يقدم السعي للعدالة مدخلا جديدا لدراسة تاريخ الدولة المصرية الحديثة عن طريق تتبع التطورات التي شهدها الطب والقانون في القرن التاسع عشر. فاعتمادا على السجلات الوفيرة المحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة، يعرض الكتاب للأساليب التي استحدثتها الدولة المصرية للتحكم في أجساد رعاياها، كما يعرض للأساليب العديدة التي اتبعها الأهالي للتحايل على تلك السياسات أو لاستخدامها سعيا منهم للعدالة.
ويتناول الكتاب في فصوله الخمسة مراحل تأسيس الخدمة الطبية وسياسات الصحة العامة من تشريح وتطبيق للحجر الصحي وتطعيم ضد الجدري؛ والأساليب التي طُبقت بها الشريعة في المحاكم الشرعية ومجالس السياسة؛ وسياسات تخطيط المدن؛ ودور الحسبة في الرقابة على الأسواق؛ إضافة إلى السياسة العقابية بما تشمله من قصاص وسجن وتعذيب. باتخاذه الجسد البشري كوحده للتحليل يقدم السعي للعدالة تصورا شاملا للطريقة التي تأسست بها حداثة مصرية مميزة في القرن التاسع عشر.
A specialist in the social and cultural history of nineteenth-century Egypt, Khaled Fahmy teaches modern Middle eastern and North African history at Tufts University.
واخيراااا كتاب دسم قرأته على تطبيق ابجد لمدة شهر كامل بجانب كتب أخرى.
اسلوب الدكتور خالد فهمي يجمع بين الدقة والسلاسة وتحري الصحة والتوثيق. الترجمة كذلك ممتازة للغاية، بل لا تشعر بأن الكتاب مترجم على الإطلاق.
"يقدم السعي للعدالة مدخلا جديدا لدراسة تاريخ الدولة المصرية الحديثة عن طريق تتبع التطورات التي شهدها الطب والقانون في القرن التاسع عشر. فاعتمادا على السجلات الوفيرة المحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة، يعرض الكتاب للأساليب التي استحدثتها الدولة المصرية للتحكم في أجساد رعاياها، كما يعرض للأساليب العديدة التي اتبعها الأهالي للتحايل على تلك السياسات أو لاستخدامها سعيا منهم للعدالة.
ويتناول الكتاب في فصوله الخمسة مراحل تأسيس الخدمة الطبية وسياسات الصحة العامة من تشريح وتطبيق للحجر الصحي وتطعيم ضد الجدري؛ والأساليب التي طُبقت بها الشريعة في المحاكم الشرعية ومجالس السياسة؛ وسياسات تخطيط المدن؛ ودور الحسبة في الرقابة على الأسواق؛ إضافة إلى السياسة العقابية بما تشمله من قصاص وسجن وتعذيب. باتخاذه الجسد البشري كوحده للتحليل يقدم السعي للعدالة تصورا شاملا للطريقة التي تأسست بها حداثة مصرية مميزة في القرن التاسع عشر".
كتاب مكون من خمس فصول، غير المقدمة والخاتمة، كل فصل فيهم يستحق يتصنف ككتاب لوحده. الكتاب دة هيفضل بالنسبالي واحد من أهم وأمتع الكتب الي قرأتها في حياتي، ولازم هعيد قراءته مرة تانية.
مع أني لست محترفة في قراءة كتب التاريخ فلا عندي فيه تجربة ولا عندي زورق لكن هذا كتاب لا يمكن أن يمر مرور الكرام بل يجب أن نغدق عليه بالثناء الذي يستحقه فقد بذل خالد فهمي مجهوداً كبيراً في كل الموضوعات التي تعرض لها وفكرة الكتاب في حد ذاتها فكرة جديرة فعلا بالبحث والدراسة حيث يسعى الكتاب لفهم التحولات الجذرية التي طرأت على مجالي الصحة العامة والطب الجنائي في مصر إبان القرن التاسع عشر من عدة زوايا مختلفة كمحاولة للسيطرة على الجسد ومحاولة للتطوير والتغيير وعلى تفنيد الخطاب الاستعماري المتعجرف في النحي باللائمة على الإسلام والشريعة كعقبتين في طريق قبول أي فكر جديد يصدره الغرب وإن كانت أمتع الأجزاء بالنسبة لي كانت في تحليل خالد فهمي للجوانب الاجتماعية والأخلاقية للشعب المصري وكيفية تفاعله مع تغير وتغيير كل تلك المؤسسات واستخدام العنف في فرض العديد منها وتحليله العميق لأسرة محمد علي وشخوصها المختلفة وطبعاً فكرة السعي للعدالة نفسها ومدى النجاح في تحقيقها ثم دراسة النوايا الخفية التي لم تكن تأخذ الجانب الإنساني في الحسبان في أحيان كثيرة بل كانت كلها محاولات الباشا للحفاظ على جيشه ودعمه بكل الطرق الممكنة لتحقيق أهدافه هو الشخصية وطموحاته الجامحة والأدلة الموثقة التي يسوقها خالد فهمي مثيرة جدا للاهتمام لا سيما فيما يرويه عن القضايا الجنائية وكيفية التعامل معها من المحاكم الشرعية ثم من الهيئات السياسية ... كتاب رائع بكل المقاييس وقد قرأته بالعربية رغم توافر النسخة الإنجليزية لأن الاقتباسات والاستشهادات مأخوذة من نصوص عربية في الأصل مكتوبة بلغة أهل العصر مما جعلها تكملة بديعة للسرد ككل والترجمة كانت ممتازة فيما عدا أخطاء بسيطة جدا منها مثلا استخدام هام وهامة للدلالة على الأهمية والأصوب هو مهم ومهمة لكن فيما عدا ذلك فالترجمة لا تشوبها شائبة. وفي حديث لخالد فهمي قال إن دراسة التاريخ لا تتم من أجل استرجاع الماضي ولا الاتعاظ منه كما يدعي البعض وإنما دراسة الماضي هي دراسة الحاضر وهو أمر حقيقي سيلمسه القارئ بوضوح في فقرات عديدة من هذا الكتاب مثل قرار إنشاء القاهرة التي تحاكي باريس في عهد الخديوي إسماعيل وقد قسمت العاصمة لمدينين واحدة للأغنياء وواحدة بقى فيها الحال كما هو عليه فما أشبه اليوم بالبارحة ولا شك أن التاريخ سوف يعيد نفسه بدقة بل وبقدر من السخافة طالما أغفلناه وكانت آخر كلمات خالد فهمي في هذا العمل الرائع تصف المصريين "في سعيهم المستمر من أجل العيش في سلام والموت بكرامة" ... لا تعليق فقد بلغ الألم حداً تعجز معه كل الكلمات عن الوصف ... خمس نجوم بدون تردد
يتناول د. خالد فهمي في كتابه "السعي للعدالة" جانبًا مختلفًا من تاريخ مصر في القرن التاسع عشر؛ فهو لا يركز على الحكام أو السياسة، بل على القانون والعدالة والطب الشرعي. ويُظهر لنا خالد فهمي كيف كانت الدولة تسعى إلى فرض سيطرتها على الناس من خلال المحاكم والطب، وكيف لم تكن العدالة مجرّد حق يُمنح، بل كانت في كثير من الأحيان أداة للسلطة
الكتاب غني بالتفاصيل والوثائق القديمة المستقاة من سجلات المحاكم وتقارير التشريح، مما يمنح القارئ صورة حيّة عن الواقع الذي عاشه الناس آنذاك. ولم تكن العدالة دائمًا واضحة أو بسيطة، بل كانت متشابكة وتملؤها الصراعات بين الدولة والمجتمع
أسلوب فهمي أكاديمي إلى حد ما، لكنه غير مُعقّد بصورة مفرطة، وسيجد القارئ المهتم بالتاريخ أو القانون مادة معرفية ثرية ومتينة
تتمثل قوة الكتاب في اعتماده على مصادر أصيلة تعكس حقيقة تلك المرحلة، إضافة إلى تحليله العميق لكيفية تحوّل العلم ـــ وعلى رأسه الطب الشرعي ـــ إلى أداة للضبط والسيطرة، وليس فقط لتحقيق العدالة
السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة
يتناول الكتاب التحولات التي طرأت على المجتمع المصري خلال القرن التاسع عشر من خلال ثلاثية العدالة : الطب والفقه والقانون، مستشهدا بالأحداث اليومية الروتينية لأ الرواية الرسمية للدولة، واستنادا على الأرشيف والمحتوى الضخم من الوثائق القومية المحفظومة في دار الكتب يروي لنا الأساليب التي استخدمتها السلطة المركزية للتحكم في أجساد المصريين متملثة في ثلاثة قضايا كبرى شغلت القرن التاسع عشر : موقف المصريين من التشريح، والحجر الصحي، والتطعيم ضد الجدري وكيف استخدم المصريون مختلف الأساليب للتحايل على قرارات السلطة المركزية تارة، واستغلالها للسعي للعدالة تارة أخرى.
في خمسة فصول يتناول خالد فهمي في كتابه المنشور بالإنجليزية وترجمه حسام فخر مراحل تأسيس الخدمات الطبية في مصر على يد كلوت بك في مدرسة الطب بأبو زعبل، وغاية محمد علي من تأسيس المدرسة لخدمة قواته العسكرية وتوسعاته، ويرفض اعتبار الطب المصري إمبريالي كالطب الهندي الذي استخدمه الإنجليز لحماية الجالية البريطانية، ولم يسمحوا لأبناء البلد بالالتحاق في حين أصر كلوت بك على اختيار أبناء المصريين، ولم ينظر لهم على كونهم جسدا مريضا، وبدأ الدراسة في مدرسة أبو زعبل باللغة العربية، وقبل كل ذلك كان كلوت بك دبلوماسي فرنسي وليس سفيرا للحكومة الفرنسية.
يدافع خالد فهمي من خلال الأرشيف المصري عن موقف الشعب المصري والموقف الرسمي لرجال الدين من التشريح، ويدحض اتهامات كلوت بك الذي زعم وجود مقاومة لتشريح الجثث على أساس فقهي، ويدفع بوثائق مكتوبة تبين طلب مواطنين تشريح جثث أبناءهم سعيا للعدالة، ويدفع بأن رفض مقاومة التشريح جاءت اشمئزازا واحتراما لحرمة الموت والتقاليد لكنها لم تمنعهم من المطالبة بالتشريح سعيا للعدالة، ويقدم خالد فهمي نقدا للنظرة الأوروبية المتعالية التي ترى الموقف صراعا تنويريا مع المعتقدات الإسلامية، بين التراث والحداثة، بين العلم والدين، ويدفع بأنها إسقاطا على عداء أوروبي حداثي مع سيطرة الكنسية والتي تهدف لفرض أسس حداثة غربية ذات ماض أليم على مجتمعات أخرى دون اعتبار للثقافات المحلية وماضيها وتراثها ومؤسساتها، ويرفض النظر للجانب العسكري في الممارسة الطبية ذاتها، فقصر العيني كان مؤسسة عسكرية أسسها محمد علي لخدمة جيوشه، وارتبطت دائما عن المصريين بالقوة الغاشمة، وهو ما يبرر وجود مقاومة مسبقة. أما عن رفض الحجر الصحي ورفض البعض للتطعيم الإجباري ضد الجدري فيمكن فهمه من خلال نفس السياق، ويمكن تفسيره بالجهل، بالدين، فما روي عن رسول الله "إذا بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها" وهو نفس الجهل الذي شهده العالم مع وباء كوفيد حيث رفض ملايين من مختلف الجنسيات والأديان والثقافات إجراءات الحجر الصحي والتطعيم الإجباري ولأسباب متعددة! ولم يتهم أحد تراث وفقه هؤلاء بشيء! وكما نرى فإن طلاب الجيل الأول لمدرسة الطب المصرية تلقوا تعليما دينيا في الكتاتيب!
