ماريو وأبو العباس

by ريم بسيوني

لا داعي لهذه الحرب، تعرف أنه لا داعي لهذه الحرب، الطمع نهايته الفناء. لا حروب باسم الرب يا أخي، الله في كل مكان اعبده حيثما تكون، لا تسافر المسافات بحثًا عنه، فلو لم تجده في قلبك فلن تجده.

أدركت جهلي فبدأت طريق المعرفة أو كدت.

حُب النساء فتنة يستطيع الرجل السيطرة عليها أحيانًا، وحب المال أيضًا، ولكن حب السلطة والقوة والرياسة يذهب بعقول الرجال، هو أكبر الابتلاءات ويصاحبه الحسد والبغض. لا تبال ولا تكره، ادعُ ربك أن يقويك. هو ربك القائم عليك. هو القيوم وهو ربك الذي رباك على رحمته ولطفه.

تردد اسمي في القاهرة.. قالوا: تلميذ الشاذلي الشاب له كرامات، يعرف السر ويتقنه. يقولون: أتى من بلاد بعيدة..نحتاج إليه في هذا الغم وهذه الشدة. وجدت الناس يلتفون حولي لأول مرة..أم تدفع بابنها الرضيع إلى صدري قائلة: سيدي، بارك هذا الطفل الوليد بنفحة من ثناياك. فقلت مسرعًا وأنا أعيده إليها في رفق: تصدقي يا أختاه الصدقة بركة. - ولكن بركتك تعم كل الدنيا. - أنا عبد فقير، تطلبين من ميت ومعك الحي الذي لا يموت! ثم جرى نحوي عجوز يقول في وهن: أعطني دعاء يشفي المرض. - لكل داء دواء، ابحث عن دواء عند الطبيب، ولو لم تجد فتوكل على الله وسلِّم له في مقدوره، ولكن اسعَ أولًا ثم سلم.

- أي شيخ أنت؟ لا كرامات لديك! - كراماته تنتظرك أنت.. لو لم تحجب عنه ولو برهة ورأيته في كل شيء. الكرامة هي الاستقامة. استقم كما أُمرت تجد الرضا. جاهد نفسك ووهمك وطلبك الرياسة والفخر. المجاهدة صعبة وطلب التمائم والأدعية سهل. وبلا مجاهدة لا وصول إلى الباب. قالها الشيخ الشاذلي: يئست من نفع نفسي لنفسي، فكيف لا أيئس من نفع غيري لنفسي؟!

الإنسان يتملكه الوهم فيضل وسط شوقه ولوعته؛ لأنه مقيد بوقته وزمانه.

قال الشاذلي: فمن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن عرف الله صغر لديه كل شيء، ومن وحد الله لم يشرك به شيئًا، ومن آمن بالله أمِن من كل شيء، ومن أسلم لله قلَّما يعصيه، وإن عصاه اعتذر إليه، وإن اعتذر إليه قبل عذره. أحل الله لك الطيبات يا أخي فخذها ولا

أحوال العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.

إلهي استرني ولا تفضح عبدك الغافل. إلهي، قد أحاطت بي خطيئاتي فاغفر لي، وهب لي علمًا يوافق علمك، وحكمًا يصادق حكمك، واجعل لي لسان صدق بين عبادك، واجعلني من ورثة جنتك... وارفع الحجاب فيما بيني وبينك، واجعل مقامي عندك دائمًا بين يديك وناظرًا منك إليك، وأسقط البين عني حتى لا يكون شيء بيني وبينك....

اللهم لا تعذبنا بإرادتنا وحب شهواتنا، فنُشغل أو نحجب أو نفرح بوجود مرادنا، أو نحزن أو نسخط أو نسلم تسليم النفاق عند الفقد وأنت أعلم بقلوبنا، فارحمنا بالنعيم الأكبر، والمزيد الأفضل، والفوز الأكمل، وغيبنا وغيب عنا كل شيء، وأشهدنا وإياك بالإشهاد، وانصرنا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

ها أنت تتكلم كلمات أكبر مني يا أحمد. كيف لي أن أفكر في ربي فقط وبين يدي رزمة أطفال جياع وزوجة تلد طفلًا كل نصف عام. كيف لي أن أشغل نفسي بالعلم وأنا لا أجد قوت يومي. كلما حاولت أن أعمل أُغلق باب في وجهي كأنني مكتوب عليَّ الفقر. وكلما كتبت قصيدة أمدح فيها واليًا لم تعجبه. يقولون: الحظ يتبع البشر أينما ذهبوا. هيا يا شيخ.. أخبرني ماذا يملك العبد الفقير محمد البوصيري من الحكمة والحقيقة؟ أنت تطلب منا ما لا طاقة لنا به.

وعجبها، ظننت أنني تحملت أعباء الظلم وانتصرت على نفسي، وها أنا أقف أمام رجل فقد كل الحواس ولم يتذمر. تتلاشى الأشياء من حوله ولا تصيب روحه. تعلمت حينها أن السعادة منبعها الحرية، والحرية منبعها الروح، وكل ما دون الروح سواء، كل العلائق خارجة عن الروح لا تمسها، لا الحواس تمس الروح، ولا المال والولد، ولا الشبق، ولا الشهوة والسلطة. الرضا يأتي من روح لا حدود لها ولا زمن. تسكن جسدًا إلى حين، وتفارقه ولكنها دومًا تتوق إلى الحرية.

