عابدة المؤيد العظم's Blog, page 2

April 14, 2018

“إن أزعجتني سآتيك بالطبيب ليؤلمك بإبرته”

أسلوب التهديد من الأساليب التربوية المعروفة الناجحة، وكثيراً ما تحتاج الأمهات إلى تهديد الطفل وتخويفه بشيء ما ولعدة مرات قبل إيقاع العقاب عليه، وكانت بعض الأمهات -قديماً- تهدد أولادها بالجن والعفاريت والوحوش، واليوم وبعد تطور العلوم وتقدم الكشوف صارت الأم تهدد أولادها بإبرة الطبيب الفظيعة المؤلمة، وأحياناً بالحشرات البشعة المؤذية، ومرات أخرى بالشرطي… وبغير ذلك من الأشياء التي تتصورها الأمهات مخيفة أو مؤلمة لطفل صغير، ونظراً لحيوية الأطفال الزائدة، ولطبيعتهم المتمردة المشاكسة تضطر الأم إلى ترديد هذه العبارة “إن أزعجتني سآتيك بالطبيب ليؤلمك بإبرته” وأمثالها مرات عديدة على مسامعهم في اليوم الواحد تخويفاً وردعاً لهم، وتخلصاً من ازعاجهم وصخبهم. فهدف الأم من التهديد بهذه العبارة وأمثالها الوصول إلى منافع عاجلة مثل السيطرة على الخلافات والحد من المشكلات، أو السرعة في أداء الأعمال والواجبات، أو الحصول على الطاعة المطلقة… وذلك عن طريق إغراق الصغار بمشاعر الخوف والرهبة من أمور يجهلون حقيقتها، لينصاعوا مسرعين وجلين للأوامر دون اعتراض أو تذمر… فما وجه الخطورة في هذه العبارة؟


-نحن راعيات في بيتنا ومسؤولات عن رعيتنا، فلا يجوز لنا أن نلقن أبناءنا وبناتنا معلومات خاطئة، ولا حقائق واهية مخالفة للواقع والحقيقة؛ فالطبيب إنسان رفيق رحيم يساعد الناس ويجتهد في دفع المرض عنهم ومعالجتهم، وليس بالجلاد الذي يؤذيهم ويزيد معاناتهم. ونحن نشوه بهذه العبارة أيضاً حقيقة الإبرة ونجعلها أداة لإرهاب الطفل وأذيته ومادة تسبب له القلق والخوف، بينما جعلت الإبرة لتحمل الدواء إلى أجسامنا ولتكون بذلك وسيلة مفيدة وهامة لا يمكن إلغاؤها ولا الاستعاضة عنها في بعض الحالات، فكيف نغير الحقائق ونقلبها بأمثال هذه العبارات.


-الطفل يصدق كل ما يقال له، ويعتبر والديه مثله الأعلى، ويظن أن أقوالهم هي الحقيقة المطلقة، فإذا عرف يوماً حقيقة إبرة الطبيب وما شابهها شعر بالارتياب والضيق لأن أمه  قد خدعته، وقد يزعزع هذا ثقته بوالدته، ويجعله يشك بعدها في كل حرف يسمعه منها، فينبغي على الأم ألا تكذب على ولدها مستعجلة انصياعه وسماعه لأوامرها لأن في هذا تجاهلاً لخطر كبير ولضرر عظيم سوف يحيق بسمعتها لاحقاً، إذ سيتصور الابن بعدها أن أمه كاذبة في كثير مما تقوله، فينصرف عن أقوالها، ولا يأخذ عباراتها مأخذ الجد ولا يسمع كلامها، مما قد يتسبب في إلحاق الأذى به أو الإضرار بجسده.


-وقد يتعلم ولدها من وراء هذه العبارة الكذب  ليحصل هو الآخر  على منافع عاجلة، وهذا خطير فالكذب خلق ممقوت نهى الإسلام عنه نهياً شديداً وحذر المسلمين من اللجوء إليه مهما كانت الأسباب والدوافع.


-قد يكون من المستحيل أن تنفذ الأم تهديدها هذا، فهي لن تأتي بالطبيب إلى المنزل ليعاقب ابنها بإبرته، لكن من السهل أن نخوف الطفل بهذه العبارات وأمثالها وأن نجعل منه إنساناً جباناً، وإليك التعليل: “الخوف في الأصل ظاهرة طبيعية موجودة عند الإنسان لتحميه من الأذى والموت: {إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً}، وظاهرة الخوف موجودة عند الطفل بشكل خاص فهو يخاف من الغرباء، ويرتعش عند حدوث ضجة مفاجئة، ويجفل من التغيير الطارئ، ويحذر من الحشرات والحيوانات… ثم يبدأ الطفل تدريجياً في فهم العالم حوله، ويحس ويرى ما يجري حوله وما يحيط به، لكن قدرته العقلية قاصرة عن فهم الأمور جيداً وربطها بالأسباب والنتائج، ولهذا تختلط الأشياء في ذهنه وقد تكبر -إن ساهمنا نحن بتكبيرها- لتولد له الشعور بالخوف، ولذلك قد يخاف الصغير من أشياء لا تخيف، وقد يرتعد من كل أمر”.


الخوف إذن موجود في غريزة الطفل، ومن السهل أن تأخذ الأوهام والتهيؤات إلى نفس الطفل سبيلاً، وأن تترسخ في نفسه وفي عقله الباطن، وتتعمق داخلاً، وتتغلغل في كيانه بيسر، لتجد مرتعاً خصباً فيخاف الولد ويقلق بشدة وبطريقة غير طبيعية لأوهى الأسباب، فإن رددنا هذه العبارة “سآتيك بالطبيب ليؤلمك بإبرته” وأمثالها أمامه وسعنا دائرة الخوف عنده بدل أن نقلصها وجعلناه إنساناً جباناً يخشى كل شيء، وربطناه بالأوهام والأكاذيب، فيتغلب عليه الهلع من كل شيء غامض حوله، ويفتقد الشجاعة  أمام الأشياء المبهمة، ولا  يجد الجرأة الكافية ليتخطى العقبات والمواقف الصعبة، ويصدق كل الخرافات التي يسمعها وتنتابه الكوابيس المزعجة، وقد يتخيل الشجرة المتمالية وحشاً يتحرك، وقد يظن الأشكال والأشياء أشباحاً تسبح في الظلام…


وقد تسيطر عليه المخاوف تماماً فتجعله مضطرب الأعصاب متوجساً من المجهول فهو لم ير إبرة الطبيب ولا الوحوش لكنه خائف مترقب حذر. فإذا احتاج يوماً إبرة الطبيب أو شيئاً مما يهابه ظهرت مخاوفه، وبرزت عقدته إلى السطح، وكانت ردود فعله صارمة مفاجئة وغير طبيعية. وقد ينسى الولد هذه التهديدات ويتجاهلها، ولكن أثرها يستمر في عقله الباطن، وتظل المخاوف كامنة في داخله راكدة مدة من الزمن لتظهر فجأة في مناسبة ما لاحقاً، فتسبب له متاعب نفسية جمة وأمراضاً عصبية.


فيجب أن نقنع أبناءنا منذ الصغر بأن مخاوفهم وهمية لا أصل لها، ونتظاهر أمامهم بالشجاعة ولو كنا خائفات بدل أن نبذر نحن فيهم الهلع والرعب، وعلينا أن نزرع فيهم الإقدام والشجاعة، ونبعد عنهم العقد النفسية ليستطيعوا مواجهة الحياة بمشاكلها وأخطارها، وليتحملوا شدائدها وأهوالها.