ثم يتناول تطور النظام القضائي في القرن التاسع عشر، وينتقد المركزية الأوروبية في سرد تاريخ القانون المصري كأنه عملية انتصار للعلمانية على الشريعة، ويتناول بشكل كبير من الإسهاب الفروق الجوهرية بين المحاكم الشرعية ومجالس السياسة، وويرى أن عملية التطور القضائي كانت عبارة عن تحول مستمر وإضفاء طابع بيروقراطي واهتمام بالكلمة المكتوبة لمجالس السياسة، عن الكلمة المسموعة للمحاكم الشرعية وليس عملية علمنة أو تحول من الشريعة للقانون الوضعي الغربي، ويبرهن على ذلك من خلال تتبع وتحليل الطريقة التي نظر بها كل من الفقه والسياسة جرائم القتل لنرى الاختلاف بين محاكم الشريعة ومجالس السياسة، فالقانون المعمول بيه وقتها كان القانون الهمايوني "السلطاني" الذي اعتبر القتل من حقوق العباد لا من حقوق الله أو المجتمع، وبالتالي كانت الدعوة واستمرارها وتنفيذها مرهونة بإرادة رافعها طبقا للسياق الاجتماعي للأسرة الأبوية الشرقية، وكانت تعتمد على البينة أي وجود شهود، أما مجالس السياسة كانت تعتمد على إثبات الإدانة بدليل مادي مكتوب، ولا تنتظر قيام أصحاب الدم برفع دعوى قضاية قبل أن تشرع في عملها في مقاومة الجريمة، وفي حالة عدم وجود شهود مثل قضية عمدة الصعيد الذي قتل شخصين في ابريل 1864 ولم يكن من صلاحيات المجلس الشرعي أن يصدر حكما، لكن تحقيقات مجلس السياسة أثبتت إدانة العمدة وصدر حكما بالنفي ضده، وتوفر سجلات ضبطية مصر دعاوي عديدة أمام مجالس السياسة، لم تنتظر أن يرفع أمامها دعاوي، حيث انتشر القواصة "المخبرين" مما أتاح اكتشاف العديد من الأنشطة المشبوهة قبل أن يتم الإبلاغ عنها.
بهذا العرض يتضح أننا أمام نظام قضائي ذا اختصاصين مزدوجين يبدأ كل من المجلسين العمل انطلاقا من الفروق الجوهرية بينهما، الفقه يعتبر القصاص من حقوق العباد، والسياسة تحاول حماية النظام العام،يقتصر توجيه الاتهام في الأولى لأولياء الدم مع اعتبار أن الوالي ولي من لا ولي له، في الثاني يرخص لرجال الضبطية توجيه الاتهام، وفي مسألة تحديد هوية المتقاضين كانت المحكام الشرعية تستدعي الشهود أمام القاضي مع وجوب تأكيد اثنان من شهود العدول عن صحة بياناته من محل إقامته ونسبه وحسبه وعمله، وهنا كانت الشهادة تعتمد على أساس السمعة والمركز والتقدير الاجتماعي في حين كانت مجالس السياسة تكتفي بالاسم فقط دون استدعاء لشهود عدول مما اتاح فرصة كبيرة لوجود شهادات زور وانتصال شخصيات أخرى، والأرشيف يحتوي على قصص كثيرة لمجرمين حاولوا الهروب بسوابقهم. النقطة الأخيرة في فوراق المجلسين وهى التحقيق، كان الاستجواب مثالا واضحا على الاختلاف بين النظامين/ فالمحاكم الشرعية تستدعي الشهود ويمثلوا أمام القاضي وتحصل على اعترافاتهم بناء على مواجهة مع المدعي وحده، وهنا كانت مهمة القاضي هى التحقق من هوية الشهود، وضمان تطبيق دقيق للإجراءات وضمان حقوق المدعي عليه، ولا يملك أي سلطة تحقيقات بينما تقع مسئولية إثبات الحقائق على أطراف القضية، بما يحمي القاضي والسلطة القضائية من ممارسة أي ضغوط عليها من أي سلطة تنفيذية، والإثبات يكون عن طريق حصر الشهادة كاملة أمام القاضي وحده، وهو ما يحمي تلك الشهادة المنطوقة دون مقطاعة من محاولات تغييرها في الوثائق المكتوبة أو التشكيك بها أو التاثير عليها. أما في المجالس السياسية كانت للضبطية حرية التحقيق والمقاطعة واختبار الشهود، واستدعائهم، بينما كان من المحظور على أطراف النزاع حضور جلسات مجالس السياس. وخاتمة الفوارق كان الحكم، فلا تعتبر المجالس الشرعية الحكم سليما إذا حصل على أساس اعتراف بالإكرا، وكانت تباين الشهادات تحول بين القاضي وإصدار الإدانة عملا بدرء الحدود بالشبهات، وكان يمكن طلب أكثر من قاضي شرعي للنظر في القضية، وكان الحكم نهائيا غير قابل لللاستئناف، في خين كانت المجالس السياسية على النقيض تقبل الأدلة الظرفية ولم تجد غضاضة في قبول الشبهات، واعتمدت على الطب الجنائي في تلك القاضيا التي كانت من المستحيل طبقا لنظام المحاكم الشرعية إثبات الدعوة كقضية زنوبة البصيرة وضرتها.
ومع ذلك كان هناك تعاون وثيق بين المجلسين في تسجيل البيانات والشهادات والعمل ويرى فهمي أن التكامل بين عقوبات المحاكم الشرعية ومجالس السياسة كان بغرض تعزيز الشرعية وترشيد وتحسين النظام التشريعي الفقهي، ولم يكن بغرض تهميشه أو تجاوزه، وكان هذا الدمج هو ما مكن محمد علي من إنشاء دولة القانون والنظام في مصر واستخدمه كأداة تعزيز مركزيته وسلطته.
يتناول فهمي في الفصل التالي سياسات تخطيط المدن؛ ودور الحسبة في الرقابة على الأسواق؛ إضافة إلى السياسة العقابية بما تشمله من قصاص وسجن وتعذيب. باتخاذه الجسد البشري كوحده للتحليل يقدم السعي للعدالة تصورا شاملا للطريقة التي تأسست بها حداثة مصرية مميزة في القرن التاسع عشر.
واحد من النصوص الكاشفة بعمق على حقيقة تجربة المصريين مع الدولة الحديثة التي أنشأها محمد علي. طريقة تشريح تفصيلية تفهم بها ما سبق في حكم المماليك وما لحق بداية من الاحتلال البريطاني أواخر القرن، وكثير من تاريخ دولة 52 لا يمكن فهمه إلا برصيد الدولة الحديثة في مصر.
والأهم، وسط كثير من القضايا الملغزة التي يتطرق إليها هو تتبعه لصوت المصريين وطريقة استجابتهم أمام هذا النموذج الجديد، ومحاولة استجلائه من داخل سجلات الدولة نفسها عن نفسها، مهمة في غاية الصعوبة خرجت بقصص وتاريخ مفاجئ ومدهش.
مستوى خدمة النص التي يصنعها خالد فهمي يمكن وصفها بأنها خالدة. كتابة في مساحة غائبة عن الخريطة المعرفية للعالم وبالانجليزي من وثائق بالعربية ثم ترجمتها لعربية تكون أفضل من الانجليزية لأنها متسقة أكثر مع لغة النصوص ولغة الناس الذي يحكي عنهم، ولغتي أنا كقارئ.
أثر العلوم الإنسانية عليّ كطبيب لم أكن أتخيله بهذا العمق، فأنا طبيب بأول حياتي المهنية، تصل تقريبًا لعامين، ومستوى استيعابي لأدوات العلاج وعلاقة بتاريخ الأجساد وتصورات المصريين عن الطب الحديث وتحقيق فائدة موضوعية بتحسين حياة المرضى قدر الإمكان.. مهنتي أخذت وستأخذ منحنى مختلف تمامًا بعد إدراكي للأبعاد الاجتماعية، بل ومعينة في فهم سلوكيات المرضى المصريين وردود أفعالهم. لابد من إدخال نصوص من نفس الطبيعة على التعليم الطبي حتى تكون الممارسة أكثر إنسانية، بمعنى أنها متصلة أكثر بنفس الإنسان وأفهامه وتصوراته عن تاريخ اقتحام هذه الأدوات لحياته لا انتصارًا لسطوة الأدوات المبتكرة الحديثة في قدرتها النافذة على إحداث الفرق.. هذا عهدي على نفسي بعد معرفتي دقائق من تاريخ المصريين مع الطب الحديث.
أستطيع أن أكتب حتى يمل الجميع، لكن الأفضل أن يطول اهتمامي بمطروحات الكتاب وأسلوبه وعقليته ومبادئه لأطول فترة من الزمان كما تعمدت أن تطول قرائتي فيه ليلازمني مدة أكثر.
بدايةً، أشكر د. خالد فهمي على هذا المجهود البحثي الضخم –الذي لا يسعني تقييمه- والأسلوب الأدبي الجميل والسلس في الكتابة التأريخية، ثم أُوجه أضعاف هذا الشكر إلى مترجم الكتاب أستاذ حسام فخر، وترجمة استثنائية، لم تجعلني أشعر ولو لمرة واحدة أن هذا الكتاب مترجم. الكتاب رائع وشديد الإفادة، لكنه يثير الحزن والاكتئاب طوال القراءة. ـ
يتناوَل الكتاب تاريخ مصر الحديثة من منظور فريد، وهو الجسد الإنساني، إذ يعتبر الجسد هو الوحدة التي تجلت فيها ممارسات الدولة ومقاومة الأهالي. وينقسم إلى خمسة فصول، كل فصل منها يتناول أحد الحواس الخمسة، ويستخدم كل حاسة لعرض خطوات محمد علي ودولته لفرض سلطاته على مصر، وتأسيس الدولة المصرية بشكلها الحديث، وعلاقات مصر بالغرب والعلم والسياسة والفقه والدين، وردود أفعال المصريين على كل موضوع.