سيئتان قل ما ينفع معهما كثرة الحسنات: السخط لقضاء الله، والظلم لعباد الله. وحسنتان قل ما يضر معهما كثرة السيئات: الرضا بقضاء الله والصفح عن عباد الله.

هناك نوعان من الناس يا بهجة؛ نوع أنعم الله عليه بالقدرة على رؤية الألوان والعوالم، ونوع تقيد بصره فإذا هو مطموس كما رجال قريش يوم الغار. النوع الأول يا بهجة يرى الاختلاف ويتقبله ولا يفرق بين البشر لأن بصره وبصيرته تحررا، فلا لون يخيفه ولا صورة تزعزعه. يتأمل خلق الله فيتحرر من قيود البصر والوهم. هذا النوع لا يفرق بين الأبيض والأسود لأنه يرى الاثنين. أما النوع الآخر فلا يرى سوى من يشبهه، هذا هو السجين داخل صورته الضيقة، والسجن معذب دومًا، والحرية هي ما يتوق إليه البشر منذ الأزل.

أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة والبلية، والطاعة والمعصية. ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية، يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية. فمن كان وقته الطاعة، فسبيله شهود المئة من الله عليه، إذ هداه لها ووفقه للقيام بها. ومن كان وقته المعصية، فسبيله الاستغفار والتوبة. ومن كان وقته النعمة، فسبيله الشكر وهو فرح القلب بالله. ومن كان وقته البلية، فسبيله الرضا بالقضاء والصبر. والرضا رد النفس عن الشهوات؛ والصبر مشتق من الأصبار، وهو الغرض للسهام، وكذلك الصابر ينصّب نفسه غرضًا لسهام القضاء، فإن ثبت لها فهو صابر.

ردد الشيخ الخضر لنفسه: الصبر حتى يأتي يوم أبي العباس. واليوم هو يوم مسيحيي الإسكندرية. أشاع بين الناس أن الشيخ خضر يغار على الدين، ويدعي أن الدين واحد وكل ما دونه كفر، ولذا قرر الشيخ الخضر أن يحرق كنيسة الإسكندرية. جمع الرجال.. اختار كل فظ غليظ القلب وطلب منهم الذهاب اليوم لحرق الكنيسة وطرد القساوسة ولو تمنعوا أو قاوموا فالقتل هو السبيل.

خرجت كلمات كبير الأساقفة بصوت بائس: تشدد وتشجع لا ترهب ولا ترتعب لأن ربك إلهك معك حيثما تذهب. ها أنا مرسل ملاكًا أمام وجهك ليحفظك في الطريق. ثم اتجه القس إليّ ووضع يده على كتفي في خفوت وقال: العمر بيده والقدر بين يديه. رددت حينها كلمات القس ولم تترك أذني بقية عمري: تشدد وتشجع هو معك أينما ذهبت.. أقولها لي ولك.. تتعدد الطرق وتبقى الغاية. حسبي الله..

قابل رعاياك وتكلم معهم، افتح قلبك لهم تطمئن. اجعل يوم الجمعة يوم مقابلة أهل مصر. ضيقوا عليك السجن فأصبحت لا ترى ولا تسمع إلا ما يغربلونه لك بنفوسهم الضعيفة. ادفع الظلم تسلم. - من اليوم سأتقابل معهم كل يوم جمعة أسمع المظالم بنفسي. - ولو سمعت ما لا يروقك اجعل صاحب مملكتك عقلك يا مولاي. فكما لكل دولة خليفة واحد وإلا فسدت، فلكل إنسان خليفة واحد، قالها الشيخ الأكبر، اتبع العقل لا الهوى. - أفصح عما تريد. أتريدني أن أعاقب الشيخ خضر؟ - مولاي يحملني ما لا طاقة لي به. افعل ما يمليه عليك العدل. وأعد بناء كنيسة الإسكندرية.

أتريد أن تعرف كيف تركني الوسواس؟ لقد نسيت الشيطان وتذكرت حبه هو الكريم، طغى عليَّ الحب فهزم كل الحقد، أدركت حينها كيف جعلك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته ليُعْلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته، وأنك جوهرة تنطوي عليـك أصـداف مكوِّناته. أحببت حب الله لي وأتلفت كِبر النفس وغرورها. وثقت في عبادتي واستمعت للكلمات حتى إنني رأيت الدين سلسًا سهلًا جميلًا، لا خوف فيه إلا من الظلم والتعدي، ولا عذاب سوى لمن تحكمت فيه أهواؤه. كنت أردد: يا بن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتك من أجلي فلا تشتغل بما هو لك عمن أنت له. وكلما تملكتني اللهفة للوصول سريعًا، كنت أسمع شيخي يقول: لن يصل الوليُّ إلى الله حتى تنقطع عنه شهوة الوصول إلى الله.

إن المرض ليس بعقاب، بل قسوة القلب عقاب والكِّبر عقاب، وسوء العمل مع الجهل كبيرة من الكبائر.

وليس أقسى على أهل العلم من اندثار الكتب.

تعلمت أننا نعرف المشاعر فنحددها، بينما الحرية هي سر الوجود. لو غصنا في الأشياء وأدركنا عجز لغتنا عن التعبير ينفك القيد.