إن هذه العبارة تكون في كثير من الأحيان عديمة الجدوى وغير فعالة في إجبار الأولاد على الانصياع للأوامر، لكنها وعلى الأغلب تخلق للأم مشكلة جديدة هي في غنى عنها: “الخوف”،  والخوف إذا اشتد صار مرضاً حقيقياً يحتاج علاجاً، فانتبهي أيتها الأم لهذا ولا تؤثري نفسك بالمنافع السريعة العاجلة فتسببي لأولادك من المخاوف والعقد النفسية ما قد يحملونها معهم طيلة حياتهم مسببة لهم الكثير من العذاب.


(وهي العبارة الثامنة في كتابي “عبارات خطيرة”)


* **


المعارج: 23.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 14, 2018 07:12

April 2, 2018

لم أعد أستطيع السيطرة على ولدي!

سمعتها تردد هذه العبارة: “لم أعد أستطيع السيطرة على ولدي”، فحسبتها أماً  لمراهق مشاكس معتدٍّ بنفسه يحاول إثبات شخصيته وإظهار نفسه، ولما حاورتها وسألتها لأحاول مساعدتها تبين أن ولدها هذا لم يتجاوز السابعة! ثم رأيته واقفاً خلف الباب يستمع شكوى أمه منه بمرح زائد وغبطة، لكنه كان يتصنع الجد وعدم الاكتراث، ثم لمحته وهو يلوح بيديه لأمه مهدداً متوعداً وكأنه يقول: “سترين المزيد من مشاكستي!”. وكانت الأم ترمقه بقلق وهي تتابع حديثها: “لا أدري ما أفعل معه، لقد خرج الأمر من يدي، ولم أعد أستطيع توجيه ولدي!”.


هذا المشهد يتكرر أمامنا على الدوام، فنرى أمهات عديدات يشتكين أطفالهن المتمردين والمشاكسين، وأضحينا نسمع كثيراً هذه العبارات: “هذا الجيل مختلف، إنه صعب ومتعِب!”، “هذا الجيل عنيد متمرد، لا يمكن السيطرة عليه”، “إنه جيل ذكي قوي لا يمكن ضبطه!”… أو تصف الأم ولدها بأنه “شيطان” أو “عفريت”… كناية عن تعذر قيادته. كل هذا يقال والأطفال جالسون معنا يسمعون ويشاهدون أمهم عاجزة عن ضبطهم! فيسعدون بأن الناس تتحدث عن بطولاتهم، ويفرحون بأنهم ملفتون للأنظار، وأنهم أضحوا حديث المجالس! فتأخذهم العزة بالإثم، ونكون وكأننا منحناهم القوة ودفعناهم إلى التحدي والاستمرار في هذا السلوك. وهنا تكمن الخطورة الأولى لأمثال هذه العبارات، فعبارة “لم أعد أستطيع السيطرة على ولدي” تبدو للطفل الصغير وكأنها مديح فيغتبط به ويميل إلى الاستزادة منه بكل طريقة ممكنة. وكيف لا يكون مديحاً وقد استطاع الصغير الذي لا حول له ولا قوة تعجيز والدته الكبيرة العاقلة ودفعها إلى الشكوى منه؟! فيصبح بعدها أكثر إزعاجاً وتمرداً ويبتدع ويبتكر أساليب جديدة للمشاغبة، ليلفت الأنظار ولينال المزيد من الإطراء.


– إن الطفل الصغير بحاجة فطرية إلى سلطة تضبطه وتوجهه، وانعدام السلطة الضابطة يسيء إلى الطفل إساءة بالغة ويقلقه ويوتره، ويحرمه من حقه في تربية سليمة ومستقرة ومتزنة، ويفوت عليه معرفة الخطأ من الصواب والحلال من الحرام… يقول د. سبوك: “إن الطفل يريد أباً قوياً. يريد أماً حازمة. لا يرضى لكبريائه بأن يكون والداه من النوع “الخنوع”. ويعرف الطفل أن قسوته على أحد والديه ليست هي الأسلوب السليم لمعاملة الابن لأبيه أو أمه؛ لذلك يتمنى في أعماقه أن يضع أحد الوالدين حداً لهذا السلوك غير السليم. لذلك أيضاً يتمادى في القسوة ليزيد من التنبيه بالغضب والعنف بأنه لابد أن يتحرك الأب أو الأم ليمنعاه من التمادي في السلوك الخطأ… فالطفل يحتاج من يقول له “لا” عند الخطأ شرط أن نقولها بالحنان وبالحزم”.


– ورغم حاجة الإنسان إلى سلطة ضابطة إلا أن التمرد طبع أصيل فيه، ويلاحظ المربون على الأولاد البالغين مزاحمتهم لوالديهم ومقارعتهم لهم مقارعة الند للند، فهم يتوقون إلى الحرية والتخلص من سلطة الآباء، وهذه العبارة “لم أعد أستطيع السيطرة على ولدي” تسهل على الطفل التمرد وتعينه على العصيان، وكأن أمه تقول له: “بإمكانك أن تتمرد وأن تفعل ما تشاء، فأنا ضعيفة وعاجزة عن تربيتك وتقويمك، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً تجاه سلوكك فضلاً عن عقابك، وليست لي أي سلطة عليك، ولذلك سأتوقف عن إصدار الأوامر والنواهي، وسأكف عن توجيهك فأنت قوي ولا يمكن قيادك”. ومن الخطأ الفادح أن تعترف الأم بفشلها أمام طفلها، ومن الخطأ أن تدلّه على نقاط الضعف عندها، لأن هذا يدفع الطفل إلى استخدام ضعفها في تحقيق رغباته كلها. فالأطفال أذكى مما نتصور وهم يختبروننا حتى يميزوا قوتنا من ضعفنا ثم يتصرفوا على هذا الأساس ويسلكوا السلوك الذي يناسبنا ليحصلوا على كل ما يريدونه منا.


الحقيقة أن الأم -ولو ظنت في نفسها الضعف- تبقى أقوى من الطفل الصغير، وأنا أعرف بعض هؤلاء الأمهات اللاتي يدعين الضعف وقد لمست عندهن القوة والقدرة على التربية والتوجيه، ولكنهن عاطفيات رقيقات القلب، ولذلك آثرن تدليل أولادهن  على الحزم معهم، وفضلن الانصياع لرغباتهم على تعليمههم وتوجيههم، ورأين ترفيه الجيل وتنعيمه بدلاً من تعرفيه قسوة الحياة وصعوبتها… ولهذا كن ينتحلن سبباً يبررن به نكوصهن عن توجيه الجيل، ويبحثن عن علة يعلقن عليها تقاعسهن عن السيطرة على أولادهن، ليقنعن أنفسهن بأنهن غير مقصرات ولا مخطئات في تربيتهن، إنما الجيل هو المختلف وهو المتفرد. فهؤلاء الأمهات لما وجدن ذلك العذر سررن وقعدن عن توجيه الجيل.


وأسلوب “التبرير” ثم “الإسقاط” (اللذان تعلل بهما الأم سلوكها) أسلوبان معروفان في علم النفس، وهما من الحيل الدفاعية التي يفسر بها الإنسان أفعاله بحيث تبدو  صحيحة ومقبولة وبحيث ينسب عيوبه ونقائصه إلى الناس لا إلى نفسه، وبهذا يجنب الفرد نفسه ما قد يصيبها من عذاب الضمير أو الشعور بالإثم والتقصير، أو الشعور بالفشل.  فالأم هنا مقصرة وهي تنتحل أعذاراً لهذا التقصير لتدافع بها عن نفسها، ثم نراها تستعمل أسلوب الإسقاط فتنسب فشلها إلى تغير الجيل لا إلى أسلوبها الخاطئ في التعامل مع أبنائها، وهنا تكمن الخطورة البالغة إذ أقنعت الأمهات أنفسهن بأنهن عاجزات فتقاعسن عن توجيه النشء. فمَن سيربي الجيل إذن ويوجهه ويرشده إلى الخير؟ وإذا فشلت الأم في السيطرة على طفل صغير ضعيف، ولم تستطع توجيهه وإخضاعه لتربيتها، وعجزت عن فهمه وقيادته، فهل ستنجح في التعامل معه عندما يصبح مراهقاً مشاكساً؟! وكيف سيكون حال المجتمع بعد سنوات عندما سيصبح أفراده هؤلاء المتمردين الذين تستحيل السيطرة عليهم؟!


