حكاية : س
يُحكى أنه في وقتٍ من أوقات الله المنقضية.. وقتٌ مهما دار فيه من ملاحم وأهوال فلن يؤثر في ناموس الكون، ولن يُحدث خللاً في ترتيب الفضاء السرمدي.. في وقتٍ كهذا يُحكى أن حاكماً حَكَم لفترةٍ طويلة وبلغ جبروته الذروة، وانتعشت حركة الاعتقالات مستيقظةً من سباتها، وتجلت كل المظاهر لديكتاتورية شبقة تتوق لأفاعيل حاكمٍ ديكتاتور..
تكررت نفس المشاهد التي كنا نقرأها في كتب التاريخ المكسوة بالغبار، والتي كنا نشاهدها في أفلامنا القديمة..
وجوه الثوّار احمرت غضباً، الأقلام المتحمسة تكسو الصفحات، وإعلامٌ يظل فاسداً لأنه طوع أمر الحاكم..
ووسط هذا كله انطلقت كلاب الحاكم مشمشمةً تبحث عن كل من كفر بالحاكم وعرش الحاكم، واكتظت المعتقلات..
اعتقلوا على رأس من اعتُقِل الكاتب (س) الذي أشعل - وحده - التمرد في الشعب مراراً وتكراراً..
(س) الذي دوّخ كلاب الحاكم، والذي أذل قلمه ناصية كل آثمٍ في البلاد..
أدرك الحاكم أن (س) هو المتحكم في قلوب الشعب قاطبةً فأذّن في كلابه أن اخرسوا هذا الصوت..
أودع (س) أقذر السجون، وكان ما يثير جنونه أنه سيُحرم من الكتابة للشعب، وحتى ولو سمحوا له باصطحاب أوراق وقلم داخل سجنه - وهذا من رابع المستحيلات - فإنه بهذا يكتب لنفسه فقط..
هو المسئول عن يقظة هذا الشعب.. هو القادر على أن يُحدث شيئاً.. من لهذا الوطن بعد الله غيره؟
تمكن (س) بأحد الحيل أن يصطحب معه هاتفه المحمول داخل السجن؛ مخفياً إياه عن عيون كلاب الحاكم.. وبالاتفاق المسبق مع الزميل (ص) أوصى بأن يتم تحويل الرصيد بصورة مستمرة لهاتفه المحمول هذا..
وطفق (س) يكتب ليل نهار قصصه ومقالاته المستعرة ناراً على محموله في ظلمة السجن.. داوم على إرسال هذه الأعمال - مستخدماً محموله - للجهات الكثيرة التي تعامل معها دوماً، والتي تتوق هي نفسها لنشر ما يكتب..
وعادت قصصه ومقالاته لتزيين الصحافة الثائرة تحت توقيع: وطني..
وعلى عرشه لم يكف الحاكم عن الانتفاض غضباً لمّا علم بأمر هذا الـ (وطني) - أو ربما كان ينتفض بسبب بعض النتوءات غير المريحة في كرسي عرشه.. لا أحد يعلم! -.. وانتاب السعار كلابه..
انطلقوا يعيثون فساداً في الأرض من جديد..
وعلم (س) بنبأ مقتل (ص) .. بكى يومها كما لم يبكِ منذ زمنٍ بعيد، وحزن كثيراً لمّا أيقن أن مصير نشر أعماله هو التوقف لأن رصيد هاتفه المحمول سينفذ نتيجة لموت (ص) ..
ومر يومان و (س) يخزن أعماله - محسوراً - على جهازه.. وذات ساعة فوجئ بتحويل الرصيد إليه..
لا يدري من أين!.. لكن من قال أنه يهتم!.. سارع على الفور بإرسال ما خزّنه للجهات المعتادة..
كان يصر دوماً على التنبيه بضرورة التوقيع: وطني.. بدلاً من اسمه؛ كي لا يكشف الكلاب أمره ويبحثوا فيما يخصه ويفتشوا ثيابه ويصادروا الجهاز؛ فيتوقف نشر ما يكتب للأبد ويموت مقهوراً.. وأيضاً كي يدرك الحاكم وكلابه أنهم ان استطاعوا أن يخرسوا صوتاً.. فإن ذلك لن يمثل النهاية السعيدة التي يحلمون بها.. وأنه ستظهر آلاف الأصوات كي تبرهن على عجزهم أمام إرادة الشعب..
ظلت تحويلات الرصيد التي لا يدري مصدرها تأتيه دوماً، وظل يتجاهل التفكير في مصدرها مؤمناً أن هذا لا يهم. شاغلاً نفسه بقضايا أكبر..
وظل لا يعلم أن كل طفل في البلاد يدّخر من مصروفه ليقوم بتحويل رصيد لرقم هاتف (س) المحمول..
وعلى عرشه ظل الحاكم ينتفض غضباً لما بلغ لهذا الـ (وطني) من تأثير..
أو ربما كان ينتفض بسبب بعض النتوءات غير المريحة في كرسي عرشه..
لا أحد يعلم!
