What do you think?
Rate this book
209 pages, Paperback
First published January 1, 2001
إيماني بالجزائر وقناعاتي، كانت آنذاك كافية لتصنع مني جندياً. كنت أكنّ احتراماً شديداً للجيش الجزائري. تعلّمنا في البرامج المدرسية وفي التاريخ الرسمي أن الجيش الوطني الشعبي، السليل الفاضل لجيش التحرير الوطني، هو الدعامة الرئيسية للجزائر، وسيتبيّن لي لاحقاً أن الجزائر لا تملك جيشاً، لأنّ... الجيش هو الذي يملك الجزائر.
بعد نحو عشرة أيام، في كانون الثاني 1993، توجّهت إلى الحي الذي قُتل فيه الملازم رحّال، مجموعة مشتركة مؤلّفة من عناصر من مركز مكافحة التخريب والفوج 18 لمظليّي الصاعقة بقيادة العقيد حمانة يساعده الملازم أول بوحفصا والملازم خالد. كان لديهم لائحة بأسماء شبّان متعاطفين مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ. دامت الاعتقالات والتحقيقات طوال الليل. أُمسك على حوالى عشرة شبّان واقتيدوا إلى ثكنة بني مسوس. بعد أسبوع عثر عليهم ذووهم قتلى، عُرضت جثثهم حول مبنى ميدان بوفاريك الرئيسي. وكالعادة تحدّثت الصحف عن «هجوم إرهابي».
أعطى "توفيق" تفويضاً تاماً بحرية العمل لكل من هذه المكاتب. حرّك المنافسة بين قادتها ولم يتردد في تحريض أحدهم ضد الآخر لكي يحصل على نتائج أكثر باستمرار. في هذه الحرب غير المعلنة بين المكاتب، كانت جميع الوسائل مباحة. كل وسائل التعذيب، أسوأ الوسائل لكي يبرّر نفسه أمام توفيق، من اعتقال "مشتبهين"، بالعمالة وتعذيبهم واغتيالهم، دون اهتمام بمعرفة إن كانوا أبرياء أم مع المتشددين. أصبحت أسماء طرطاق وحنكة وجبار وكثير غيرهم مرادفة للرعب. بات الدماء على أيدي كل هؤلاء "العدالة"، أكثر منها على أيدي الجماعات الإسلامية كما يُعتقد. لقد اعتقلوا وقتلوا عملاء أو اغتيال مئات العسكريين وآلاف المدنيين الذين يسمّيهم اليوم "المتشدّدين". بالنسبة لي يمكن الحديث أيضاً عن توفيق وطرطاق وعتير وجبار كـ"أمراء جماعات". فهم بوحشيتهم لا يختلفون عن مختلف أمراء الجماعات الإسلامية، مثل عنتر زوابري وآخرين...
كنا نعرف أننا في "حرب أهلية"، حتى لو لم يلفظ الجنرالات هذه الكلمة أبداً. لكن التعليمات الموجّهة إلينا كانت واضحة: "الإسلاميون يريدون الذهاب إلى الجنّة، فلنقدّمهم إليها، وبسرعة. لا أريد أسرى، أريد قتلى". خرجت هاتان الجملتان اللتان أصبحتا أسطوريتين من فم رئيس مركز مكافحة التخريب، الجنرال محمد العماري. لا يمكن إعطاء تلخيص أكثر وضوحاً للعقيدة السائدة في الهرم العسكري في ذلك الوقت. نُقل عن الجنرال العماري في نيسان 1993، أثناء اجتماع في قيادة القوات البرية الجزائرية، حضره كافة كبار الضباط الميدانيين في الحرب والدين، إن استمرّوا بهذه الفترة كثُف فيها الجيش خسائر جسيمة نراها كلّنا لا تُحتمل.
حدثت أيضًا تواطؤات عديدة بين رجال الشرطة؛ كان بعضهم يؤخّر سلاحه للإرهابيين، الوقت الكافي للقيام باعتداء، وحتى اغتيال أحد زملائهم. انتشرت هذه الظاهرة في كل أنحاء الجزائر تقريبًا، وقد احتاج الكشف عن رجال الشرطة هؤلاء وقتًا طويلًا.
كثرت الكمائن في محيط الأخضرية، وكثيراً ما جاءتنا التعليمات بعدم ملاحقة رجال «التنظيم» في وقت كنا نستطيع فيه النيل منهم. لم أفهم شيئاً من تلك التعليمات. ومن ناحية أخرى كان أي اعتراض يعاقب عليه بشدة. وبدلاً من إرسالنا لمواجهة رجال مسلحين من الجماعات، كان يُطلب منا اعتقال مدنيين يُزعم بأنهم «متواطئون» مع الجماعات المسلحة.