– وبتأثير هذه العبارة تجرأ الأبناء على الآباء فصاروا يعبرون عن استيائهم وبطرق غير مؤدبة، ويظهرون غضبهم وبطرق بشعة؛ فالطفل يرفس اللعب ويكسر الأواني ويضرب أخاه حتى يحصل على مبتغاه، مخوفاً والدته، وطامعاً باستجابتها السريعة لمطالبه. ثم تطور هذا التمرد وهذا العصيان حتى طال شخص الأم وهيبتها ومكانتها العالية، فإذا بالولد يصرخ في وجه أمه ويرفع صوته على صوتها، وينصرف عن برها وطاعتها عامداً متعمداً.


لقد زينت الأم بترديدها هذه العبارة السوء لأولادها، وحرضتهم على ترك الإحسان إليها، حتى كاد بعض الأمهات أن يوصلن أولادهن إلى العقوق الذي يورد صاحبه النار والعياذ بالله. أفرأيتن أما تحب وليدها ثم هي تقوده -بحبها هذا إياه- إلى النار؟!


*   *   *


حديث إلى الأمهات مشاكل الآباء في تربية الأبناء 152.

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 02, 2018 12:49

November 27, 2017

هذا الجيل متفرد بذكائه وقدراته

منذ سنوات قليلة انتشرت بعض الإشاعات التي تؤكد أننا أمام جيل رهيب متفرد، جيل خارق الذكاء ومتعدد القدرات والمواهب، وكم أتحفتني الأمهات في المجالس -وأمام أولادهن- بالكلام عن ذكاء هذا الجيل وعبقريته، وكم سردن علي من القصص والحوادث التي تؤكد هذا الزعم وتدلل على صحته، وكم كررن هذه العبارة خلال حديثهن: “هذا الجيل متفرد متميز، فهو ذكي قوي عنيد جريء…” وهن يحسبن أنهن على الحق، وأنهن وبترديد هذه العبارة يدفعن أولادهن  إلى المزيد من النجاح الباهر والتفوق الخارق.


أما أنا فكنت أخالفهن الرأي، فما لمست تفرد الجيل الذي تحدثن عنه ولا شعرت بتميزه، بل وجدته جيلاً عادياً شأنه شأن أي جيل سبقه؛ فيه النابغة والمتخلف والذكي والغبي والقوي والضعيف… ولذلك كنت لا اكترث بما تذكره الأمهات عن عبقرية أولادهن، ولا أصدق ما يقلنه عن ذكاء هذا الجيل وتفرده، إنما كنت أسرح بعيداً مشغولة بمضمون هذه العبارة، ومنزعجة من انتشارها بهذه السرعة بين الأمهات، ومتوجسة من تكرارها وكثرة الكلام فيها، وقلقة من آثارها السيئة ومن ضررها وخطرها علينا وعلى أبنائنا من بعدنا إن استمرت الأمهات في ترديدها، وإليكن الأسباب:


-إن عبارة “هذا الجيل متفرد” ليس لها ما يساندها من دراسة أو استقراء أو أي دليل آخر، وكل الآباء اليوم يزعمون أن أولادهم متفردون! ورغم ذلك لم نحظ -ومنذ مدة- بعالم أو بطالب متميز أو بمكتشف أو بمبدع في المجالات العلمية… فالخوف أن نكون -نحن الأمهات – قد افترضنا أمراً ثم صدقناه  وعممناه دون دليل أو برهان، وظن أولادنا -من بعدنا- أنه الحق بعد أن أوحينا لهم به وبعد أن قطعنا أعناقهم بترديدنا هذه العبارة “هذا الجيل متفرد”، ففرحوا وقعدوا عن الجد والتشمير معتمدين على تميزهم هذا وعبقريتهم تلك، متناسين أن الظن لا يغني عن الحق شيئاً.


فلننس هذه العبارة إذن، ولنكف عن تكرارها ولنتوقف عن ترديدها أمام أبنائنا -إلى أن نتأكد من صحتها- حرصاً على مستقبلهم، واحتراماً لمشاعرهم فلا نصدمهم ولا نحبطهم عندما يكبرون ويكتشفون مبالغاتنا في تقدير قدراتهم ومواهبهم!


ولو افترضنا جدلاً أن هذه العبارة صحيحة، فإن الركون إليها والاعتماد على القدرات الموهوبة دون العمل الجاد المثمر يميت أي إبداع، ويقتل أدنى نبوغ، فالنبوغ والإبداع تلزمهما العناية والرعاية والدراسة والاطلاع حتى يؤتيا أكلهما، فإن كان الجيل متميزاً فعلاً فلنستفد من هذا التميز بهدوء وبتخطيط، وبترديد عبارات هادفة تثير الفاعلية والنشاط وتحث الأبناء على الاستفادة من هذا الذكاء في شتى الميادين.


-وهذه العبارة خطيرة لأنها جعلت الأمور تختلط على بعض الأمهات وتتشابه، إذ عجزت ثلة من الأمهات عن الفصل بين الصفات الجيدة المطلوبة وبين السلوك السيء المذموم؛ فما عاد هؤلاء الأمهات يدركن الفرق بين الذكاء المحبب وبين التحايل والمكر المكروه شرعاً. وما عدن يميزن بين القوة التي امتدحها الإسلام وطالب المسلم بالتحلي بها وبين الظلم والتعسف والاعتداء على الغير. وما عدن يميزن بين ضرورة التمسك بالمبادئ والثبات عليها، وبين التمرد والتعنت والإصرار على الرأي والسلوك ولو كان فاسداً. وما عدن يميزن بين الجرأة في قول الحق ولو أمام سلطان جائر، وبين وجوب البر  والطاعة وخفض الجناح للوالدين… فبعض الأمهات تشجع كل سلوك تحسبه نبوغاً، وتمتدح كل فعل تراه مختلفاً، وهي فرحة مستبشرة بتميز ولدها وذكائه، ثم نقلت عدم التمييز هذا إلى الأبناء فصار الأولاد يتباهون بالمنكرات ويتفاخرون بإيذاء الناس و… وهم يحسبون أنهم يفعلون ذلك لا لأنهم جاهلون غافلون منحرفون إنما لأنهم متفردون! فهم أذكياء وأقوياء و… وقد أساءت هذه الفئة التي تحسب نفسها متفردة إلى الناس وتسببت في انحراف المزيد من الشباب، فأي سوء جلبته إلينا هذه العبارة: “هذا الجيل متفرد”.