أقتبس من الكتاب:ـ ـ "بتقديم سرد مفصل لكيفية ومسار تطور مجالي الطب والقانون في القرن التاسع عشر، يدرس السعي للعدالة العناصر المحددة التي تضمنها بناء الدولة الحديثة، وكيف فهم المصريون تلك العناصر وكيف تعاملوا معها جسديًا. ويرى هذا الكتاب أن الدولة المصرية الحديثة أُنشثت من خلال وضع أساليب وتقنيات مكنتها من الرقابة على أجساد رعاياها والتحكم فيها. وتضمنت تلك الأساليب حملات التطعيم ضد الجدري، وتسجيل المواليد، والكشف على الأموات، والحجر الصحي، والتعذيب، والتشريح. وهكذا وجد المصريون أجسادهم وقد أصبحت حرفيًا موضوعًا لرقابة ومتابعة وتحكم لم يسبق لها مثيل، من المهد إلى اللحد، وربما إلى ما بعده أيضا. ويرسم هذا الكتاب صورة لطريقة إدخال هذه الممارسات المبتكرة وكيفية صقلها وتكييفها عبر العصور. وينظر أيضًا في الطريقة التي فهم بها الأهالي هذا التحكم غير المسبوق في أجسادهم، وكيف تعاملوا مع هذا التحكم أو قاوموه." ـ
******
ظننت قبل أن أبدأ الكتاب أنه يتناول بشكل أساسي تأسيس مدرسة الطب في مصر الحديثة وتاريخها، لكن بعد القراءة وجدت أن الفصل الأول فقط هو الذي يتناول تاريخ تأسيس مدرسة الطب في عهد محمد علي وإدخال التشريح إلى المدرسة (مستخدمًا حاسة البصر) وردود الأفعال تجاه التشريح، والطبيب "كلوت بك" الذي اختاره محمد علي ليساعده على تخفيف خسائره العسكرية الفادحة بسبب انعدام الخدمات الطبية في الجيش. كما يتناول تأسيس المستشفيات الحكومية وكيف كرهها المصريون ولماذا تجنبوا العلاج بها، ودخول التطعيمات إلى مصر، والكرنتينا أو الحجر الصحي ومحاولات الشعب التحايل أو الهروب من فروض الحجر الصحي والتطعيمات. فصل حزين ودسم وشيق يسرد تاريخ لم ينته إلى اليوم.
أقتبس منه:ـ
ـ "ومنذ وقت مبكر يرجع إلى عام 1848 كان يتم تدبيج شكاوى منتظمة بشأن الرائحة النتنة التي تفوح في غرف المرضى، وهي الرائحة التي اشتهرت بين المرضى باسم «عفونة الإسبتاليات» أو «رائحة المرستان». وبعد تسع سنوات كان تدبيج التقارير عن القذارة والرائحة النتنة في المستشفى والملاءات القذرة التي لا يتم تغييرها بعد كل مريض ما زال مستمرا" ـ
ـ "...فالحالة هذه صدر الأمر إلى ناظر إسبتالية المُلكية بأن من الآن وصاعد لا يقبل أحدا من المرضى ما لم يكن معه تذكرة إما من ضابط المحروسة [أي رئيس ضبطية مصر الذي كان بمثابة مدير مديرية أمن القاهرة] وإما من شيخ الثمن." ويتساءل كلوت بك، رئيس شورى الأطبا، في هذه الرسالة إلى رؤسائه في ديوان الجهادية عن الصعوبات التي قد يواجهها المرضى لتنفيذ هذا الأمر: ماذا يفعلون عندما يحتاجون لدخول المستشفى على وجه السرعة، ولكنهم لا يعثرون على ضابط المحروسة أو شيخ الثُمن لكي يأخذوا منه التذكرة اللازمة؟ وعندما تلقى جوابا يفيد بالمزيد من الإجراءات البيروقراطية، كتب كلوت بك خطابا شديد اللهجة يشتكي فيه من هذه التعقيدات: "بهذه الكيفية المريض يمكنه أن يهلك بسبب مرضه وفي هذه الحالة تذكرة دخول الإسبتالية يكون استعواضهم بتذكرة دخول المقبرة". ـ
ــ "وحقيقة الأمر أن محمد علي في السنوات الخمس عشرة الأولى من حكمه الطويل لم يبدِ أي اهتمام حقيقي بحالة شعب مصر أو بزيادة إنتاجيته أو بتحسين ظروف معيشته. بل إنه تصرف خلال تلك السنوات الأولى من حكمه كما يرد تحديدًا في تعريف "فوكو" لدور الحاكم، وهو أن يجعل مصير مملكته مرتبطًا به. عندما تولى محمد علي حكم مصر كان أول قراراته هو استدعاء أبنائه وغيرهم من أقاربه من "قولة" والأماكن المجاورة لها إلى مصر. وعيَّن أبناءه وابناء إخوته وأبناء عمومته وغيرهم من الأقارب حكامًا لمقاطعات هامة في مصر. وبعد ذلك بدأ في حملة لا تعرف رحمة ولا هوادة لاستئصال أي معارضة لسلطته، ولوأد أي مراكز قوى في مصر. ومن أشهر تلك الأعمال وأكثرها قسوة مذبحة المماليك في مارس 1811 عندما دعا محمد علي كبار المماليك إلى القلعة وأمر جنوده بإطلاق النار عليهم. في ذلك اليوم لقيَّ أكثر من أربعمائة مملوك مصرعهم وان��هى وجود المماليك في مصر إلى الأبد. وإذ أصبحت مصر ملكًا خالصًا له، أمر الباشا رجاله باستلاب كل مليم من أيدي أهل مصر." ــ
******
يتناول الفصل الثاني حاسة السمع عن طريق تتبع القانون والمحاكم الشرعية ومجالس السياسة، وأهمية الشهود والكلمة المنطوقة، وانتقال النظام القضائي إلى الاعتماد على الكلمة المكتوبة. شعرت أن هذا الفصل ممل بالنسبة لي خاصة في أجزائه الأولى، ربما لعدم اهتمامي أو فهمي للتفاصيل القانونية، أو ربما لعدم إلمامي بالسردية السائدة بأن الدولة الحديثة تحولت من القانون الشرعي إلى العلماني تحت ضغط غربي، والتي كان الفصل يحاول أن ينقدها. ��كن بالتقدم في الكتاب تأتي أهمية هذا الفصل.ـ
أقتبس منه:ـ
ـ "كانت سمعة أي فرد تتأسس على الذاكرة الحية لمجتمع محلي ما وحكاياته الشفوية، وعادةً كان لتلك السمعة أثر حاسم في الحكم الذي يصدره القاضي الشرعي. كلمةfame ذيوع الصيت باللغة الإنجليزية ذات مفهوم شفهي أساسا، وجذرها اللاتيني fama يعني الحديث أو الكلام. وفي اللغة العربية نجد نفس الصلة بين الكلام الشفهي والسمعة: فكلمتا «السمعة» , «السمع» تنبعان من نفس المصدر. وكما أوضح پيترز فقد كانت تلك الأحاديث والأقوال الشفهية ذات أثر عميق على سمعة أي شخص؛ وبالتالي كان لها آثرها الضمني على الحكم ببراءته أو إدانته: "كان للمجتمعات المحلية سلطة بعيدة الأثر على أفرادها من خلال تلك الأحاديث والأقوال الشفهية. فشهادتها أو توصيفها لشخصية فرد أو سمعته، مثل وصفه بأنه اعتاد الخروج على القانون، كانت العنصر الأساسي في إصدار حكم بالإعدام أو حكم بمجرد نفيه خارج حيه أو قريته". ومن الثابت أن بعض الناس كانوا يتواصلون أو يتحدثون مع القاضي في بعض الأحيان ليسردوا عليه حكايتهم الشخصية للأحداث، وكانوا في قيامهم بهذا يمحون من سجل المحكمة المكتوب أي إشارة إلى جريمة سابقة، أو أي شك يجمع عليه أفراد مجتمعهم المحلي من شأنه أن يلطخ سمعتهم. وظل للطبيعة الشفهية المنطوقة دورها الأساسي في إثبات حسن السمعة من عدمه." ـ
******
يعود الفصل الثالث إلى الصحة العامة مع حاسة الشم، ويبدأ بقصة حقيقية حزينة من عام 1878 من ملفات دار الوثائق بأسلوب قصصي جذاب، ليتناوَل تاريخ التخطيط الحضري للقاهرة الحديثة، ومعاناة المدينة من انتشار الأمراض والأوبئة، وغياب والنظافة، وتفكيك للرأي القائل أن زيارة إسماعيل وعلي مبارك لباريس كانت هي الدافع إلى إعادة تنظيم وتخطيط القاهرة. ـ
أقتبس منه:ـ
ــ ويصف السيد أيمن فؤاد السيد انشطار القاهرة إلى جزأين منفصلين بالكلمات التالية: "وبدلًا من إدماج مختلف مكونات المدينة في بنية واحدة، اتجه إسماعيل إلى التوسع المفرط في إنشاء الأحياء الحديثة وبناء القصور تاركًا المدينة القديمة لمصيرها بدلًا من إصلاحها وإدخال تعديلات عليها، واقتصر الأمر على لصق واجهة أوروبية على الحدود الغربية للمدينة القديمة لتوليد انطباع إيجابي لدى ضيوف القاهرة الكبار المدعوين لحضور حفلات افتتاح قناة السويس". ـ
ـــ يورد الجبرتي كلمات شاعره المفضل وصديقه الحميم حسن الحجازي الذي كتب متشكيًا وساخرًا من قذارة شوارع القاهرة ورائحتها الكريهة قائلا:ـ حارات أولاد العرب سبعًا حَوَت من الكُرَبْ بولًّا وغائطًا كذا ترب غبارٌ سوء أدب وضجةً وأهلها شبه عفاريت التُرَبْ
ــ "يبدو أن كتيبات المساعدة الذاتية والتعليم الذاتي الطبي قد ازدهرت في مصر في سبعينيات القرن التاسع عشر وما بعدها، وهذا يوضح أنه بالرغم من انزعاج المؤسسة الرسمية الشديد من جهل وفقر المصريين، فإنه لم يكن في معتقدات الشعب الدينية والثقافية ما يمكن اعتباره عقبة كأداء تعترض طريق رفع المستوى الصحي. وبعد أن حددت الدوائر الصحية العناصر الأساسية المسببة للأمراض، وبعد قيام مختلف سلطات الصحة العامة بتنفيذ إجراءات طموحة في مجال النظافة والصحة العامة، وجَّه كُتاب تلك الكتيبات (ومعظمهم من الأطباء الممارسين) انتباههم إلى الممارسات اليومية للمصريين التي رأوا أنها قابلة للتغيير. وبالتدريج، بدا أن الفقر المدقع الذي عاشت فيه الطبقات الأدنى هو المسئول الأول عن الوضع الصحي المتدني. فقد كان "جهل بعض العامة" هو سبب إلقاء القمامة وجثث الحيوانات النافقة وفضلات المراحيض في نهر النيل وفي الترع والقنوات العديدة المرتبطة به بما أدى إلى "أكبر الضرر". ـ
وفي حين ركزت أغلبية هذه الكتابات على الجهل (خاصةً جهل الفلاحين وفقراء الحضر) باعتباره السبب الأساسي للمرض، لا يسع المرء إلا أن يلاحظ فيها إيمانًا عميقًا وراسخًا بإمكانية تخلي الفقراء عن الممارسات غير الصحية وتبنيهم لممارسات أكثر صحة ونظافة. ولا نرى في أي منها طبيبًا يشكو من تشبث الفقراء بعاداتهم غير الصحية. بل على العكس من ذلك، كثيرًا ما أشار الأطباء إلى سرعة تقبّل الفقراء لطرق العلاج والوقاية التي ثبت نجاحها." ــ