ذلك المساء، نحو السادسة والنصف، أخرج الملازم عبد الحق وضابطان من فوج الاستطلاع 25 (الملازم منير بوريبان وشمس الدين سعداوي) من الزنزانات، رئيس بلدية الأخضرية والمسجونين الخمسة معه (الذين أوقفوا قبله). كانوا في حالة يرثى لها، مقيّدين بسلك حديدي ومعصوبي العيون. دفعوهم مثلما يُساق الدواب إلى المسلخ، في شاحنة تويوتا مضلّعة (وهي عربية للبلدية وليست للجيش، كثيراً ما استخدموا هذا النوع من العربات لهذه «العمليات الخاصة جداً»). بالخروج من الحوز، توقفوا في نحو خمسة عشر رجلاً لصعقهم بوحشية. أرغموهم على الركوع وتلقّوا الضربة تلو الأخرى برصاصتي كلاشنيكوف في العنق، وتركوا الجثث في مكانها.
في شهر أيار لستُ موجة الاعتقالات في الأخضرية، ذات ليلة طُلِبَتُ، مع رجالي، أمراً بمرافقة ضباط استخبارات في «مهمّة». بدأ هؤلاء الضباط يخلطون المدنيّة أشبه بالإرهابيين (لحيى عمرها خمسة عشر يوماً). وكان هذا يحدث كثيراً. بِتُّ أعرف أنه عندما يُطلق رجال الاستخبارات لحاهم، فهذا يعني أنهم يعِدّون لمهمّة «قذرة».
بل أحرق أسيرَين وهما على قيد الحياة: طفل في الخامسة عشرة ورجل يتناهز الخامسة والثلاثين. لن أنسى هذا المشهد فقط كان هناك، إضافة إلى، الملازمَين عبد الحق ورمضان من مركز مكافحة التخريب، والملازمَين بوريبان وشمس الدين وبوتشيباش من فوج استطلاع 25. أركع الملازم شمس الدين، الأسيرَين، أمام الجميع، وألهب أساكِل A72، سريع الاشتعال الذي يستخدم وقوداً في بعض الأبنية المدرعة. "لا، لا يفعل ذلك"، قلت لأحد زملائي. راح الصبي يبوس يديه. أمام نظرات الجنود العسكريين المتجمّعين، حوالى المئة، أخرج الملازم شمس الدين القداحة وأشعلها فوق أساكل المشتعلة. على الفور امتصّت ألسنة اللهب جسديهما فاحترقا. حاول بعض الجنود إطفاء النار كي يخفوا الحقيقة، لكنّهم فشلوا. أضافت إلى ذلك صرخات ألمه التي توقظ الموتى من رقاده. لبث رفّيقي الذي حضر المشهد، صامتاً من الرعب، وبعد بضع دقائق تقيأ لأتى المصير نفسه.
ضابطان. وبعد أسبوع، قام فريق مكوّن من ضباط استخبارات وعناصر من الفوج 12 لمظليي الصاعقة، بهجوم على عائلات الإرهابيين في المنطقة. كانوا يطرقون الأبواب بشباب إسلاميين قائلين: «افتحوا، نحن الإخوة»، ومن ثم يذبحون جميع أفراد الأسرة، رجالاً ونساءً وأطفالاً. خلال أسبوع قُتلوا أكثر من مئة وثمانين شخصاً. لم تتطرق وسائل الإعلام الجزائرية والأجنبية فقط إلى هذه المذبحة.
كما قلت، كان الفوج 12 لمظليي الصاعقة بالنسبة لي هو فوج القتلة. إنه الفوج الوحيد في مركز قيادة مكافحة التخريب، الذي يضم «سرية خاصة» من أربعة فصائل من اثنين وثلاثين رجلاً (في الأفواج الأخرى، كان هناك «فصيل»، واحد «خاص» مكلّف بالملف القذر من المهام). في أغلب الأحيان كان رجال هذه السرية الخاصة بالسروال مبلّلاً ببولهم بسبب تعاطيهم شتى أنواع المخدرات، وكان «الشمة» تملأ وجوههم. في ساحة بباب الوادي، قلب مدينة الجزائر، عام 1993 وبتأثير من أحد المخدرات التي أُجبر على القيام بها، «أرادنا نقوم بعمل قدّر ببلوغ منا الخروج كل ليلة وكل يوم»، ردّ أحدهم، وقال: «نتكلم عن الجنرالات طبعاً». قال لي وقد بدأ صوته يرتعش: «أنا أعدّ نفسي، أنا أعدّ نفسي، هل نحن في الليل أم النهار». كان ذلك اليوم، وقال بأنه يتعاطى المخدرات أغلب الأحيان ويدخن الحشيش كل الوقت، مثل جميع رجال سريته.
