More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
فالقائل مثلا: إن أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين؟ والقائل: إن الداء اختلاف الآراء، يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال سببه الجهل، يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشد … وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأن الله حكيم عادل رحيم ….
«المستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق»
«المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو الشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت.»
من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك أن الله جلت نعمه خلق الإنسان حرا قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل.
الاستبداد يد الله القوية الخفية يصفع بها رقاب الآبقين من جنة عبوديته إلى جهنم عبودية المستبدين الذين يشاركون الله في عظمته ويعاندون جهارا، وقد ورد في الخبر: (الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه)، كما جاء في أثر آخر: (من أعان ظالما على ظلمه سلطه الله عليه) ولا شك في أن إعانة الظالم تبتدئ من مجرد الإقامة في أرضه.
نعم، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيث أرسل لهم رسولا من أنفسهم، أسس لهم أفضل حكومة أسست في الناس، جعل قاعدتها قوله: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته» أي كل منكم سلطان عام ومسئول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قاله مشرع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرف المعنى عن ظاهره وعموميته إلى أن المسلم راعٍ على عائلته ومسئول عنها فقط.
كما حرّفوا معنى الآية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلى ولاية الشهادة دون الولاية العامة. وهكذا غيروا مفهوم اللغة، وبدّلوا الدين، وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال، وعزة الحرية؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر.
ومعنى التقوى لغةً ليس كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير (عند الله) أي في الآخرة دون الدنيا؛ بل التقوى لغةً هي الاتقاء أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازا من عقوبة الله. فقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ كقوله إن أفضل الناس أكثرهم ابتعادا عن الآثام وسوء عواقبها.
العوام هم قوّة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريم؛ وإذا قتل منهم ولم يمثل، يعتبرونه رحيما؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة.
إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم؛ وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن وهم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كل شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياة تعيسة فقط.
المجد هو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان، لا يترفع عنه نبي أو زاهد ولا ينحط عنه دني أو خامل. للمجد لذة روحية تقارب لذة العبادة عند الفانين في الله وتعادل لذة العلم عند الحكماء وتربو على لذة امتلاك الأرض مع قمرها عند الأمراء، وتزيد على لذة مفاجأة الإثراء عند الفقراء ولذا يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة.
فتواسيها فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين يقولون يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تَلَقِّيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم التدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنا في أوطاننا، واكشف عنا البلاء أنت حسبنا ونعم الوكيل.
أسير الاستبداد لا نظام في حياته، فلا نظام في أخلاقه، قد يصبح غنيا فيضحى شجاعا كريما، وقد يمسي فقيرا فيبيت جبان خسيسا، وهكذا كل شئونه تشبه الفوضى لا ترتيب فيها، فهو يتبعها بلا وجهة.
وقد تغالى وعاظهم في سد أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه الأقوال من الحكم النبوية، وكم هجوا لهم الهجو والغيبة بلا قيد، فهم يقرءون: لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ويغفلون بقية الآية وهي: إِلاَّ مَن ظُلِمَ.
ومع ذلك فالجسور لا يرى بدا من الاستثناء المخل للقواعد العامة كقوله: السرقة قبيحة إلا إذا كانت استردادا منها، والكذب حرام إلا للمظلوم.
«إذا ساءت فعال المرء ساءت ظنونه».
وهذا الحكم صادق على عكس القضية أيضا، أي أن الأمين يظن الناس أمناء خصوصا أشباهه في النشأة، وهذا معنى «الكريم يُخدع»، وكم يذهل الأمين في نفسه عن اتباع حكمة الحزم في إساءة الظن في مواقعه اللازمة.
الإنسان لا حدّ لغايتيه رقيا وانحطاطا. وهذا الإنسان الذي حارت العقول فيه، الذي تحمّل أمانة تربية النفس، وقد أبتها العوالم، فأتم خالقه استعداده ثم أوكله لخيرته. فهو إن يشأ الكمال يبلغ فيه إلى ما فوق مرتبة الملائكة، وإن شاء تلبس بالرذائل حتى يكون أحط من الشياطين، على أن الإنسان أقرب للشر منه للخير.
التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين، هي وظيفة الأم أو الحاضنة، ثم تضاف إليها تربية النفس إلى السابعة، وهي وظيفة الأبوين والعائلة معا، ثم تضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ، وهي وظيفة المعلمين والمدارس، ثم تأتي تربية القدرة بالأقربين والخلطاء إلى الزواج، وهي وظيفة الصدفة، ثم تأتي تربية المقارنة، وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق.
الأسير المعذب المنتسب إلى دين يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعده له الرحمن، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وأنه ربما كان خاسر الصفقتين، بل ذلك هو الكائن غالبًا. ولبسطاء الإسلام مسليات أظنها خاصة بهم يعطفون مصائبهم عليها وهي نحو قولهم: الدنيا سجن المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحب الله عبدًا ابتلاه، هذا شأن آخر الزمان، حسب المرء لقيمات يقمن صلبه. ويتناسون حديث «إن الله يكره العبد البطال» والحديث المفيد معنى «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها»، ويتغافلون عن النص القاطع المؤجل قيام الساعة إلى ما بعد استكمال الأرض زخرفتها وزينتها. وأين ذلك بعد؟
إن دام هذا ولم تحدث له غِيَرُ لم يُبكَ ميت ولم يفرح بمولود
لا ترجع الأنفس عن غيّها ما لم يكن منها لها زاجر
وهذا سرُّ أن الإنسان ينتابه الخير والشر. وهو سرُّ ما ورد في القرآن الكريم من ابتلاء الله الناس بالخير وبالشر. وهو معنى ما ورد في الأثر من أن الخير مربوط بذيل الشر، والشر مربوط بذيل الخير، وهو المراد من أقوال الحكماء نحو: على قدر النعمة تكون النقمة، على قدر الهمم تأتي العزائم، بين السعادة والشقاء حرب سجال، العاقل من يستفيد من مصيبته والكيس من يستفيد من مصيبته ومصيبة غيره، والحكيم من يبتهج بالمصائب ليقطف منها الفوائد، ما كان في الحياة لذة لو لم يتخللها آلام.