-ولعل الصراع بين الأجيال موجود في كل المجتمعات، واعتراض الأبناء على قيم الآباء أمر معروف يشتكي منه المربون، ولذلك كانت لهذه العبارة خطورة تشبه سابقتها: إذ يعتقد المراهقون اليوم أنهم أولى بأنفسهم لأن آباءهم لا يفهمونهم، فهم خلقوا لزمن جديد وآباؤهم خلقوا لزمن مضى، ولهذا لا يدرك آباؤهم المستجدات ولا يفهمون الحاضر ويجهلون الكثير من التكنولوجيا، بل ما زالوا يحملون القيم القديمة والعادات والتقاليد البالية! ولا يعرفون أن الزمن قد تغير تغيراً يكاد يكون جذرياً… فإن كررنا هذه العبارة “هذا الجيل متفرد” أمام  الأبناء رسخنا في نفوسهم هذه الأفكار المنحرفة فظنوا أنهم  بتميزهم وذكائهم وقوتهم وعنادهم وجرأتهم… باتوا أقدر منا على تقدير العواقب، وأصبحوا أكثر منا قدرة على محاكمة الأمور، وأضحوا أسلم منا منهجاً وسلوكاً وعلماً في فقه الحياة… فإذا بهم يسألوننا الحرية الكاملة قبل أن يكونوا أهلاً لها، ويطالبوننا بالاستقلال الفكري والحق في تقرير المصير! ويتوقعون منا بعد هذه العبارة أن ننصاع إلى رغباتهم تلك راضين مختارين، لأنهم يظنون أن ذكاءهم يغلب خبرة وحكمة وتجارب والديهم، ويلغي القيم والأخلاق والأعراف التي يلقنونهم إياها، فيرفض الأبناء كل شيء، ويتمردون على القيم الرفيعة، ويستخفون بالأخلاق العالية، ويتطاولون على الأعراف والتقاليد المحمودة… وينادون بالتجديد والتحديث، جاهلين أن الدين والقيم والأخلاق ثوابت لا تتغير ولا تتبدل مهما تقلب الزمان وتطور وارتقى أفراده، وهذا سبب (من عدة أسباب) لما يحدث اليوم في مجتمعاتنا، من استخفاف بتوجيهات الوالدين، والتقليل من شأن القيم الدينية والخبرات الاجتماعية… فلنحذر من  هذه العبارة: “هذا الجيل متفرد” وأمثالها حفاظاً على أبنائنا، وحفاظاً على الدين والقيم والأخلاق.


(من كتابي عبارات خطيرة)

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 27, 2017 13:45

December 29, 2016

حرروها قبل أن تفقدوها*

النساء والصغار ليس لهم من الأمر شيء في الصراعات والنوازل، على أنهم أكثر من يُظلم فيها ويتحمل النتائج، وإن البلاء لا يقف عند هدم البيت وموت الأحبة ومغادرة الوطن، والاضطرار للعمل… بل يصحبه التضييق والظلم والإحراج، وأنقل لكم أمثلة اجتماعية واقعية -عن وضع المرأة- خَبِرتُها وعشتُ معها في سنواتِ الثورة، وفي أكثر من بلدة:


– فهذا رجل في المعتقل من ثلاث سنوات يرسل لزوجته باستمرار ألا تخرج من البيت لأي سبب ولو كان لضرورة، وألا تعمل في أي وظيفة، ويملي عليها ماذا تصنع بالأولاد وفي أي مدرسة تضعهم، وكيف تدير البيت في غيبته. وإذا سمع عن مخالفة أرسل لها معاتبة (ولا يدرك أنها باتت لملازمتها للأولاد أقدر منه على اتخاذ القرار وإدارة الأسرة).


– وهذه فتاة رقيقة استشهد زوجها، فحبسها أهله عن اللحاق بأهلها في المهجر، وهم في خطر، ويعاملونها أسوأ معاملة؛ فهي بزعمهم ليست أكثر من مربية للصغار وخادمة للكبار، وإذا أرادت السفر وأصرت هددوها بحرمانها من الحضانة، وأطفالها لم يتجاوز أكبرهم الثالثة.


– وأكثر من سيدة خرج بها زوجها إلى بلد مجاور، فصار -فجأة- يهينها ويضربها وقد اقتربت من الأربعين وابنتها صبية يافعة، فلما سألته علام يفعله ولم يكن من شيمته، قال بكل وقاحة: كنت أهاب أهلك وعشيرتك، والآن يمكنني الانفراد بك بلا حسيب ولا قيب وأفعل بك ما يحلو لي.


– وإذا تخلصت الفتاة من تسلط والدها، ولم يكن لها زوج يحكمها، برز أخوها، وصار يرسم لها مستقبلها، دون مشورتها.


وهكذا ومع الثورات والمعاناة توجد بقية من أزواج وآباء يقيدونهن بقيود العادات البالية وبحجة السلطة. فإلى متى؟


حرب وقصف واستنفار ودمار، ونساء أرامل وثكالى مكلومات يتماسكن ويبذلن من أجل المحافظة على ما تبقى لهن، وتعويض النقص المادي والمعنوي بكل السبل الممكنة… والقيود الوضعية تكبلهن وتعيق عطاءهن. وحين تُوجد لَهنَّ فتوى شرعية تحسم القضية، يعتبرونها دعوة للرذيلة!؟ حيث قالت الحنفيّة: “تنتهي ولاية الأب على الأنثى إذا كانت مسنّةً، واجتمع لها رأي، فتسكن حيث أحبّت، حيث لا خوف عليها، وعند الشّافعيّة: تنتهي الولاية على الصّغير – ذكراً كان أو أنثى – بمجرّد بلوغه”، وإذا بينّا أن للزوجة شخصية حقوقية كاملة فلها التصرف في نفسها وأولادها بالمعروف ولا تحتاج لوصاية… قالوا هو تخبيب للمرأة على زوجها ونشوز!؟ ولا يفكرون بآثار الكبت والضغط والحرمان على النفس البشرية، وعلى الإبداع والخلافة في الأرض. وبالتالي على سلامة الأجيال والمجتمعات وصحة عقيدتها، وبفعلهم كثر الإلحاد والخروج عن الأخلاق.


وإنه ليس من الحكمة في زمن المحنة والفتنة، أن نحجر على المرأة وهي تتحمل المسؤولية وتبذل وتعوض النقص، فالغنم بالغرم. وإن لم نفعل خسرنا عطاءها، وأصبحت عالة ومشكلة على مجتمعاتنا، وكم من امرأة تلاشت بسبب انتقاصها والتقليل من شأنها، أو حرمانها من طموحها، فَقَصَّرَت في واجباتها، أو أصبحت صعبة المراس، سيئة العشرة، وعكست ذلك على أفراد أسرتها فأصبحوا غير أسوياء.


ومما يؤذي المرأة أكثر ويحبطها، أنه إذا دخلت عليها شبهة، وجاء من يفسرها برؤية متفردة ومريحة، من قول بعض الفقهاء المعتبرين الذين انفردوا بفتاوى مبدعة وسابقة لعصرها، قالوا له: لا يصح هذا، وأنت تخالف مذاهب الأئمة الأربعة.


وتراهم يتحرجون من بعض الفتاوى التي يحسبونها متساهلة ومُفسدة (مثل إباحة الكحل والخاتم على أنه مما ظهر منها) فيخفونها، ثم يُخرجون لنا أموراً من المباحات تقل لها الحاجة، ويضعونها في أيدي عامة الناس، في زمن قل فيه العلم وضاعت التقوى، فتكثر الخلافات وتستعر المشكلات.


وهكذا وفي ظل هذه الفوضى الاجتماعية والفكرية والسياسية جاء من يدعو إلى التعدد ويزينه، في مجتمع لا يحسن كثير من أبنائه التعامل مع زوجة واحدة حتى يضيفوا له اثنتين وثلاث. وفي مجتمع ألف الزوجة الواحدة لقرون طويلة فيُدخلون له فتنة جديدة، ويروجون لها دون شروط أو إرشادات، ويُبدونها وكأنها قربة إلى الله وسنة، وهي القاصمة في هذه الظروف والأحوال المتردية.


ولو صدقوا في حرصهم على أمن وسلامة النساء، لطبقوا الأحكام التي لصالحهن، ولأوجدوا مخرجاً لقضايا متنوعة جدت مع الأحداث، وعلى رأسها زوجات المعتقلين المهاجرات، فالواحدة منهن ما زالت من ست سنوات على ذمة رجل لا تعرفه حياً أو ميتاً، ولا سبيل للطلاق لأنها خارج النطاق، وهي تستصرخ الفقهاء أنا بحاجة للنكاح، وبحاجة للإنفاق فيقال لها: ما نراك إلا معلقة ولا سبيل للفكاك، فالطلاق بيد الزوج المفقود، ولا أحد يقوم مقامه خارج الحدود. ومثلها الفتاة التي استقلت عن أبيها بسبب الأحداث وأصبحت تقيم في بلد غربية، فإذا جاءها شاب مناسب منعوها من تزويج نفسها، ولا يستطيع أبوها الوصول إليها، فتبقى أيماً، ثم لا تجد من يهتم لأمرها في كربتها ووحدتها.