أحمد صبري غباشي
الثلاثاء - 2 مايو 2006
من كتاب : نادماً خرج القط - الصادر في يناير 2008
http://www.facebook.com/nademan5araga...
تكررت نفس المشاهد التي كنا نقرأها في كتب التاريخ المكسوة بالغبار، والتي كنا نشاهدها في أفلامنا القديمة..
وجوه الثوّار احمرت غضباً، الأقلام المتحمسة تكسو الصفحات، وإعلامٌ يظل فاسداً لأنه طوع أمر الحاكم..
ووسط هذا كله انطلقت كلاب الحاكم مشمشمةً تبحث عن كل من كفر بالحاكم وعرش الحاكم، واكتظت المعتقلات..
اعتقلوا على رأس من اعتُقِل الكاتب (س) الذي أشعل - وحده - التمرد في الشعب مراراً وتكراراً..
(س) الذي دوّخ كلاب الحاكم، والذي أذل قلمه ناصية كل آثمٍ في البلاد..
أدرك الحاكم أن (س) هو المتحكم في قلوب الشعب قاطبةً فأذّن في كلابه أن اخرسوا هذا الصوت..
أودع (س) أقذر السجون، وكان ما يثير جنونه أنه سيُحرم من الكتابة للشعب، وحتى ولو سمحوا له باصطحاب أوراق وقلم داخل سجنه - وهذا من رابع المستحيلات - فإنه بهذا يكتب لنفسه فقط..
هو المسئول عن يقظة هذا الشعب.. هو القادر على أن يُحدث شيئاً.. من لهذا الوطن بعد الله غيره؟
تمكن (س) بأحد الحيل أن يصطحب معه هاتفه المحمول داخل السجن؛ مخفياً إياه عن عيون كلاب الحاكم.. وبالاتفاق المسبق مع الزميل (ص) أوصى بأن يتم تحويل الرصيد بصورة مستمرة لهاتفه المحمول هذا..
وطفق (س) يكتب ليل نهار قصصه ومقالاته المستعرة ناراً على محموله في ظلمة السجن.. داوم على إرسال هذه الأعمال - مستخدماً محموله - للجهات الكثيرة التي تعامل معها دوماً، والتي تتوق هي نفسها لنشر ما يكتب..
وعادت قصصه ومقالاته لتزيين الصحافة الثائرة تحت توقيع: وطني..
وعلى عرشه لم يكف الحاكم عن الانتفاض غضباً لمّا علم بأمر هذا الـ (وطني) - أو ربما كان ينتفض بسبب بعض النتوءات غير المريحة في كرسي عرشه.. لا أحد يعلم! -.. وانتاب السعار كلابه..
انطلقوا يعيثون فساداً في الأرض من جديد..
وعلم (س) بنبأ مقتل (ص) .. بكى يومها كما لم يبكِ منذ زمنٍ بعيد، وحزن كثيراً لمّا أيقن أن مصير نشر أعماله هو التوقف لأن رصيد هاتفه المحمول سينفذ نتيجة لموت (ص) ..
ومر يومان و (س) يخزن أعماله - محسوراً - على جهازه.. وذات ساعة فوجئ بتحويل الرصيد إليه..
لا يدري من أين!.. لكن من قال أنه يهتم!.. سارع على الفور بإرسال ما خزّنه للجهات المعتادة..
كان يصر دوماً على التنبيه بضرورة التوقيع: وطني.. بدلاً من اسمه؛ كي لا يكشف الكلاب أمره ويبحثوا فيما يخصه ويفتشوا ثيابه ويصادروا الجهاز؛ فيتوقف نشر ما يكتب للأبد ويموت مقهوراً.. وأيضاً كي يدرك الحاكم وكلابه أنهم ان استطاعوا أن يخرسوا صوتاً.. فإن ذلك لن يمثل النهاية السعيدة التي يحلمون بها.. وأنه ستظهر آلاف الأصوات كي تبرهن على عجزهم أمام إرادة الشعب..
ظلت تحويلات الرصيد التي لا يدري مصدرها تأتيه دوماً، وظل يتجاهل التفكير في مصدرها مؤمناً أن هذا لا يهم. شاغلاً نفسه بقضايا أكبر..
وظل لا يعلم أن كل طفل في البلاد يدّخر من مصروفه ليقوم بتحويل رصيد لرقم هاتف (س) المحمول..
وعلى عرشه ظل الحاكم ينتفض غضباً لما بلغ لهذا الـ (وطني) من تأثير..
أو ربما كان ينتفض بسبب بعض النتوءات غير المريحة في كرسي عرشه..
لا أحد يعلم!
أحمد صبري غباشي
الثلاثاء - 2 مايو 2006
من كتاب : نادماً خرج القط - الصادر في يناير 2008
http://www.facebook.com/nademan5araga...
Published on February 13, 2011 08:06
•
Tags:
حكاية-س
date
newest »

وظل لا يعلم أن كل طفل في البلاد يدّخر من مصروفه ليقوم بتحويل رصيد لرقم هاتف (س) المحمول..
:)