******
في الفصل الرابع ندخل الأسواق المصرية مع حاسة التذوق، ونشهد نظام المراقبة وأساليب التفتيش على السوق من نظام الحسبة و"المحتسب" أو "صاحب السوق" في القرن الثاني عشر، وتطور هذا النظام مع دخول علم الكيمياء والمعامل الحديثة إلى النظام الصحة العامة، ليكون أقل قصورا وأقل عنفا. ـ
في هذا الجزء من الكتاب مثال على أساليب التفتيش على الطعام في القرن التاسع عشر. ـ
ــ حذر كلوت بك من أكل السمك غير الطازج، وصب جام غضبه على الفسيخ، فقال: كيفما كان تجهيزه فهو قوي الرائحة حاد الطعم منبه للغاية؛ فاليسير منه ينبه الشهية لكن لا يناسب من كانت أعضاء هضمه متنبهة أو فيها استعداد للتنبه. وعلى كل فمتي أريد استعمال شيء منه ينبغي الاحتراس الزائد في استعماله، ومتى كانت فيه شائبة التعفن فلا ينبغي أكله؛ لأنه حينذ يؤثر كالسم المستخرج من الحيوانات العفنة». ــ
ــ "في عام 1840، زار وليم وايلد -(والد الكاتب الشهير أوسكار وايلد) قصر العيني، وكتب أن الصيدلية كانت «في منتهى الروعة وشديدة النظافة بالمقارنة بمثيلاتها في إنجلترا، وتتوفر فيها كل الأدوية الضرورية والمطلوبة، وقد تم إعداد وتركيب الكثير من تلك الأدوية في المعمل على يد أبناء البلاد». وبعد ثلاثين عامًا كان صيت المعمل الكيماوي بقصر العيني قد ذاع إلى حد ذكره بالاسم في كتاب بايديكر مصر: دليل المسافرين: «تمتلك القاهرة أيضًا... معملًا كيماويًّا - صيدليًا يرأسه الكيميائي الفرنسي جاستينيل، وتوجد به مجموعة صيدلانية ممتازة. يقوم المعمل بتركيب الأدوية التي تحتاجها كل مستشفيات البلاد وبكميات كبيرة. كما يتم اختبار كل منتجات معامل الملح الصخري الاثني عشر (حوالي ألف طن سنويًا) في ذك المعمل أيضا." ــ
******
يتناول آخر فصول الكتاب حاسة اللمس واستخدام التعذيب في عهد محمد علي بشكل رسمي للعقاب ثم تبديله بالسجن.
أقتبس منه:ـ ــ "لم يحاول الجبرتي في كتابه إخفاء ازدرائه لمحمد علي وللديوان الذي عكف على إنشائه في مصر. في المقام الأول، يسود كتاب الجبرتي إحساس بالرثاء لعالم يتلاشى. في ذلك العالم، كانت قيم الفروسية والشرف والخير تحد من غلواء العنف الذي مارسه المماليك ضد الفلاحين بين حين وآخر. لكن ذلك العالم قد اختفى، وشعر الجبرتي بالفزع من العنف الجامح الذي تعرض له الفقراء باسم هذا النظام الجديد واحتياجاته العسكرية النهمة التي لا تعرف حدودا، ودون أن تكبحه ضوابط النظام القديم." ــ
ــ "مارس محمد علي خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من حكمه ما أسماه فوكو «السلطة السيادية»، وارتكزت سياسته العقابية على التنفيذ العلني الرهيب للعقوبات. كما رأينا في الفصل الرابع، منح محمد علي محتسب القاهرة مطلق الحرية في فرض عقوبات بدنية قاسية على مرتكبي مخالفات السوق. عوقِب مزورو العملات بالشنق على بوابات المدينة وبتدبيس قطع نقدية معدنية في أنوفهم، وعوقب الجزارون الذين يُضبطون متلاعبين بموازين اللحم بشق أنوفهم وتعليق قطع من اللحم من جروحهم. أما باعة الكنافة ممن يُضبطون متلاعبين بالموازين والأسعار فعوقبوا بإقعادهم على صوانيهم الساخنة فوق النار. وكان اللصوص يُجرّسون في الأسواق، وتكبل أيديهم ورءوسهم بالأغلال. وحتى منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، كان مرتكبو جرائم القتل يُعاقبون بالشنق وتُترك جثثهم معلقة لمدة ثلاثة أيام في (محل ممر السايرين جزاء للقاتل وعبرة لخلافه). بعد فرض التجنيد الإجباري في صعيد مصر، أصبح من المعروف أن بعض النساء كن يساعدن أزواجهن وأبناءهن على تشويه أنفسهم للتهرب من التجنيد، أمر محمد علي بشنق هاتيك النسوة في مداخل القرى «عبرة للأخريات». علاوة على ذلك عندما اندلعت ثورة عارمة على سلطة محمد علي في الصعيد عام 1824، أمر الباشا بشنق كبار السن والمعاقين الذين شاركوا فيها على مداخل قراهم؛ تذكرة للآخرين بالمصير الذي ينتظرهم إن فكروا في الانضمام إلى صفوف الثوار." ــ
******
ــ* تعليقًا على الاقتباسات أود أن أشكر د. خالد على إبقاءه على اللغة الأصلية لاقتباسات الوثائق رغم غرابتها وركاكتها ليعطينا فكرة عن شكل اللغة الكتابية الرسمية في هذه الفترة *ــ
ملاحظة أخيرة هي أن تجليد الكتاب سيء، وللأسف تفكك في أثناء قراءتي له. ـ
تقريبا أطول كتاب قرأته وقتاً ، وأغزرها علماً ، وكذا تفصيلاً وتحليلاً. استُخدم فيه مجهود جبار لجمعه وإتمامه. تحية إجلال وتقدير لمؤلفه ومترجمه.
يتحدث الكتاب عن تاريخ الدولة المصرية الحديثة في القرن التاسع عشر ، تقريباً مع بداية عصر محمد علي ، عن التطورات التي حدثت بالطب والقانون وغيره من أساليب الدولة الحديثة ، من تشريح للجسد إلى وظيفة المحتسب والتي اختفت مع الوقت ليتم تبديلها بنظم أكثر حداثة وتنظيم ، إلى رسم الخرائط وإعادة تشكيل وتوسيع المدن والطرق ، إلى الإهتمام بالصحة العامة والنظافة الشخصية وطرق التخلص من النفايات المضرة ، وكذا الرقابة على أسواق الطعام والغذاء ومعاقبة الغش بمختلف أنواعه.
مع أني لست محترفة في قراءة كتب التاريخ فلا عندي فيه تجربة ولا عندي زورق لكن هذا كتاب لا يمكن أن يمر مرور الكرام بل يجب أن نغدق عليه بالثناء الذي يستحقه فقد بذل خالد فهمي مجهوداً كبيراً في كل الموضوعات التي تعرض لها وفكرة الكتاب في حد ذاتها فكرة جديرة فعلا بالبحث والدراسة حيث يسعى الكتاب لفهم التحولات الجذرية التي طرأت على مجالي الصحة العامة والطب الجنائي في مصر إبان القرن التاسع عشر من عدة زوايا مختلفة كمحاولة للسيطرة على الجسد ومحاولة للتطوير والتغيير وعلى تفنيد الخطاب الاستعماري المتعجرف في النحي باللائمة على الإسلام والشريعة كعقبتين في طريق قبول أي فكر جديد يصدره الغرب وإن كانت أمتع الأجزاء بالنسبة لي كانت في تحليل خالد فهمي للجوانب الاجتماعية والأخلاقية للشعب المصري وكيفية تفاعله مع تغير وتغيير كل تلك المؤسسات واستخدام العنف في فرض العديد منها وتحليله العميق لأسرة محمد علي وشخوصها المختلفة وطبعاً فكرة السعي للعدالة نفسها ومدى النجاح في تحقيقها ثم دراسة النوايا الخفية التي لم تكن تأخذ الجانب الإنساني في الحسبان في أحيان كثيرة بل كانت كلها محاولات الباشا للحفاظ على جيشه ودعمه بكل الطرق الممكنة لتحقيق أهدافه هو الشخصية وطموحاته الجامحة والأدلة الموثقة التي يسوقها خالد فهمي مثيرة جدا للاهتمام لا سيما فيما يرويه عن القضايا الجنائية وكيفية التعامل معها من المحاكم الشرعية ثم من الهيئات السياسية ... كتاب رائع بكل المقاييس وقد قرأته بالعربية رغم توافر النسخة الإنجليزية لأن الاقتباسات والاستشهادات مأخوذة من نصوص عربية في الأصل مكتوبة بلغة أهل العصر مما جعلها تكملة بديعة للسرد ككل والترجمة كانت ممتازة فيما عدا أخطاء بسيطة جدا منها مثلا استخدام هام وهامة للدلالة على الأهمية والأصوب هو مهم ومهمة لكن فيما عدا ذلك فالترجمة لا تشوبها شائبة. وفي حديث لخالد فهمي قال إن دراسة التاريخ لا تتم من أجل استرجاع الماضي ولا الاتعاظ منه كما يدعي البعض وإنما دراسة الماضي هي دراسة الحاضر وهو أمر حقيقي سيلمسه القارئ بوضوح في فقرات عديدة من هذا الكتاب مثل قرار إنشاء القاهرة التي تحاكي باريس في عهد الخديوي إسماعيل وقد قسمت العاصمة لمدينين واحدة للأغنياء وواحدة بقى فيها الحال كما هو عليه فما أشبه اليوم بالبارحة ولا شك أن التاريخ سوف يعيد نفسه بدقة بل وبقدر من السخافة طالما أغفلناه وكانت آخر كلمات خالد فهمي في هذا العمل الرائع تصف المصريين "في سعيهم المستمر من أجل العيش في سلام والموت بكرامة" ... لا تعليق فقد بلغ الألم حداً تعجز معه كل الكلمات عن الوصف ... خمس نجوم بدون تردد
يستمر دكتور خالد في تدمير كثير من المعتقدات الراسخة عن تاريخ محمد علي و التصور السخيف عن خنوع الشعب المصري عبر الأزمان. حبيت الكتاب جدا و خصوصا الجزء الخاص بنشأة القصر العيني لأني شوفت جانب مثير من تاريخ المهن الصحية الي بنتمي لواحدة منهم و حبيت تحدي الرؤية السائدة الي روجها الاجانب ان المصريين اعترضوا علي الطب الحديث بسبب التفكير القدري في الإسلام. اعجبت بنظرة د. خالد لتطوير القاهرة لأني متذكر من دراستي الابتدائية و الاعدادية موضوع تأثر إسماعيل بباريس جدا و لكن كان عجيب جدا رؤية تطوير القاهرة من روائحها و ليس تغير شكلها. حبيت اوي المراسلات و تقارير الجرائم الي يستخدمه دكتور خالد لإثبات دور الطب الجنائى و تطور القانون في مصر و حسيت اني عشت جزء مثير جدا من حياة مصر في عصر محمد علي و ذريته.