نحن -أيها السيدات والسادة- أمام مشكلات حقيقية يومية، تخص ملايين النساء، فإذا جاء من ينصف المرأة بفتاوى شرعية مؤصلة ومعاصرة، قالوا عنه مُخرِّف فقد عقله، أو مُنحرف يتربص شراً ويضمر سوءاً، خدعته العولمة، أو شروه بالمال. أو هو معقد نفسياً ويحتاج طبيباً – وإن جاء بالدليل- فقط لأنه تجاوز الأولين. وكأنهم يريدين أن يقولوا للناس: نعم؛ الله فضل الذكر على الأنثى، بل قلل من شأن المرأة وجعلها ناقصة العقل وسفيهة… فتحتاج لولاية وتأديب، والصحابة ضربوا الصحابيات، وتُرك تقدير الذنب الموجب للضرب للزوج بلا قيد، ويجوز للرجل منع امرأته من زيارة أهلها بلا سبب وعليه السكوت والرضوخ…


ثم يقترحون على المصلحين أن يدعوا الواقع المهين، ويكتبوا عن مفاخر الصحابيات لرفع المعنويات، ليتباكين حقوقاً اندثرت وضاعت مع غياب التقوى، وبقيت منها الروايات الجميلة، فماذا تفيد -هذه المآثر للتاريخية العظيمة- النساء وهن تحت الظلم والهضم وبدعوى الدين؟! إنها كمن يقول لولده المضطر لقسط الجامعة (وإلا طُرد ومُنع من إكمال الدراسة): “يابني كنت ذات يوم غنياً ولي ثروة وعمارات وعقارات وقطعان”، وهو يعرف أنه لا يملك اليوم ديناراً، فماذا يفيده هذا الآن؟!


أيها الناس فقه المعاملات يتغير بتغير الأزمان والأعراف، وكثير من الفتاوى اجتهاد فقهاء، وقال أصحابها بكل تواضع وإنصاف “إن أخطأنا فقومونا، والعصمة لله”، فأصر الناس على تقديسها ومنع مراجعتها، وما زلنا كلما حزبنا أمر نُخرج فتوى مضى عليها الدهر، وجدت فيها مسائل وتطورات، فنسقطها على الحاضر فلا تحل المشاكل (فيعطون المعتقل -مثلاً- حكم المفقود بلا فروق!؟ ويجعلون عدة النفساء ثلاث حيضات، فتبقى بالعدة أشهراً حتى تُنهي الرضاع!؟). ثم يَعجبون إذا وجدوا من المهاجرين شكاً بأحكام الدين، أو إذا أُعجبت الفتاة العربية بالمرأة الغربية أو القوانين الأجنبية.


والخلاصة أن القضية مهمة وجدية؛ أني مع من قال: “فقه المرأة والفقه السياسي يحتاجان لتجديد”، ولقد انبرى للفقه السياسي في عصرنا ثلة من الفاهمين، فاستخرجوا واستنبطوا أموراً جمة حلت أزمة. وحان دور أحكام المرأة فإما تخلصوها من تلك القيود الثقيلة أو سوف يحدث ما لا تحبون.


(*نشرت في موقع إليكتروني- 22 تشرين الثاني- 2016)

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 29, 2016 13:53

October 1, 2016

هل “التقويم الهجري” إسلامي؟ و”التقويم الميلادي” مسيحي؟!

 


لا أدري لماذا يصر بعض المسلمين على إهمال التقويم الميلادي وإلزامنا بالتقويم الهجري، وكأن التقويم الأول خصصه الله للكافرين والآخر خلقه الله للمسلمين! ولو تحرينا الأمر ورجعنا إلى التاريخ لوجدنا أن حاجة القدماء إلى التقويم جعلتهم يبحثون عن شيء يقيسون به الزمان (في وقت لم يكن به أي وسيلة للقياس)، فكانت حركة القمر هي التي أثارت انتباههم -قبل حركة الشمس- لأنها الأقرب والأوضح والأسهل ملاحظة. وكان العرب من أشهر أمم العالم اعتماداً على القمر في تقاويمهم واستمر ذلك وثبت بمجيء الإسلام، إلا أن هناك أمماً كثيرة اتخذت من القمر تقويماً لحساب شهورها، من ذلك الهنود واليهود والصينيون وبلاد فارس القديمة وغيرهم من غير المسلمين.


ولقد كان التقويم الروماني تقويماً قمرياً يعتمد على دورة القمر حول الأرض باعتبار أن الشهر يبدأ مع ميلاد الهلال، وكانت الأشهر الرومانية تتابع (بين 29 و30 يوماً) ومجموعها 355 يوماً، ولما كانت السنة المدارية 365 يوماً جبروا الفرق بينهما بشهر يضاف كل 3 سنوات، فتصير السنة 12 شهراً لمدة سنتين وفي السنة الثالثة تصبح 13 شهراً! ولكن هذه الإضافة سببت البلبلة والتشويش فلم يعد التقويم القمري هو الأساس، وعدل بعضهم عن استعمال التقويم القمري (الهجري) إلى التقويم الشمسي (الميلادي).


وهكذا احتاج القدماء إلى التقويم وعرفوا تعاقب الفصول المنتظم، ولم يعرفوا أن دوران الأرض حول الشمس هو السبب، ولكن سهل عليهم متابعة تغير موقع القمر وتغير أشكاله فاعتمدوا أولاً الأشهر القمرية، ثم استعملوا التقويمين معاً، وحاولوا التوفيق بينهما (بسبب اختلاف عدد الأيام)، وجهد الباحثون في وضع الجداول المقارنة بين التقويمين، واضطروا إلى إدخال بعض الإصلاحات على التقاويم.


هذه الحقائق تدل على أن استعمال الشعوب للتقويمين الهجري والميلادي قديم، وقديم جداً، ولقد استعمل “التقويم الهجري” قبل الهجرة بمئات السنين فلم تكن هويته “إسلامية”! واستعمل “التقويم الميلادي” قبل ولادة المسيح وقبل ظهور النصرانية بعشرات السنين، فلم تكن هويته مسيحية، ولم يوضع تعنتاً وعصبية وتحيزاً إلى فئة، وإنما استعمل لأنه الأسهل والأسلم في الحساب.


فلماذا نتحاشى نحن” التقويم الميلادي” إذن وهو حيادي النشأة والمذهب؟!


ولنفرض جدلاً أن “التقويم الشمسي” خاص بالكافرين فما المانع أن نجاريهم في أمر علمي فلكي ونحن الذين نتبعهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع؟ فالتقويم الشمسي واضح للجميع، ويعطي تصوراً كاملاً عن فصول السنة، وعن الأحداث الحياتية التي تتعلق بها والتي نحتاجها دوماً لنخطط لمستقبلنا وأعمالنا (كم بقي للعطلة الصيفية ومتى سيدخل الشتاء ومتى ستنزل الفاكهة إلى السوق، ومتى موسم الحصاد…)، وإن ذكرنا شهر آذار (مارس) علم الجميع أنه بداية فصل الربيع، وإذا قلنا آب (اغسطس) تفهمنا أنه فصل الصيف واشتداد الحر وعطلة المدارس، أما التقويم القمري فإنه يدور ويتغير مع أيام السنة، وكل عام هو في شأن، وهذا يربك ويحرج، ويصعب تتبعه، وتارة يأتي رمضان في العطلة الصيفية وتطول أيامه الحارة، وأخرى يكون أثناء الدوام والدراسة وخلال البرد القارس. ولعل هذا من رحمة الله بنا لنجرب الصيام في الحر والقر، ولكي يقصر على أقوام ويطول على آخرين (ممن يقطنون الشمال القريب من القطب).