«يا قوم، ينازعني والله الشعور، هل موقفي هذا في جمعٍ حيٍّ فأحييه بالسلام، أم أنا أخاطب أهل القبور فأحييهم بالرحمة؟ يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يسمى التنبت، ويصح تشبيهه بالنوم! يا رباه: إني أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون، بل هم موتى لأنهم لا يشعرون».
«يا قوم، هداكم الله، إلى متى هذا الشقاء المديد والناس في نعيم مقيم، وعز كريم، أفلا تنظرون؟ وما هذا التأخر وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل، حتى صار كما صار بعد ورائكم أمامًا! أفلا تتبعون؟ وما هذا الانخفاض والناس في أوج الرفعة، أفلا تغارون؟ أناشدكم الله، هل طابت لكم طول غيبة الصواب عنكم؟ أم أنتم كأهل ذلك الكهف ناموا ألف عام ثم قاموا، وإذا بالدنيا غير الدنيا والناس غير الناس فأخذتهم الدهشة والتزموا السكون». «يا قوم، وقاكم الله من الشرّ، أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل، وبداء الحرص على كل عتيق كأنكم خلقتم للماضي لا للحاضر: تشكون حاضركم وتسخطون
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
«يا قوم، شفاكم الله، قد ينفع اليوم الإنذار واللوم، وأما غدًا إذا حل القضاء، فلا يبقى لكم غير الندب والبكاء. فإلى متى هذا التخادع والتخاذل، وإلى متى هذا التواني والتدابر، وإلى متى هذا الإهمال؟ هل طاب لكم النوم على الوسادة اللينة، وسادة الخمول، أم طاب لكم السكون وتودون لو تسكنون القبور، أم عاهدتم أنفسكم أن تصلوا غفلة الحياة بالممات، فلا تفيقوا من السبات قبل صباح يوم النشور، يوم تعلو السيوف رقابكم وتصمي المدافع آذانكم فتمسون الأذلاء حقًا وحق لكم أن تذلوا؟». «يا قوم، رحمكم الله، ما هذا الحرص على حياة تعيسة دنيئة لا تملكونها ساعة، ما هذا الحرص على الراحة الموهومة وحياتكم كلها تعب ونصب؟ هل لكم في
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وطعم الموت في أمر صغير كطعم الموت في أمر عظيم
«يا قوم، قد ضيع دينكم ودنياكم ساستكم الأولون وعلماؤكم المنافقون، وإني أرشدكم إلى عمل إفرادي لا حرج فيه علمًا ولا عملا: أليس بين جنبي كل فرد منكم وجدان يميز الخير من الشر والمعروف من المنكر ولو تمييزًا إجماليًّا؟ أما بلغكم قول معلم الخير نبيكم الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»، وقوله: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». «وأنتم تعلمون إجماع أئمة مذاهبكم كلها على أن أنكر المنكرات بعد الكفر هو الظلم الذي فشا فيكم، ثم قتل النفس، ثم وثم …. وقد أوضح
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
«وأنت أيها الشرق الفخيم رعاك الله. ماذا دهاك؟ ماذا أقعدك عن مسراك، أليست أرضك تلك الأرض ذات الجنان والأفنان، ومنبت العلم والعرفان. وسماؤك تلك السماء مصدر الأنوار، ومهبط الحكمة والأديان. وهواؤك ذاك النسيم العدل، لا العواصف والضباب. وماؤك ذاك العذب الغدق، لا الكدر ولا الأجاج؟». «رعاك الله يا شرق، ماذا أصابك فأخلّ نظامك، والدهر ذاك الدهر ما غير وضعك ولا بدل شرعه فيك؟ ألم تزل مناطقك هي المعتدلة، وبنوك هم الفائقون فطرةً وعددًا؟ أليس نظام الله فيك على عهده الأول ورابطة الأديان في بنيك محكمة قويمة، مؤسسة على عبادة الصانع الوازع. أليست معرفة المنعم حقيقة راهنة أشرقت فيك شمسها، أيدت بها عز النفس،
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
إن الأمر مقدور ولعله ميسور. ورأس الحكمة فيه كسر قيود الاستبداد. وأن يكتب الناشئون على جباههم عشر كلمات وهي: (١) ديني ما أظهر ولا أخفي. (٢) أكون حيث يكون الحق ولا أبالي. (٣) أنا حر وسأموت حرًّا. (٤) أنا مستقل لا أتكل على غير نفسي وعقلي. (٥) أنا إنسان الجد والاستقبال لا إنسان الماضي والحكايات. (٦) نفسي ومنفعتي قبل كل شيء. (٧) الحياة كلها تعب لذيذ. (٨) الوقت غال عزيز. (٩) الشرف في العلم فقط. (١٠) أخاف الله لا سواه.