أنا أحب كتب دكتور خالد فهمي وتقريبا قرأتها كلها، فهي تنم عن مجهود واسع ورؤية مختلفة، وكتابه كل رجال الباشا كان أحد الكتب التي غيرت تفكيري بل وتفضيلاتي في القراءة.
ولكن في سبيل إثباته لمسألة واضحة أخطأ ولجأ لنص، عايشته بنفسي وقرأته بدلا من المرة مرات، فتعسف في تأويله وتفسيره مما حدا بي للشك في كامل رؤيته وكامل تفسيره وتأويله للنصوص!
أراد الدكتور أن يثبت أن العنف كان هو جوهر (الحسبة) قبل العصر الحديث فلجأ إلى ثلاثة نصوص منهم نص (أحكام السوق) وهو برأيي غير ذي صلة وكتاب آخر للشيزري وأعتقد أنه الأنسب، ثم أخيرا لجأ لنص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام الغزالي وجعله عمدته في التدليل على أن جوهر الحسبة هو العنف، والذي في رأيه كان يحمل تصريحا مباشرا وفتوى لا تحتمل الشك في إباحة استخدام العنف في الحسبة لعوام المسلمين دون إذن الإمام، بل وصل به الأمر بأنه اتهم الغزالي بشكل صريح أنه نصا " أجاز للمسلمين تشكيل جماعات مسلحة تطوف بالأسواق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون إذن الإمام"
وأنا هنا مستعد للقبول بأي شئ إذا نجح إنسان واحد على وجه الأرض في الإتيان بنص أو حتى تأويل لنص من كتب الغزالي يجيز فيه ما افترى به عليه الدكتور.
أتناول هذه الواقعة خصوصا لأن الدكتور في أحد ردوده على الفيس بوك كان قد وافق على كلام أحدهم بأن فتوى الغزالي هذه كانت سببا في ظهور الجماعات الإرهابية ومنها داعش!!!
وهذا أمر ينم إما عن عدم فهم أو تعسف مقصود في لي ذراع النصوص حتى توافق رؤيته.
المشكلة في أن الدكتور اقتطع كلاما للغزالي سيفهم منه القارئ حتما أن كلام الدكتور صحيح، فالنصوص التي اقتبسها الدكتور بالفعل تبيح استخدام العنف من آحاد المسلمين دون اللجوء لإذن السلطان، فالقارئ هنا لن يكون ملوما إذا صدق بالفعل كلام الدكتور، لأن اقتباساته المقتطعة لا شك في أنها تبيح ذلك!
ولكن كان هذا نوعا من (لا تقربوا الصلاة) دون إكمال للآيه.
فالغزالي وضع شروطا تعجيزية لإباحة استخدام العنف، وهذه الشروط جعلته يقول أن هذا مباح في (القياس) لأن حدوثه سيكون من النوادر التي يصعب حدوثها، فهنا الغزالي يتكلم عن شئ ممكن من ناحية القياس المنطقي حتى إن كان حدوثه من (نوادر الحسبة) على حد قوله.
فالدكتور قفز فجأة من درجات الأمر بالمعروف التي وضعها الغزالي وصولا إلى استخدام العنف الذي هو آخر درجاته، متجاهلا خطوات التعرف الذي يجب ألا يشمل التجسس، والتعريف لان مرتكب المنكر قد يكون جاهلا، والوعظ بالرفق واللين ربما يستجيب، ثم التهديد والوعيد بكلام لا فحش فيه، ثم إتلاف أدوات المنكر ثم، العنف، ثم الاستظهار بالأعوان في حال استظهار مرتكب المنكر بالأعوان!
فالدكتور آثر اختصار الطريق ليثبت أن (الحسبة) مقرونة بالعنف وليس هدفها (ديني أو أخلاقي) ولكنها مجرد أداة سياسية.
بعيدا عن أنه يخلط ما بين (الحسبة) باعتبارها وظيفة تابعة للدولة وما بين (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) با عتباره واجب على كل مسلم، فإنه يتعسف في تأويل النصوص ويتفنن في اقتطاعها.
قد يقول قارئ ولكنك أنت بنفسك ذكرت بأن الغزالي أجاز لآحاد المسلمين العنف فلماذا تنتقد الدكتور.
سأقول لك أنت محق ولكن تعال ننظر للشروط التي وضعها الغزالي للجوء للعنف بالنسبة للعوام:
١- أن تفشل جميع درجات الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر السابقة (التعريف، والوعظ بالرفق، الوعظ في شدة دون فحش أو عنف) ٢- أن يكون في أمور معلومة من الدين بالضرورة ولا تتطلب اجتهاد، لأن تدخل العوام في النهي عن أمور اجتهادية قد يفسد أكثر مما يصلح.
٣- أن لا يكون بالتجسس وبالشك، بل لا بد من العلم أو غلبة الظن
٤- أن يكون قادرا، والقدرة هنا ليس المقصود بها المقدرة الجسمانية فقط، بل أن لا يؤدي نهيه أو أمره إلى إنزال ضرر به أو بآخرين من أقاربه أو إلى ارتكاب منكر أكبر من قبل المرتكب، وهذا يقودنا إلى شرط مهم وهو أن تكون قدرته مؤثرة في إنهاء المنكر، لأن لو تدخله آثار (فتنة)، يكون ارتكب منكر أكبر!
٥- قيد الغزالي شرط استخدام العنف، وبنص كلماته،( ما لم تثر فتنة،) فإذا علم أو غلب على ظنه بأن الأمر سيؤول لفتنة، فإن استخدامه للعنف للنهي عن المنكر يكون منكرا أكبر، والدكتور هنا اتهم الغزالي صراحة أنه لم يحسب حساب قيام فتنة متجاهلا تماما تصريح الغزالي بقوله (ما لم تثر فتنة) وهي الكلمات التي سبقت الدرجة الآخيرة بسطور قليلة!
٦- الدرجة الأخيرة وهي الاستظهار بالأعوان في استخدام العنف، والتي فسرها الدكتور بإجازة تشكيل جماعات مسلحة دون إذن الإمام، وهي الدرجة التي شرطها الغزالي بتحقيق كل ما سبق، مع العلم أنه حتى في هذه الحالة لم يذكر الغزالي من قريب أو من بعيد تشكيل جماعات مسلحة، ولكنه ذكر نصا أنه في حال المرور بكل الدرجات السابقة والالتزام بكل الشروط فإن استخدام العنف قد يتداعى إلى الاستظهار بالأعوان، بمعنى أن الأمر عرضي، أو تقدر تقول كدة بالعامية، إنك شفت مثلا خناقة في الشارع وواحد بيضرب التاني ظلما فتدخلت وعرفت ووعظت وهددت وأخيرا استخدمت العنف، فوجدت هذا الرجل يستعين بأعوان له فاستعنت بأعوانك.
لذلك وصفه الغزالي بنوادر الحسبة التي لا تكاد تحدث، وبالتالي هي قضية عقلية منطقية يقتضيها القياس وإن كان حدوثها في الواقع قد يكون مستحيلا، وبالتالي هي أصلا ليست من جوهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليست دعوة لإقامة تشكيلات مسلحة نظامية كما وصف الدكتور، ولنفرض جدلا أن الغزالي قد أجاز (العنف) دون أن يتشدد في تقييده بشروط تجعله من النوادر، فلا يصح من الدكتور أن يقفز سبع أو ثماني درجات وضعها الغزالي ورتبها تصاعديا، ولا تشتمل العنف، ليأتي إلى آخر الدرجات ليصم كامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن جوهره العنف!!
وما جعل الدكتور يخطأ هذا الخطأ في ظني هو الخلط ما بين (الحسبة) كوظيفة ترتبها الدولة وغالبا ما تقترن بالعنف وهي حقيقة أقرها معه ، وما بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كواجب على كل مسلم، فمن الممكن مثلا اعتبار الحسبة فرع من الأمر بالمعروف ولكن ليست هي الأمر بالمعروف، واستعانته بنص الغزالي بالرغم من تعسفه في تأويله فهو ليس ذي صلة بمحاولة إثباته لمسألة أن الحسبة باعتبارها وظيفة للدولة مقرونة بالعنف.
والغزالي أباح العنف لآحاد المسلمين المقيد بشروط تعجيزيه تجعله من النوادر، لأنه لم يجد ما يجعل مسألة الأمر بالمعروف مسؤولية هيئة أو جماعة توظفها الدولة ، ولكنها مسؤولية عامة ملزمة لجميع المسلمين، وهذا حكم عام لم يجد الغزالي مسوغا لتخصيصه إلا بالشروط السالفة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عنده ليست وظيفة سياسية بل واجب ديني هدفه الإصلاح لا هدفه إرساء الأمن والنظام سياسيا، لأنه ما شأن عوام المسلمين بسياسة الدولة والأمن!، بل رأي الغزالي أن المنطلقات يجب أن تكون دينية أخلاقية، بل ولجأ إلى شروط نفسية غاية في اللطف لو طبقت لصار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألطف ما وجد على الأرض في التناصح بين الناس، فهو مثلا يطلب من الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يبحث في نفسه قبل إقدامه، لأن ممارسة هذه الفريضة قد يساء استخدامها فيستخدمها البعض بداعي إظهار (السلطة والجاه) لا بقصد الإخلاص، وهو أمر نراه اليوم من كل ما يدعون ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهم يفعلونه من منطلق أنهم مميزون وأنهم الأفضل وأنهم أصحاب الجنة، وهي أمور نهى عنها الغزالي ورأى أن من يفعل ذلك هو مرتكب المنكر وجريمته أكبر من المنكر الظاهر!