ويحتج أنصار التقويم القمري بأن الأحكام الشرعية تتبع السنة القمرية، كرمضان والحج والعدة… الأمر الذي يعني أن الله اختار لنا –نحن المسلمين- التقويم القمري، وهذا الكلام حق، ولكنه لا يعني أن نهمل التقويم الشمسي، والإسلام جعل لدورة الشمس أيضاً أهمية لدى المسلمين وألزمهم بتتبعها حين ربط الصلوات الخمس بحركاتها اليومية في فلك السماء، فنحن نصلي الفجر عند الشروق، والظهر عند الزوال، وهكذا تتباعد الصلوات أو تتقارب، ويطول يوم الصيام أو يقصر بحسب بعد وقرب الشمس عن الأرض أي حسب فصول السنة الميلادية، وربط الله الفطر في يوم الصيام بغروب الشمس كما ربط الإمساك بالفجر الصادق فالتقويمان متداخلان ويصعب فصل أحدهما عن الآخر فصلاً تاماً. وقد يكون ربط الأحكام الشرعية بالأشهر القمرية رحمة من الله بنا؛ لأن هذه الأشهر أقل عدداً فتقصر العدة على المعتدة والأيام على الصائم… وتحري الأشهر القمرية يبعث النشاط والحيوية في المسلمين فيستطلعون الهلال ويترقبونه ليقيموا شعائر دينهم، وهذا يشحذ همتهم ويقوي عزيمتهم. وقد يكون ربط الأحكام الشرعية بالقمر اختباراً من الله لنا ليرى مقدار تقوانا والتزامنا فتحري الهلال يصعب أحياناً وطالما وقع الخلاف في بداية الأشهر القمرية ونهايتها.


والمسلمون يميلون إلى التقويم القمري لأنه ارتبط بالهجرة وبدأ منها، والتقويم الشمسي ارتبط بولادة المسيح، وهذا سليم ظاهرياً، ولكن هل تعلمون أن بعض أعياد الغربيين تتبع السنة القمرية، وتدور معها كما يدور رمضان على شهور السنة، فهم لا يستغنون عن التقويم القمري. ونحن أيضاً مثلهم نحتاج للتقويمين معاً الشمسي والقمري، واحد لينظم حياتنا والآخر لينظم ديننا، وفي الشام كنا نعتني بالاثنين، ولا نجد ذلك صعباً، والأفضل أن يعمم هذا في كل البلاد وأن نتمسك دائماً بالاثنين معاً لأن الأول يعرفنا أحكام ديننا فنعرف كم بقي للحج، ونتابع الأيام والليالي الفضيلة لنستثمرها في العمل الصالح والدعاء، والثاني يعرفنا فصول السنة والمناخ والدورات الزراعية وأمثالها من الأحداث الأرضية الكبيرة المهمة لنا، والتي يكون لها توقيت ميلادي وليس لها توقيت هجري.


أيها المسلمون إننا باهتمامنا بالتقويم الشمسي لا نقلد الغرب ولا نتبعه وإنما نهتم بالنظام الكوني العام الذي كان قائماً منذ خلق الله السموات والأرض والشمس والقمر آيتين من آيات الله، ونحن بحاجة إليه لنتابع الأحداث التاريخية القديمة، وبحاجة إليه لنبقى على اتصال مع الآخرين الذين يشاركوننا الحياة على الكرة الأرضية، وبننا وبينهم مصالح جمة.


ولن نخالف الشرع بهذا إن شاء الله، فالتقويمان -كما يبدو- توأمان متلاصقان ولا يمكن أبداً فصل أحدهما عن الآخر بلا خسائر أو تشويشات.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 01, 2016 14:03

March 26, 2015

نخسر أموالنا لنرضي الناس

والإسراف في المظاهر


ما لنا نحن – العرب – خاصة – دون عباد الله – نُضَيِّع ثروتنا في الترف بالمظاهر الفارغة التي لا تُسْمِن ولا تغني من جوع، فيتشارك بعض النساء وبعض الرجال كلٌّ بنصيب مفروض في هذا الإسراف، فمنه ما تهدره النساء، ومنه ما يتكفل به الرجال!


 


أما حظ النساء فهو للتجمل والتزين، ومما لا بد منه للمرأة:


• فتُجَمِّد الفتيات قسمًا من أموالهن لاقتناء حلية ثمينة، لا تَلْبَس مثلها النساء إلا في المناسبات العظيمة التي لا تتكرر إلا مرات قليلة.


 


• وتدفع سيدات المجتمع آلاف الريالات للحصول على ساعة ذهبية غالية، تلبسها مزهوة بها، فإن عَطِبَتْ لم تجد في بلادنا من يجيد إصلاحها، فتخسر المرأة الساعة وذهبها الثمين الذي لا يمكن استرداده، أو تعويضه بقيمته المادية الحقيقية.


 


• وتبدِّدُ بعض النساء قسمًا آخر على ((الماكياج)) الفاخر، فلا ترضى إلا بالشراء من الدُّور العالمية المشهورة المعروفة؛ سعيًا وراء المنتجات الجيدة، وخوفًا على بشرتها من الأذى أو الترهُّل، فماذا لو علِمَت تلك النسوة أن ارتفاع أسعار تلك المساحيق ليس بسبب جودتها وخلوها من المواد الضارة، وإنما هو استرجاع لما يدفعه أصحابها من أموال للإعلان عن منتجاتهم، بل لقد تواترت الأقوال بأسانيدَ معتبرةٍ، وبشهادة ثقاةٍ عدولٍ، بأن أولئك القوم أصحاب الدور العالمية يُصدِّرون لنا البضائع الفاسدة ويحتفظون لأنفسهم بالجيدة.


 


• وترمي أخريات أموالهن لشراء أفخر أنواع العطور، غيرَ مكترثات بأنهن يدفعن ثمنًا باهظًا لكل رَشَّة منه، ولقد استحوذت العطور العصرية على النساء، حتى أنستهن الحذر الواجب عليهن في استعمال الأنواع القوية منها، أي التي تلتصق بالجسم والثياب مدة طويلة، فلا تبالي المرأة أن تَبْرز للرجال وفيها بقايا رائحة، فهن يسرفن في الشراء، ويسرفن في الاستهلاك بلا حساب.


 


فهل من متطوِّعَةٍ تخبرني عن عيب الحلي المقلدة تقليدًا متقَنًا؟ وعن مساوئ الساعات العادية غير المذهَّبة؟ وعن غيرها؟


أليست الحلي للزينة؟ فالمقلَّدة بإتقان إذًا تقوم بالغرض! أليست الساعات لقراءة الوقت بدقة؟ فالساعات اليابانية الرخيصة تفي بالأمر! أليس الماكياج لتحسين المظهر لساعات قليلة؟ فالجيدة المعقولة السعر منها تؤدي المطلوب! خاصة وأن بعض الخبراء قد أفْتَوْا بأن الماكياج كله ضار للبشرة سواء أكان غاليًا أم رخيصًا، فما بال النسوة لا يشترين أجود الرخيص بدل الأغلى؟


 


أليس العطر لإخفاء الرائحة غير المستحبة؟ فأين النظافة بالماء التي أمرنا بها الإسلام؟ وأين العطور الطبيعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعملها؟


 


وأما حظ الرجال من السرف في المظاهر فهو في كل شيء:


• فإذا ذهب بعضهم ليشتري سيارة جديدة، كان اختياره مبنيًّا على نظرة الناس إلى مثلها، وإلى رأيهم في نوعها ومسقط رأسها، ولم يكن انتقاؤه مبنيًّا على جودتها، أو إمكانية صيانتها في البلد الذي يعيش فيه، أو تبعًا لعدد أفراد أسرته، بل إنه قد لا يهتم إن كان يملك ثمنها أم لا، أو كان قادرًا على تسديد أقساطها.


