجين من النعال.
وعن ابن مجير قال: أصاب النبي ﷺ جوعٌ يومًا، فعَمَدَ٢ إلى حجر فوضعه على بطنه، ثم قال: «ألا ربَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة؛ ألا ربَّ مُكرِم نفسه وهو مُهين لها؛ ألا ربَّ مُهين نفسه، وهو مُكرِم لها.»
وخيِّر ﷺ أن يكون له مثل «أُحدٍ» ذهبًا فقال: «لا يا ربِّ؛ أجوع يومًا فأدعوك، وأشبع يومًا فأحمدك»!