فإباحته هذه يمكن أن تفهم بأنها قضية منطقية قياسية تستدعيها مقدماتها المشروطة، وليس دعوة أو إجازة إلى تشكيل جماعات مسلحة تطوف على الأسواق، وهو ما لم يذكره الغزالي مطلقا، ولم يأت من قريب ولا من بعيد على ذكر تشكيل جماعات تطوف على الأسوق، فهو أصلا قد أجاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجميع درجاته لآحاد المسلمين هربا من تخصيصه بجماعة أو تشكيل أو بعده وظيفة ترتبها الدولة، فكيف يعود بعدها لييجيز تخصيصه بجماعة أو جماعات مسلحة، وقد يقول البعض أنه خصصه بجماعات وليس جماعة، وهذا أيضا غير صحيح لأن وجود جماعات يقتضي حتما وجود فتنة، وهو قد نص على أن لا يترتب فتنة على العنف، هذا أصلا إن كان قد دعى لتشكيل جماعات!، بل أن نص حرفيا أن الاستظهار بالأعوان قد يستدعيه استخدام العنف كآخر درجات الحسبة بشكل عرضي غير مدبر
أ أنا لست ضد رأي الدكتور في قوله بأن (الحسبة) باعتبارها وظيفة من وظائف (السياسة الشرعية) كثيرا ما كانت مقرونة بالعنف المجرد من أي دوافع دينية أو أخلاقية، فهذا أمر يقره التاريخ.
ولكني ضد تعسفه في تفسير نص لا يقبل هذا التعسف غير المبرر والذي لم يكن في حاجة له أصلا!!، وفي خلطه أيضا ما بين الحسبة والأمر بالمعروف والنهي ع�� المنكر في العموم، وضد إنكاره للدوافع الأخلاقية للأمر بالمعروف (المقيد بشروطه) في شكلها العام الواجب على كل مسلم فقط ليثبت أن الحسبة كانت مقرونة بالعنف، وكما قلنا سابقا اقتران الحسبة بالعنف لا يستدعي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عنف خالص!
كما أن أطروحة الدكتور في هذا الكتاب لا أراها متماسكة، بل يشوبها كثير من الغموض، فهو يدفع بأن تطورات مصر الحديثة القانونية تمت في إطار الدولة العثمانية والشريعة وأنها مواصلة لتقليد داخلي يربط بين السياسة الشرعية والشريعة وليست نتيجة لتحديث أو علمنة أوروبية، بل تمت وفقا لمقتضيات وتطورات داخلية!
وهنا لا أعلم سبب تمييزه ما بين (السياسة الشرعية) وما بين الشريعة في ما قبل الدولة الحديثة، فالسياسة الشرعية كانت جزءأ من الشريعة ولها أحكامها الفقهيه وليست رؤية منبتة فاصلة ما بين هو ديني وعلماني، فالشريعة لم تكن تعرف هذه الثنائيات بل كانت باعتبارها رؤية للعالم تطوي كل مستجد تحت جناحها، وبالتالي نجد هذا الكم الهائل من المدونات الفقهية في جميع الفروع، والتي يعتبرها البعض آفة في تاريخ المسلمين، ولكن عند مقارنتها بالمدونات القانونية الحديثة لوجدناها أقل كما!، بمعنى أن النظر لها كمدونات قانونية بموجب الرؤية الدينية الكونية، لن نتعجب من حجمها وكمها!
كما أن القول بأن كل المستجدات الحديثة جاءت لتكمل الشريعة وتعاونها على أداء مهماتها لا يبدو لي صحيحا، وءلك لأن المستجدات الحديثة جاءت في كنف رؤية كونية جديدة بعيدة كل البعد عن الرؤية الكونية الدينية، ولذلك ختى إذا اتفقا أو كملا بعضهما في أشياء معينة، فسيظلان نقيضان بحكم اختلاف الرؤية.
وكل ما أتى به الدكتور كأمثلة على أن المستجدات كانت تتم في إطار عثماني لا أوروبي ليست مقنعة، لأنه قد أزاح المشكلة ولم يحلها، وكان عليه أن يقنعنا أن مستجدات الدولة العثمانية نفسها لم تكن مفروضة من خارج!
أما القول بأن المستجدات لم تعارض الشريعة، فقد قلت سابقا أنه ليس لزاما أن يكون تعارضها في التفاصيل والممارسات، ولكن في النظرية والمنهج والدوافع والمنطلقات فهما على طرفي نقيض، وأما استعانته بنصوص مقدمات الكتب المترجمة في عصر محمد علي وما بعده باعتبارها دليل على أن الرؤية المستحدثة قد تم استيعابها في مفهوم الشريعة، فهي ليست دليلا إلا على بدء علمنة الشريعة نفسها من الداخل لتوافق المستجدات وليس العكس!
وفي النهاية أود الإشارة لكتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) لمايكل كوك والصادر عن الشبكة العربية، والذي ذكره الدكتور في محل نقده للرؤى الرومانسية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإشارتي هذه بسبب اعتقادي أنه كتاب جامع سيغير رؤيتك تماما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
في الفترة الأخيرة، تم إنتاج عدد من السرديات عن مصر القرن التاسع عشر؛ تحاول من جديد قراءة هذا القرن المثير في تاريخ مصر، دارت أغلب تلك السرديات في مرويات تقليدية عن التحديث ودور الدولة والعلاقة بين الشريعة والعلم أو بين الدين ممثلاً في الفقه والتقنيات التحديثية التي تم إدخالها كالقوانين والتشريح والإجراءات الصحية.. إلخ غير أن هذه المعرفة التي إنتاجها عن مصر القرن التاسع عشر، لا تزال معرفة ناقصة؛ فما زلنا عاجزين عن قراءة يوميات المصريين في ظل عمل آليات التحديث على الأرض. نحتاج بناء سردية تخبرنا عن تفاعل الناس العاديين مع الحداثة كمنتج يومي متداخل مع يومهم العادي، في "السعي للعدالة يستكمل خالد فهمي مشروعه الذي يعمل عليه منذ كتابه الأول، "كل رجال الباشا" منتصراً لأولئك القابعين أسفل الهرم، والمحرم عليه الالتصاق بالمتن الرسمي لسردية التاريخ المصري في القرن التاسع عشر؛ الناس العاديين ملاك الواقع منزوعي الخيال، بشر المحروسة الذين لا يملكون سرديتهم الخاصة التي تعبر عنهم بإزاء سلطة كانت وستظل في مجملها غاشمة قاهرة لهم. ومن من خلال الضبطية والتطعيمات والإجراءات الصحية وتخطيط المدن.. إلخ. يمكننا أن نكتشف بعض من ميكانيزمات عمل آلة الدولة وتطورها من تقنيات ساذجة إلى درجة متقدمة من الدقة والانضباطية والاحترافية. ومن ثم فإن التأريخ الذي يعمل عليه خالد فهمي هنا، إنما يدور حول الحداثة كممارسة يومية، أو كيف يمكن كتابتة تاريخ لمصر القرن التاسع عشر دون الانسياق لإغراءات وجهات نظر السلطة، أو السقوط في شرك الانبهار الدائم بما قدمه الباشا محمد، ما جعل كثير من الدراسات ترى في الباشا وجهوده انقطاعاً في خط زمني ومسيرة من الجهل سادت قبله، إلى أن جاء الرجل بهمة فتت الصخر الصوان؛ ليعود بنا إلى الأصول الحضارية في الطب والعلم والمعرفة. فحسب أحمد الشافعي وهو أزهري ذهب إلى فرنسا في بعثة لاستكمال تعليمه الطبي ثم أصبح في ١٨٤٧ أول مدير مصري لقصر العيني. كان يرى محمد علي "محي تمدن الإسلام، وبعث الطب في مصر كما تنبعث العنقاء من الرماد" هؤلاء البشر كيف تقبلوا تقنيات الدولة الحداثية التي تداخلت مع واقعهم اليومي واخترقت صيرورته لتنتج رؤية شبه مكتملة عن الرعية المثالي من وجه نظرها، هؤلاء الذين عايشوا وعاشوا في أزمنة الانتقال العنيف في القرن التاسع عشر، هل تقبلوا كل ما أنتجته الدولة الخديوية من تقنيات، هل كان ثمة مقاومة، هل مارسوا سمتهم الألفي في التعايش واللعب بأدوات السلطة لكن بمنطقهم هم الذاتي هل استطاعوا هذا؟ وكيف ؟ هذا هو سؤال الكتاب ؛ السعي للعدالة في حياتهم اليومية.
يجادل خالد فهمي في كتابه السعي للعدالة أنه من الأصح النظر للتطور القانوني والجنائي لمصر في القرن التاسع عشر ضمن الإطار العثماني العام وليس ضمن إطار صدمة الحداثة والرغبة في لحاق أوروبا.
كما يجادل أن الشعب المصري استوعب عملية التطور الحاصلة في الفترة نفسها وسعى لتحقيق العدالة لنفسه من خلال فهم منطق التغير واستغلاله لصالحه.
اعتمد المؤلف في حججه على الوثائق والمستندات الرسمية وليس على الكتب النظرية
كتاب جيد لم يرتقي لسقف توقعاتي ولكنه مهم، يعرفنا عن نمط الحياة الاجتماعية في مصر منذ تولي محمد على الحكم حتى اواخر القرن التاسع عشر، وايضا يعرف القارئ الانماط المتبعة اثناء حكم العثمانيين لمصر بصفة عامة، من مميزاته انه يتتبع خيط حياة اهل مصر وتطورات اوضاعهم مع التقدم الذي يحدث من حولهم ومدة استجابتهم لهذه التطورات، يعيب فقط على الكتاب هو الاسهاب في الامثلة الكثيرة جدا على الرغم من اثبات وجهة النظر والفكرة، لكنه كتاب كما قلت مهم وممتع
سعى المصريون في المحروسة من أجل العيش في سلام، والموت بكرامة طوال هذا الكتاب، ولم يمنعهم أي تعصب ديني من تطبيق أدوات الدولة الحديثة التي حاول أن يصنعها محمد علي. يجادل خالد فهمي بأسلوب بديع أن المصريين لم يرفضوا الطب الحديث كما ادعى كلوت بك، بل وضح أن الشيوخ القائمين على الفتوى الدينية في مصر أجازوا التشريح واستخدام الطب الحديث الجنائي لتبيين الحقيقة في القضايا الجنائية ومعالجة الناس.
واجه المصريون حملات التطعيم بضراوة بسبب خوفهم من أن تكون حيلة من الوالي لتجنيدهم غصبًا عنهم، ولكن نجحت السلطات في التطعيم ضد مرض الجدري. أدرك المصريون أهمية الأطباء الذين تخرجوا ليخدموا في جيش الوالي للحفاظ على جيشه، وحاولوا دائمًا الكشف عن مكاتب الصحة، لكنهم تجنبوا المؤسسات الصحية الكبيرة مثل "القصر العيني" بسبب الإهمال هناك، وانتشار العفانة والأخطاء الطبية.