فاجأتني بثقتها كثيراً، وسألتها كيف لها أن تكون متأكدة بهذا الشكل من وجودهما هنا؟ أجابتني بأن هذه الفيلا كانت أثناء حرب التحرير تُستخدم من قبل العساكر الفرنسيين الذين يحبسون فيها الموقوفين المدنيين (هذا ما كنا نفعله نحن، عليّ أن أوضح نحن جميع الأشخاص الموقوفين في قطاع عملياتنا كان يؤدي بهم إلى هنا). صُدمت حقاً. الأمر يدهش، لا شيء تغيّر بالنسبة لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وكانت طفولتها بالجيش الفرنسي. على نحو ما، لم يكن مستغرباً أن نستخدم الطرق نفسها التي استخدمها الفرنسيون. كنت خجلاً حقاً من الانتماء إلى هذا الجيش. بالطبع لم ترَ العجوز زوجها وولدها ثانية أبداً. لقد حدث تصفيتهما، مثل كثيرين غيرهما.
اختار آخرون الفرار من الجيش، ولم يكن لغالبيتهم أي شأن بالإسلاميين. لقد تعرّضوا لقدر كبير من المظالم، وذاقوا كثيراً من العقوبات غير المبرّرة، والإذلال. استطاعت مديرية الاستخبارات الاستفادة من هذا الوضع لاختراق بعض الجماعات الإسلامية بتنظيم عمليات فرار «حقيقية - كاذبة». لم يرِد الإسلاميين، وهم يستقبلون الفارين الزائفين، شكّ بأن ضباط «استخبارات» يؤدّون مهمة خاصة، باتوا بين صفوفهم.
سأقول أيضًا بأن قادة الجيش الوطني الشعبي اتبعوا سياسة ميكيافيلية مع مرؤوسيهم. سعوا لتوريط الجميع في عمليات القتل، بحيث تتلوّث يدا كل جندي وكل صف ضابط وكل ضابط بالدماء. لقد أعطونا حرية التصرف لكي نصبح شركاءهم. كثيرون منا قبلوا بالقيام بدور القتلة وما زالوا يقومون به. وفضّل آخرون الهرب إلى الخارج أو الفرار من الجيش للانضمام إلى المقاتلين.
كنا بالفعل في قمّة الجنون. مقابلنا إرهابيون يدّعون أنهم أفراد في قوات الأمن، وعندنا يتنكر عساكر بهيئة إسلاميين للقيام بعمليات إرهابية تُنسب بعدها إلى هؤلاء الإسلاميين. كما يندّس عناصر من قوات الأمن بين الجماعات المسلحة. وبمناسبة حملات التعبئة، بغى إسلاميون جُندوا حديثًا من الجيش حاملين معهم أسلحة...
ثمّة عسكريون ورجال شرطة تَعلّموا كيف يبتزّون التُجّار. هكذا تلقى تجّار كثيرون زيارة «مجموعة مسلحة»، يعتقدون بأنها جماعة إسلامية حقيقية، فيدفعون. من يرفض منهم الدفع يُقتل وتُنسَب الجريمة للإرهابيين. أُخذت أحياناً إجراءات تأديبية، لكنها بقيت استثنائية. بل وقعت حالات ابتُزّ فيها رجال شرطة تجّاراً، ثم عادوا إليهم في اليوم التالي لاعتقالهم بتهمة تمويل الجماعات المسلحة!
لا أشعر اليوم سوى بالاحتقار والقرف من الجنرال بڤاسم بخاري، المدعي العسكري. يُفترض بهذا الضابط أنه يمثل العدالة، وأستطيع أن أقسم بأنه حكم مئات الأبرياء بالسجن طيلة فترة قيامه بعمله. إنه يمثل اليوم في نظري، أكثر ما في الجيش الجزائري من فساد. أستطيع أن أقسم أيضاً بأنه هو وأشباهه من يجب أن يكونوا خل�� القضبان.