 


• وإذا تخرج الشاب من المدرسة وأراد دخول الجامعة، فكَّر في الفرع الذي يحمل إليه العائد المادي، والمجد المعنوي، والمظهر الاجتماعي، ولم يفكر في ميوله أو قدراته، أو في المصاريف التي سيتكلفها، بل إنه قد لا يخطر بباله أن هذه الدراسة قد لا توفر له عملاً في المستقبل لكثرة مُمْتَهِنيها، وقد وقع في هذا الشَّرَك كثيرٌ من الناشئة.


 


• وإذا أراد السكنى بَحَث عن المسكن الذي يليق بمكانته الاجتماعية، والذي يماثل مستوى أقرانه وأصدقائه، وإن غلا؛ ليكسب – كما يظن – احترامهم ومودتهم.


 


• وإذا مرض اختار مستشفى تليق بقدره! فلا يتطبب في المستشفيات الحكومية ولا في المستوصفات؛ لئلا يصغر في عين معارفه وأصحابه.


 


• وإذا بلغ أولاده سن المدرسة وضعهم في أحسن المدارس سمعة وأعلاها أجرًا، ويقول ليتعلموا جيدًا، ولكنه يفعل ليبدو كبيرًا، فكثير من هذه المدارس اكتسبت سمعتها الجيدة بسبب قدرة أصحابها على مصاريف الدعاية الباهظة، وإلا فهي مدارس عادية.


 


• وهم يسرفون في استعمال الأقلام الفاخرة ذات الأسعار الخيالية، ويُزَيِّنون أثوابهم بالأزرار الثمينة، ويشترون الأغلى من النظارات والهواتف المحمولة والساعات العالمية.


 


ولا يتساوى الناس في سرفهم هذا، فمنهم من يبالغ، ومنهم من يقتصد، فهم ليسوا فيه سواء؛ لاختلاف عقولهم وميولهم وظروفهم، إلا أن الإسراف على المظاهر يبقى مكروهًا شرعًا، ومرفوضًا من الناحية العملية، فقد روى أحمد: ((ما عال من اقتصد))، وروى الترمذي: ((السمت الحسن والتُّؤَدَة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة)). فالمسلم الواعي لا يبدد ماله كله على الأشياء التي تخسر قيمتها مع مرور الأيام، ولا يُجَمِّده في سلعة واحدة، أو حتى في سلع متفرقة (كالسيارة الفاخرة أو الحلية الثمينة…) من غير أن يضع في حسبانه غوائل الدهر، فقد يحتاج ماله يومًا لينفقه في حاجة مُلِحَّة ضرورية، فلا يستطيع أن يُسيلَهُ نقودًا من جديد.


 


وهذا درس قديم أتقنه الحذاق من الناس، فالتاجر يوزع ماله على عدة مصالح، والمستثمر يستثمر في عدة شركات، تحسُّبًا للربح والخسارة، ولكن بعض الناس ما زالوا يجهلون هذا، فينفقون أموالهم كلها على سيارة قد تصبح حطامًا في حادث سير مفاجئ، أو تُجَمِّد امرأة مالها في حلية ستفقد قيمتها مع مرور الأيام بسبب هبوط أسعار الذهب، وغلاء أجر الصياغة.


 


وإن الاهتمام بهذه المظاهر يجعل الإنسان سخيفًا يُقَوِّم الناس بصورهم ومُقْتَنياتهم، فيضِلُّ عن جوهرهم وحقيقتهم، وإن كثيرًا من تلك المظاهر توافه لا يضر عدمها، ولا يفيد وجودها فائدة حقيقية ذات قيمة، فلا ينبغي أن نهتم بها أكثر من اللازم، فكثيرات من النساء عشن حياة كريمة من دون أن يقتَنِين حلية ثمينة، ومنهن من رفع الله ذِكْرَهن وأعلى شأنهن من دون أن يلبسْنَ ساعة ذهبية، وكثير من الرجال خُلِّدوا واشْتُهِروا ولم يملكوا قلمًا للكتابة فضلاً عن الفاخر منه.


 


على أن بعض هذه المظاهر أصبح اليوم ضروريًّا ومهمًّا، شرطَ أن يُستعمل فيما وُضِع له، وأن يُقتنَى الحد اللازم منه؛ فمثلاً: ما الفرق الجوهري بين سيارة وسيارة إن كان الهدف منها أن تَحْمِلَنا؟ فكلها تسير وتسرع، وكلها توصل إلى الغاية، وكلها مُعدَّة لراحة الأفراد، وفيها متسع لحوائجهم، فلا يكون الفرق في هذه الحالة إلا بالحجم، واستهلاك الوقود، والقدرة، أما إن نوى الإنسان التفاخرَ والتعالي باقتنائه السيارة، فإن الفروق قد تكون بذلك كبيرة جدًّا؛ لأن واحدة تظهره ككبار القوم، وأخرى تنحَطُّ به إلى صغارهم، وأي عار هذا!


 


وإن هذه المظاهر التي يُغْرُوننا بها قد تُوقِع بين المسلمين العداوة والبغضاء؛ لما يصحبها من الكِبْر والتعالي، وقد تثير الغَيْرة والحسد؛ لما تُضَاعِفُ من شعور الغني بالرفعة والتميز، والفقير بالعجز وقصر ذات اليد.


 


وهذه التطلعات المادية، والرغبة في تملُّك الماركات الفاخرة، تُهلِك الإنسان، وترهقه نفسيًّا، وتُثْقِل كاهله بالمنافسة، وتجعله ذا إرادة ضعيفة للمغْرِيات، فينسى ميوله ورغباته، ويصبح أسيرًا للشهوات والزخارف.


 


وقد تدفع المرءَ إلى إهمال المصاريف المهمة على حساب الإنفاق على الكماليات غير الضرورية، بقصد الظهور أمام الناس بمظهر الغنى والجاه، وهنا يكلف الإنسان نفسه ما لا يطيق، وهو مخالف للنص: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ﴾ [الطلاق: 7]، بل إنه – في الإسلام – كما يُحْجَر على الْمَدِين الذي كثُر دينه ولم يجد وفاءً له، فإنه قد يُحجَر على السفيه، وهو الذي يصرف المال في الفسق، أو فيما لا مصلحة فيه ولا غرض دينيًّا ولا دنيويًّا، وإني لأعرف أزواجًا قد يقتربون من هذا التعريف بسلوكهم؛ فهم يسرفون على أنفسهم، فيَبْذلون لها كل غال من اللباس والمتاع ليظهروا ويرتفعوا، ثم هم يُقَنِّنون على حاجات أهلهم الضرورية، ومنهم من يُؤثِرُ أصحابه بماله القليل، فيدعوهم إلى أفخر المطاعم، ويخصهم بأثمن الهدايا، ويترك عائلته عالةً يتكفَّفون الناس، ويخالف الحديث الصحيح الذي يقول: ((كفى بالمرء إثمًا أن يُضَيِّع من يعول))، فهل يصح هذا السلوك؟!


 


فالمفروض أن يكون الإنفاق حسَبَ الأولويات التي أمر بها الشرع، وأن يؤدي حقه، ولا ضير بعد ذلك أن يستمتع المرء بماله فيما أحله الله، خاصة إذا كان الإنسان موسرًا، فلا إثم عليه إن أنفق بالمعروف، ولكن بالمعقول وبتوازن، فإن الإنفاق إن زاد عن الحد وكان في المظاهر الفارغة ولَّد البطر والاستهتار، وهما سبب هلاك الأمم: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16] فجعل الترف سببًا للفسق، والفسق سببًا في الهلاك والتدمير.