جادل الكاتب أيضًا أن المحاكم الشرعية لم تُستبدل بالقوانين المدنية الفرنسية فجأة أو بالقوة، ويوضح أن النظام المختلط للمحاكم بدأ قبل محمد علي، بدايةً بقوانين المحاكم العثمانية، وأن النظامين خدموا المصريين في تناغم تام. كان الفرق بينهما هو اعتماد المحاكم الشرعية على الدليل الشفهي، بينما اعتمد النظام الآخر على الدليل المكتوب الإجرائي وحق الحكومة في توجيه الاتهام.
هذا يأخذنا إلى جانب آخر ناقشه الكتاب، وهو متى تم الاستغناء عن المحتسب والعقوبات البدنية. وعلى العكس مما يُتداول، تم الاستغناء عن المحتسب بسبب تطور علم الكيمياء ودراسته في مصر، وكيفية تطبيقه للحفاظ على سلامة الأغذية التي يبيعها التجار. تعمد الكاتب توضيح أن المحتسب كان يمارس عمله من خلال العنف وأدوات الدولة، بعكس ما يتم الترويج له أنه كان سلطة أخلاقية يستمد مشروعيته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تم التخلي عن العنف بسبب عدم فاعليته في أخذ الاعترافات، وعدم توحيد درجة الألم، بعد ثورات عديدة من المصريين والعبيد أيضًا ضد العنف المبالغ فيه الذي مُورس ضدهم في بعض الأحيان. ساعدتهم الدولة في الحصول على حقوقهم واستبدال العقوبات البدنية بالسجن، وشُرعت قوانين لاستبدالها، وكان ذلك قبل عهد اللورد كرومر والاحتلال الإنجليزي لمصر.
يوضح الكتاب أيضًا كيف جاءت فكرة تحديث القاهرة وكيف تطورت نتيجة الصراع الطبقي بين طبقة شركسية ناطقة بالتركية وعموم المصريين. كان الدافع وراء التحديث هو الصحة العامة ومحاولة توفير هواء نقي ونظيف والقضاء على رائحة المجاري المنتشرة، ولم يكن الدافع محاولة التشبه بباريس رغم قوة هذه القصة. حدث خلاف حول أهمية المهندس والطبيب في التخطيط العمراني للقاهرة، مما أدى إلى فصل القاهرة إلى قسمين مختلفين ��مامًا في الشكل والهوية والاهتمام بالنظافة، وهو ما يمكن رؤيته حتى الآن.
هذا واحد من أجمل الكتب التي توضح كفاح الناس البسطاء للمطالبة بحقوقهم وكيفية تكيفهم الذكي مع ما يُطبق عليهم.
استكمالا لمشروعه العظيم والرائع والمبدع الذي يسعي المؤلف من خلاله إعادة تقديم التاريخ بسردية مختلفة عن السردية الرسمية والقومية التي يسردها المؤرخين من وجهة نظر الحكام وكبار رجال الدولة والتي قد بدأها بكتابه ( كل رجال الباشا) والذي ذكر فيه تأريخا لمؤسسة الجيش المصري من وجهة نظر العسكري لا من وجهة نظر القادة وهنا يستكمل مشروعه بكتابه ( السعي للعدالة ) فيستكمل السردية بأن كل المؤسسات التي أنشأها محمد علي باشا كانت من أجل خدمة جيشه الذي سعي به لتثبيت دعائم حكمه وحمايته من دسائس ومكايدات الباب العالي ورجاله ممن يطمعون في حكم مصر يأتي الكتاب في صورة خمس فصول سعي في كل واحد منها إلي سرد تاريخ مؤسسة معينة عن طريق الحواس والبداية كانت حاسة البصر والحديث كان عن تشريح الجثث ومنه يجد مدخلا إلي سرد مؤسسات المدارس الطبية والمستشفيات وإجراءات الحجر الصحي والتطعيم وتفاعل المصريين مع تلك المؤسسات والإجراءات الفصل الثاني كان عن حاسة السمع والحديث كان عن مؤسسة المحاكم وتطور المحاكم الشرعية وظهور ما يسمي بمجالس السياسة التي كانت تساعد جنبا إلي جنب المحاكم الشرعية بآليات وإجراءات مختلفة عما كانت تتعامل به المحاكم الشرعية والتي كانت في حالات مثل جرائم القتل تمر بإجراءات صعبة حتي تصدر حكمها بالقصاص ومنها سماع الشهود الذين يجب أن يكون مشهودا لهم بالصلاح والبر والتقوي ويبين بالوثائق كيف تعامل المصريين مع مؤسسة مجالس السياسة في إثبات حقوقهم الفصل الثالث كان عن حاسة الشم والحديث كان عن تنظيم القاهرة الخديوية ودور علي مبارك باشا الذي لفت نظره رائحة باريس ومجاريها أكثر مما لفت نظره جمال شوارعها وعند عودته للقاهرة حاول تنظيم القاهرة علي النمط الباريسي كما طلب الخديوي ومعاناته في ذلك حتي أنه أنشأ قاهرة جديدة بجانب القديمة وأيضا يظهر في الوثائق تعامل المصريين مع إجراءات دفن الموتي وقضاء الحاجة وتنظيم بروزات البيوت والدكاكين الفصل الرابع كان عن حاسة التذوق ويظهر هنا وظيفة المحتسب ومفهومها الفقهي وكيف سُحب البساط من تحتها ليُسند دورها إلي الطب الجنائي والمعمل الكيميائي الذي اختص بتحليل الأطعمة والمشروبات المعروضة في السوق الفصل الخامس عن حاسة الإحساس ويتكلم عن مؤسسة السجون وتطور طرق العقاب فاختفت عقوبة الجلد مثلا وظهرت العقوبات المساوية للجلد متمثلة في مدة سجن المذنب المؤلف بذل مجهودا جبارا من أجل استخراج تأريخ ممتع وشيق من وثائق حكومية ورسمية ويسعي من خلال كتابه إثبات أن التاريخ ليس مجرد حدوتة شيقة وإنما هو فهم للواقع الحاضر بشكل أفضل ويبين فلسفة السلطات والحكام في التعامل مع شعوبهم وكيف سعي المصريون من خلال هذه المؤسسات - التي لم تكن تسعي لمصلحتهم في المقام الأول - أن تكون حياتهم أحسن وأن يكون سعيهم من أجل حياة عادلة
Yet another excellent translation of the archives. Fahmy is gifted in reverse-engineering stacks of bureaucratic correspondences and beautifully brings them to life with his enchanting portrayals of live anecdotes of actual name-tagged human beings. His ability to engage with historic information through the lens of deep contemporary questions never fails to amaze me. It is also interesting how he seems very concerned with the impact of modernity (in this case modernization of the medical and legal systems) solely on the non-elite Egyptians. However, as he refers to “non-elite Egyptians” he doesn’t really define this population group, in terms of actual common characteristics and traits.
This entire review has been hidden because of spoilers.
د.خالد فهمي في الكتاب هذا تعمق نهلاً من كتب تراث الفقه الإسلامي وعلى غرار كل كتاب الپاشا / الجسد والحداثة مايزال مستخدمًا لنمطه التفكيكي ذاته لدعوة ما أو مقولة ما الذي أرساه في صدر كتابه الأول ويبدو أن فوهة سبطانته فيه ذات حدين أحدهما صوب الأسلامويين في محاولة لوضع تأرخة لكيفية تخلخل النظام القضائي الفقهي إلى القانوني وكيف كان ذاك طورًا طبيعيًا فآضيته من صورة لصورة يرها فهمي أنها جئت بعدما فقد القضاء الشرعي تأثيره الذاتي وكسب القضاء السياسي ثقله في نفوس الناس لذاته.
صحيح أنه أجاد في رده على المستنيرين وأحسن في مسألة درء تعارض العقل (الطب الحداثي) والنقل (الفقه الموروث) لكنه في النهاية نوعًا ما قراءة فهمي من جنس وائل حلاق ونحوها قراءة متخمة بالرص لسطور والطره بالهوامش والملحقات لكن يبقى شعور الأعماق عند فهمي أنه منهم وأن كان قد خلفهم في بعض مذهبهم ولكن ما صدع به هو ما لا يمكن إلا لجاحد التدليس بغيره فالرجل اختلافنا معه أو العكس فهو قامة علمية في المدرسة الوضعية والكتاب فيها مجهود كبير ينوه به الحقيقة من إحصاء ونقل لمختلف الآراء التي تعضد فكرته العامة عن كيف إنسلخ القضاء الشرعي وحل القضاء السياسي نُبذة ص 16 حوار كلوت بك مع العروسي عن التشريح والهجوم عليه ص 28 رأي رءوف عباس العثماني السلبي ص29 1890 سنة تبديل لغة الطب للإنجليزية بمصر ص 31 تعريف الحقبة الخديوية عند فهمي ص 33 الطب الاستعماري ص 40 حكم الاختلاف الاستعماري ص 43 عالمنت القضاء المصري وإقصاء الشريعة ص48 الدولة المستحيلة لوائل حلاق الأخلاق والقانون ص 54 عبد القادر عودة والشريعة & طارق البشري ص 60 نقد البشري للقانون نقد تأصيل & محمود السقا القانون الفرنسي امتدادًا للقانون الفرعوني ص 68 استعمال محمد علي التقسيمة الفرنسية ص 70 محمد علي المتنور ص 75 مصر بالنسبة للحاشية العثمانية ص 76 مأساة التجنيد الإجباري & عسكرت التعليم ص 84 عسكرية قصر العيني (مرض الزهري + رتب الطقم) ص96 السلطة العثمانية والوباءات المصرية ص98 سبب الحجر الصحي الفرنسي بمصر ص 100 الطاعون ومحمد علي ص 102 موتى الطاعون ص 109 استخفاف محمد علي بالسنة ص113 فتوة مفتي الإسكندرية عن الطاعون ص115 الدفن بالبيوت ص 117 الخبز دافع التمرد على الحجز + الجدري واختلاط الدماء ص 123 دق الجدري مقاومة التطعيم لتجنيد ص125 رفض الكنيسة التشريح + تشريح جثمان الأجانب والسجناء فقط ص 128 الشيخ العروسي الجثث تتألم + التشريح في الإسلام ص 139 الرعيل الأول من الأزاهرة ورأيهم في التشريح ص 145 الطب الجنائي = الطب السياسي ص 147 القول الفصل في التشريح والإسلام ص 154 عالمنة الدولة العثمانية بين الراعي والرعية ص158 القضاء قبل احتلال أروبة مصر حسب الرواية الاستعمارية ص 162 استبداد الباشا بالسلطات الثلاث حتى عهد إسماعيل ص 171 القصاص بين الفقة والقانون ص 178 القانون الهمايوني ونفي الغجر والمتسكعين ص 193 قضية الحرمة زنوبة بين المحكمة الشرعية والسياسية ص 197 المحاكم السياسية الأخذ بالأوهام والشكوك كدليل إدانة ص 205 إشكالية القصاص في الفقة الحنفي ص 213 تدخل المحاكم السياسية في قضايا القتل حالة العفو أو الدية ص 221 عبد الملك بن مروان مؤسس ديوان المظالم ص 227 العادلة بين المحاكم الشرعية والسياسية ص 239 قاهرتان ص240 فساد القاهرة بسبب إفلاس مصر ص 259 نظرية الأوخام والعدوى ص286 الإسلام والوباء ص 296 الشيرازي ووصية العجان ص 318 هيلمان المحتسب + محتسبة المماليك ص 324 دور الحسبة كما وصفها الغزالي ص 329 إلغاء المحتسب ص 336 نظرية الأمزجة الثالث والأخلاط والأجناس الستة الضرورية لابن سينا ص 339 كلوت بك نُبذته عن الخمر ص 348 مجلس الكرنتينا لموجهة تفشي الطاعون بالإسكندرية وتسخير له 20 ألف عسكري ص 361 محورية العنف بين الحسبة و الصحة العامة ص 371 الضبطية والعنف من محمد علي (صالح أفندي) إلى سعيد (عمر بك) ص 378 عقوبات التعزير بعهد محمد علي بطش وقفس محمد علي بالرعاية الكبار والعجائز والنساء ص 380 دموية الأسرة العلوية + توقف استخدام الخازوق ص 383 التعزير على قدر المكانة ص422 الإنجليز استعماروا مصر لتخليصها من الطغيان العثمانلي (السخرة والفساد والكرباج) ص 424 تحول من الطب السياسي لطب الشرعي ص 427 بطش وقفس إبراهيم باشا بأهل الصعيد كالتتار ص 431 دخل الحكومة وخارج الحكومة ص 435 كلوت بك / فرانسيسكو جراسي الطب المستنير المتوهم ص438 التعلاب وتفريغ المصطلحات بين الفقه والقانون
كتاب السعي للعدالة مراجعة "الفصل الثالث": الأنف تروي قصة مدينة.