ما يزال العنف موجوداً. لكني فهمت أن البعض لم يضيّعوا وقتهم. فينما كنت أخاطر بحياتي مع زملائي في بني مسوس والأخضرية وغيرها، وبينما أودعت السجن ظلماً، ملأ آخرون جيوبهم. أصبح هناك كثير من الأغنياء الجدد. لا أدري بأية معجزة اغتنى عسكريون ورجال شرطة ودرك وجمارك وإسلاميون وسياسيون، خلال سنوات الحرب هذه. لا شك أن هؤلاء هم «الوطنيون» الحقيقيون. لقد سارت تجارة الحرب على نحو جيد…
كان بحوزتي عناوين جميع المنظمات غير الحكومية التي تجمع معلومات عن الجزائر. اتصلتُ بها، وبالتوازي مع ذلك تعرّفتُ على عدة صحافيين رويتُ لهم قصّتي. صدّقني بعضهم وفعلوا كل شيء لنشر شهادتي في الصحف، وظنّ آخرون أني أحاول التلاعب بهم فساورَوا إلى الفرار. في جميع الأحوال، سمحت لي هذه التجربة بأن أكتشف أن بعض وسائل الإعلام الفرنسية هي أبعد من أن تُصنّف بالحرية التي تزعمها. بعض الصحف المدافعة عن حقوق الإنسان، تدافع عنها نظراً لعلاقاتها بنظام الجزائر، أو لمصالح اقتصادية، تعرّضها للنقد بنشر شهادة عسكري جزائري. من الصحافيين من أقرّ بخشيته أن يُمنع من دخول الجزائر. هناك أخيراً أصحاب الأفكار الجاهزة والأداء القاطع. فهؤلاء، يرون أن لا يوجد في الجزائر غير الإسلاميين الذين يقتلون. ذلك برغم سيرهم في التاريخ عكس ذلك، ويبين لهم أنهم كانوا شركاء المجرمين.
لم يكن كل من تلك الأفواج يضم في الواقع سوى عدد صغير من الضباط: زهاء خمسة عشر ضابطاً برتبة ملازم أول، عشرة برتبة ملازم، ثمانية نُقّاب، ومقدّم أو عقيد. أي نحو مئة وسبعين ضابطاً من القوات الخاصة، ككل. كنا جميعاً نعرف بعضنا عملياً (كثير منّا عرف الآخر في شرشال) وأتيح لنا كثيراً أن نلتقي في عملية أو أثناء الإجازات. كانت المعلومات تنتشر وإن بقيت فيما بيننا…
آخر، في بداية العام 1995، قلقت جميع وحدات الجنرال سعيد باي مذكرة تُمنعنا من مشاهدة القنوات التلفزيونية الفرنسية (عدا قناة M6) التي نستطيع استقبالها بالصحنون اللاقطة، بحجة أنها «تشوّه صورة الجزائر، وتحاربنا». يلمح هذا الكلام إلى الطريقة التي غطّت بها تلك القنوات مسألة طائرة الإيرباص التابعة للطيران الفرنسي التي اختُطفت في الجزائر العاصمة. كما إلى ملفّ وثائقي عن المقاومة الإسلامية. طُبق هذا المنع فعلياً على الجنود وصنف الضباط حصراً.
تبدو الحصيلة اليوم، بعد تسع سنين من بداية الحرب، مخيفة: 150,000 قتيلاً على الأقل، وآلاف المختفين، ومئات آلاف الأرامل واليتامى والجرحى والمركّلين. وما زال المسؤولون عن هذه المأساة موجودين.
" إنني مقتنع تماما بأمر: يجب محاربة الإرهاب بلا تدابير مؤقتة و دون تردد، و أيضا بكشف النقاب عن أولئك الذين يستفيدون منه بحجة محاربته!
يجب أن تتفهم أوروبا و الولايات المتحدة : عاجلا أم أجلا انها ستدفع الثمن بتظاهرها بعدم رؤية شئ و عدم فهم شئ. رؤية الإرهاب قوميا و محليا أمر تم تجاوزه اليوم، لا غنى عن التعاون الدولي إلا ان عليه في كل سياق تجنب الفخاخ الدعائية و فهم الأوجاع الاجتماعية العميقة التي تصدر عنها أسباب الجهاد الإسلامي."
“إن تعبير الحرب " حرب ضد المدنيين " هو الأصح في رأيي، لتلخيص المأساة الجزائرية ، فالفقراء وحدهم في الحقيقة هم من دفعوا الثمن ، و من جميع وجهات النظر ، أما مالكو السلطة الحقيقية و أقرباؤهم أسرهم ، فلم يكن هنالك ما يخشونه سواء من الإرهابيين او الفقر
الجزائر لا تمتلك جيش و لكن الجيش يمتلك الجزائر
“كنا نعرف أننا في " حرب أهلية " حتي لو لم يلفظ الجنرالات هذه الكلمة أبدا.لكن التعليمات الموجهة إلينا كانت واضحة : " الإسلاميون يريدون الذهاب إلي الجنة . فلنااخذهم إليها ، و بسرعة . لا أريد أسري ، أريد قتلي ! " خرجت هاتان الجملتان اللتان أصبحتا أسطوريتيتن،