 


وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تعوَّذ من الفقر، وعلَّم أصحابه التعوذ منه، فإنه شدَّد أكثر على مغبة الافتتان بالدنيا واللهاث وراءها، فروى البخاري: ((واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسِطَت على من كان قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، فَتُهْلِكَكُم كما أهلَكَتْهم))، ومن أجل ذلك نهى الإسلام المسلم أن ينظر إلى من هو فوقه، ونبهه إلى ألاَّ يَمُدَّ عينه إلى ما متع الله به غيرَهُ من زهرة الدنيا؛ فإنه عَرَض زائل، وقد يكون من وراء التهافت عليه والإسراف فيه عذابٌ من الله أليم.


 


وإن الله الذي أوجد لنا الدنيا وزيَّنها وزخرفها، والذي رزقنا وأعطانا، هو نفسه الذي أمرنا أن لا نستزيد منها، وأن نَحْذَرها، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الدنيا حُلْوة خَضِرة))، ثم حذر من فتنتها بقوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ فأمَرَنا بالزهد والتواضع، وبالغ في الوصاية خوفًا علينا من الانسياق خلفها، وأكد لنا أن الإسراف تتبعه الحسرة واللوم.


 


ولقد جادلتْني سيدة بعد نشر هذا المقالة في مجلة “النور” فقالت: “لقد بالغْتِ يا أختي كثيرًا، فلِمَ وُضِعَ المال؟ ومن كان في سَعَةٍ، فماذا يفعل بالفائض؟ ألا يَحِقُّ له أن يشتري وينفق ويتمتع؟.


فقلت لها (وهذا – أيضًا – جواب لمن يتساءل مثل أسئلتها): “المال وُضِع فعلاً للتمتُّع، ويمكن للغني القادر أن ينفقه كيف يشاء في المباحات، ولكن الأفضل والأصوب والأحسن ألاَّ يفعل؛ ذلك أن الإسلام يرفض البذخ مهما اغتنى المرء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإرفاه، وهو التنعُّم والدَّعَة، ولِينُ العيش والتوسُّع في النفقات، وبما أن المال مالُ الله فعلى المسلم – إذًا – أن ينفقه فيما يرضيه، وبالتالي فإن الحرية التي يتمتع بها الغني لها ضوابط وليست سائبة، وهي أيضًا نسبية، ومن كان يملك الملايين هو الذي يحق له أن يشتري هذه الأشياء الباهظة الثمن، أما من يملك الآلاف فإنها تبقى إسرافًا بحقه، لا شك في هذا.


 


كما أن هذا الإنفاق – مهما حاولنا تبريره وأخْذَه بحسن نية – فإنه لا يمكن أن يكون إلا مباهاة ومفاخرة، وهذا مرفوض وبشدة في شريعتنا، وهو من أول علامات “الكِبْر”، و”الكبر” من الكبائر، والدليل (على أن الناس لا يهتمون بالمظاهر إلا ليتفاخروا ويتعالوا) أن المرء من أولئك لا يأبه لتلك المظاهر إذا خلا إلى نفسه، بل إنه يخاف على أشيائه الغالية الفاخرة، فيحفظها في أماكن مصونة ومغلقة، حتى إذا برز للآخرين تجمَّل وتزيَّن بها، لينبهروا ويقولوا: يا ليت لنا مثل ما لفلان، فإنه لَذُو حظٍّ عظيم، عندها يسعد ذلك المرء بأنه مَحَطُّ الأنظار، وبأنه مختلف عن الناس، فهو من طبقة أرفع من طبقتهم، فهل هذا من خلق المسلم؟


 


والإسراف على المظاهر مرض مُعْدٍ، وإذا تُرِك تفاقم وأصبح وباءً؛ فالناس يقَلِّد بعضهم بعضًا، بلا تفكير بالفروق، ولِعِلْم النبي عليه السلام بطبيعة النفس البشرية أَمَرَنا باعتزال الأثرياء، فروى الترمذي: “إياك ومجالسةَ الأغنياءِ”، فالملاحَظ أن العامة إذا عاشروا المترَفِين اشتهت نفوسهم هذه الحياة الراغدة، وإذا رأوا زينة الأغنياء تهافتوا للحصول على مثلها، واندفعوا لمجاراة أولئك الموسرين في البذخ، وفي سبل صرفهم للمال، وبما أنه لا طاقة لأولئك ليكونوا مثل الأغنياء في ثرائهم، ثم في إنفاقهم، فإنهم يهلكون وهم يحاولون، ويكون إثمهم – والله أعلم – على أولئك المترفين؛ للسُّنَّة السيئة التي روجوا لها، وهي الإسراف وإنفاق المال على التفاهات والمظاهر الفارغة، وإن كان العامة لا يخلون من المسؤولية للحديث الذي رواه البخاري: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم))، هذا مع الإثم الأشد الذي يقع فيه الأغنياء، وهو التشجيع على نقل أموال الأمة المسلمة إلى أيدي أعدائها لقاءَ التُّرَّهات”.


 


إن أبسط فرد، يدركُ اليوم أن الإسراف في الاستهلاك والبذخ في المظاهر علامتان سيئتان؛ فهما دلالة على التخلف والتبعية وعدم تقدير العواقب، وإن هذه المظاهر الكمالية التي ترهقنا وتقطع أعناقنا، تُصنَع في المدن الغربية، وتُستَورد كلها من البلاد الأجنية، ورِبْحها لهم وحدهم ولأبنائهم، وإن هذه الأموال التي يأخذونها منا – لقاء المباهاة والترف والمفاخرة – يصنعون بها المدافع والقنابل، فيقتلون بها إخواننا في الدين في أنحاء العالم الكبير.


 


وإن هذه الكماليات التي يعطوننا إياها لنتنعم بها، يأخذون مقابلها حَوْلَنا وقُوَّتَنا، ويستثمرونهما في التخطيط لضربنا.


 


فما قولكم دام فضلكم؟ هل نأخذ على أيديهم، أم نملي لهم ليسرعوا في استئصال إخواننا، ثم يتفرغوا للقضاء علينا؟

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 26, 2015 16:27

April 9, 2014

فترة مسائل إجتماعية 25 / 3 / 2014 – الاسراف والجوع – إذاعة شرق المتوسط



فترة مسائل إجتماعية .. مع الأستاذة عابدة العظم

على إذاعة شرق المتوسط

تناقش فيها الأستاذة عابدة مسائل إجتماعية تهم المجتمع السوري

موضوع الفترة : الاسراف والجوع

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 09, 2014 10:34

فترة مسائل إجتماعية 18 / 3 / 2014 – الوعي وأهميته في الظروف الحالية – إذاعة شرق المتوسط


فترة مسائل إجتماعية .. مع الأستاذة عابدة العظم

على إذاعة شرق المتوسط

تناقش فيها الأستاذة عابدة مسائل إجتماعية تهم المجتمع السوري

موضوع الفترة : الوعي وأهميته في الظروف الحالية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 09, 2014 10:33

فترة مسائل إجتماعية 11 / 3 / 2014 – وضع الطلاب في الثورة – إذاعة شرق المتوسط


فترة مسائل إجتماعية .. مع الأستاذة عابدة العظم

على إذاعة شرق المتوسط

تناقش فيها الأستاذة عابدة مسائل إجتماعية تهم المجتمع السوري

موضوع الفترة : وضع الطلاب في الثورة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 09, 2014 10:29

فترة مسائل إجتماعية 4 / 3 / 2014 – أطفالنا والثورة – إذاعة شرق المتوسط


فترة مسائل إجتماعية .. مع الأستاذة عابدة العظم

على إذاعة شرق المتوسط

تناقش فيها الأستاذة عابدة مسائل إجتماعية تهم المجتمع السوري

موضوع الفترة : أطفالنا والثورة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 09, 2014 10:28

عابدة المؤيد العظم's Blog

عابدة المؤيد العظم
عابدة المؤيد العظم isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عابدة المؤيد العظم's blog with rss.