What do you think?
Rate this book


182 pages, Paperback
First published January 1, 1987
"ومن العجائب أعيُنٌ مفتوحةٌ ××× وعقولهن تجول في الأحلامِ"
–البحتري
ثم قلت في ختام ما سميته « لمحة من فساد حياتنا الأدبية ، كتاب المتنبى
أما الآن ، فإنى أتلفت إلى الأيام الغابرة البعيدة ، حين كنت أشفق من مغبة السنن التي سنها لنا الأساتذة الكبار ، كسنة "تلخيص" أفكار عالم آخر ، ويقضى أحدهم عمره كله في هذا التلخيص ، دون أن يشعر بأنه أمر محفوف بالأخطار ، ودون أن يستنكف أن ينسبه إلى نفسه نسبة تجعله عند الناس كاتباً ومؤلفاً وصاحب فكر ، هذا ضرب من التدليس كرية . ومع ذلك فهو أهون من "السطو" المجرد ، حين يعمد الساطي إلى ما سطا عليه ، فيأخذه فيمزقه ثم يفرقه ويغرقه في ثرثرة طاغية ، ليخفى معالم ما سطا عليه ، وليصبح عند الناس صاحب فكر ورأى ومذهب يُعرفُ به ،ويُنسَب كل فضله إليه . ومع ذلك ، فهذا أيضاً أهون من "الاستخفاف" ، بتراث متكامل بلا سبب ، وبلا بحث ، وبلا نظر ، ثم دعوة من يعلمون علماً جازماً أنه غير مطيق لما أطاقوا ، إلى الاستخفاف به كما استخفوا . ومع ذلك ايضا، فهذا أهون مما فعلوه وسنُّوه من سنة « الإرهاب الثقافي » الذي جعل ألفاظ « القديم » و « الجديد » و « التقليد » و « التجديد » و « التخلف » و « التقدم » و « الجمود » و « التحرر » ، و « ثقافة الماضي » و « ثقافة العصر » سياطاً ملهبة ، بعضها سياط حث وتخويف لمن أطاع وأتى ، وبعضها سياط عذاب لمن خالف وأبى.
أتلفت اليوم إلى ما أشفقت منه قديماً من فعل الأساتذة الكبار ! لقد ذهبوا بعد أن تركوا ، من حيث أرادوا أو لم يريدوا ، حياة أدبية وثقافية قد فسدت فساداً وبيلا على
مدى نصف قرن ، وتجددت الأساليب وتنوعت ، وصار « السطو » على أعمال الناس أمراً مألوفاً غير مستنكر ، يمشى في الناس طليقاً عليه طيلسان « البحث العلمي »
و « عالمية الثقافة » و « الثقافة الإنسانية » ، وإن لم يكن محصوله إلا ترديداً لقضايا غريبة ، صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية ، واختلط الحابل بالنابل ، قل ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت ، فإنه صادق صدقاً لا يتخلف . فالأديب منا مصوِّر بقلم غيره ، والفيلسوف منا مفكر بعقل سواه ، والمؤرخ منا ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه ، والفنان منا نابض قلبه بنبض اجنبي عن تراث فنه .
وأما الثرثرة والاستخفاف ، فحدث ولا حرج ، فالصبي لكبير يهزأ مزهوا بالخليل وسيبويه وفلان وفلان ، ولو بُعِث أحدهم من مرقده ، ثم نظر إليه نظرة دون أن يتكلم ، لألجمه العرق ، ولصار لسانه مضغة لا تتلجلج بين فكيه ، من الهيبة وحدها ، لا من علمه الذي يستخف به ويهزأ.
والله المستعان على كل بلية ، وهو المسئول أن يكشفها ، وهو كاشفها بمشيئته ، رحمة بأمة مسكينة ، هؤلاء ذُنوبُها كانوا ، وأشباهٌ لهم سبقوا ، وغفرانك اللهم.