"في العصر الذي نتحدث عنه هيمنت على المدن رائحة نتنة لا يمكن لإنسان من عصرنا الحديث أن يتصوّر مدى كراهتها. فالشوارع كانت تنضح برائحة الغائط، وباحات المنازل الخلفية برائحة البول، وأدراج البنايات برائحة الخشب المتفسِّخ وروث الجرذان، والمطابخ برائحة الملفوف المتعفِّن وشحم الخراف، أما الغرف غير المهوّاة فقد كانت تنضح برائحة الغبار الرطب، وغرف النوم برائحة الشراشف المدهنة واللحف الرطبة المحشوة بالريش، وبالرائحة النفاذة المنبعثة من المباول.. وفي باريس بطبيعة الحال كانت الروائح على أشدها"
الاقتباس الوارد أعلاه من افتتاحية رواية "العطر" لباتريك زوسكيند؛ يسرد فيها حكاية تعود إلى "فرنسا "القرن الثامن عشر. ليس الغرض إعطاء صورة -متخيلة- عن باريس ومقارنتها بالقاهرة بالرغم من أن أندريه ريمون قد قارب بين المدينتين في كتابه فصول من التاريخ الاجتماعي، يقول أندريه ريمون: أن المدينتين كانتا لا تزالان متكافئتين حتى القرن السابق، أي السابع عشر. ولكن يمكن لقارئ تلك الرواية الرائعة أن يتلمس إلى جانب النبرة التهكمية المتفكهة، وبصياغة أدبية ماتعة، ما يدفعنا إليه "زوسكيند" ومن البداية -وحتى في الحوار المطوّل بين القس وبين المرضعة، -وإلى آخر الحكاية: دعوة بالتخلي عن الإنبهار البصري، واستخدام الأنف أو كما يسميها بـ آلة الشم البدائية، والدخول إلى "ملكوت الروائح"، بإعلاء حاسة الشم على حاسة البصر، وهو المدخل الأساسي للرواية وكذا لكتابة ذلك الفصل من تاريخ "مصر الحديثة".
"صباح يوم ربيعي في ١٨٧٨، كان طفل يلعب مع أترابه قرب ثكنات قصر النيل المطلة على النهر غربي القاهرة عندما لاحظ كلبًا يشمشم خرقة قديمة مدفونة في الأرض. عندما أدرك الأطفال أن الكلب قد نبش الأرض وأخرج منها شيئًا يثير الشبهات، هرعوا إلى شيخ حارة معروف الذي أحاره ما رأته عيناه قدر حيرة أولئك الأطفال. استدعى شيخ الحارة حكيمباشي الضبطية، ولم يقل الحكيم عنهم حيرة. أرسلت محتويات الخرقة بعدئذ إلى إسبتالية قصر العيني للكشف الطبي الجنائي عليها. وجاء تقرير الإسبتالية قائلا إن الخرقة كانت تضم رفات أنثى إما ولدت ميتة وإما كانت جنينا مجهضًا، وكان عدم اليقين ذلك راجعا إلى أن الجثة كانت في مرحلة تحلل متقدمة إلى درجة جعلت من المستحيل التأكد مما إذا كانت الوفاة قد سبقت الولادة أم كانت لاحقة لها"
وهكذا يبدأ الفصل الثالث من كتاب السعي للعدالة، بأسلوب أدبي شيّق، بحكاية "فضل واسع" التي ولدت جنينها ميّتا، ووارته الثرى، تشبه إلى حد ما حكاية المرأة التي كانت تقف في السوق، وراء طاولة السمك وسط الأوساخ والنتن، تضع أجنتها، واحدًا تلو الآخر، في نفس المكان تحت الطاولة وفي جميع الحالات كان المواليد إما أمواتًا أو نصف أموات، يُتركوا ليواجهوا مصيرهم.. أي الموت. في الرواية عند اكتشاف أمرها، سرعان ما تدخلت الشرطة، وأحيلت "المرأة" للقضاء، وسرعان ما حكم عليها بسبب تكرار جرائم القتل بحق أطفالها بالإعدام!
بالطبع لم يتطور مصير "فضل واسع" إلى هذا الحد لكن تَدَخُّل الدولة كان أساسيًّا وبإجراءات دقيقة: يمكن تتبع مرحلية عمل أجهزة الدولة، بدءًا من استدعاء شيخ الحارة، ومن ثم إلى حكيمباشي الضبطية، الذي قرر بدوره الإحالة إلى القصر العيني للكشف الطبي الجنائي.. ومن خلال التقرير الجنائي وبعد ثبوت شبهة جنائية، جرى تحقيقًا للتعرف على كيفية وقوع الحادث والكشف عن هوية الأم.. وبعد تحريات سريعة في الحارة واستجواب "فضل واسع" وانتهاءًا بالحديث مع قابلة الحي. اكتشفت ملابسات الحادث.." وخلاصة الأمر أنه تبين من التحقيق عدم ثبوت شبهة جنائية، وبالرغم من أن الضبطية قد قررت ألا توجه اتهامًا بالقتل أو القتل الخطأ.. فقد وجهت لفضل اتهامًا بخرق ثلاث لوائح تتصل بالصحة العامة: انتهاك واجب التسجيل الفوري لكل المواليد، وواجب الإبلاغ الفوري عن كل الوفيات، والحظر التام للدفن داخل حدود المدينة، وقد ثبتت التهم على فضل واسع، وأحيلت قضيتها إلى مجلس ابتدائي مصر للبت فيها.
في البداية وجب التوضيح أن كتاب السعي للعدالة مقسّم إلى خمس فصول، ويجدر بنا القول أنه لا يمكن معالجة أحد القضايا المتناولة بعيدًا عن الأخرى، فموضوع كل فصل وثيق الصلة بما يطرحه باقي الكتاب، وإجمالًا يُعَدّ كما أراه، مدخلًا مغايرًا أو جديدًا لدراسة التاريخ الاجتماعي في مصر الحديثة، ليس سردًا للاحداث -كما تعودنا- ولا التواريخ، على عدة أبعاد منها ما هو تاريخي وفلسفي، مفاهيمي وقانوني، صلة الربط بينها جميعًا هو "الجسد الإنساني"، "كوحدة تحليلية"، "وينظر في كيفية دراسته كساحة تجلت فيها ممارسة سلطة الدولة" ليس للسيطرة على ذوات المصريين وحسب بل وأجسادهم وتفاصيل حياتهم اليومية. فالدولة الحديثة التي أسسها محمد علي وفي خضم تشكيل بنيتها وهياكلها المركزية نشأت أجهزتها بالأساس حول "الجيش" الذي أراد الباشا أن يكون ركيزته لبناء تلك الدولة. وفي سياق سعيه لتكوين قوته العسكرية جرى الحاق عدة أجهزة أخرى تخدم متطلبات ضباطه وجنوده سواء تمثلت في التوجيهات المكتوبة والمطبوعة، الإعاشة والتموين والكسوة أو بعلاجهم ومداواتهم وتشكلت بمرور الوقت الأجهزة التي تنظم آلية عمل تلك المنظومة.
تشكلت الأجهزة حول الكيان الرئيسي وهو الجيش، في دراسة أخرى للدكتور خالد فهمي، (كل رجال الباشا) يتناول تطور الجيش وكيف انخرط المصريين في جيش نظامي قوامه من الفلاحين وناقش تشكل الأجهزة الأخرى للدولة، من تلك الأجهزة مطبعة بولاق، مؤسسة الطب: قصر العيني والتي نشأت من أجل تقديم الخدمات الطبية للجيش وتطور الامر ليشمل الطبقات المختلفة للمجتمع.
إيجازًا يتناول كل فصل حاسة من حواس الجسد، في إطار عام وهو الطب والقانون، وتتناول العلاقة الشائكة بين العلم والدين، في كل فصل من فصول الكتاب. أما بخصوص توقفي عند الفصل الثالث تحديدًا ليست رغبة في عزل أو اجتزاء النص من اطاره العام الذي لا يمكن رؤية وتتبع الهدف من الكتاب إلا من خلاله. بل محاولة لفهم طريقة التناول والغرض منها (ما يحاول أن يخبرنا به)، وحاجة ماسّة لمزيد من القراءة للتعرف على تلك الفترة بالرجوع لبعض المصادر التي تناولها الفصل الثالث من كتاب السعي للعدالة وفي تحديد المواضيع التي ناقشها.
يقرر د. خالد وبوضوح أن موضوع الفصل لا صلة له بحمل الصبايا، ولا بالطب الجنائي، ولا بعمل الضبطية، وإنما ينصب تركيزه على "التخطيط الحضري والصحة العامة" في القاهرة في القرن التاسع عشر، إذن ما الذي أراد أن يقوله من خلال تلك الحكاية التي صدّر بها الفصل؟
هناك عدة جوانب للقصة، يعطينا أحدها لمحة عن طبيعة عمل أجهزة الدولة، إذ لا يمكن بسهولة التغاضي عن رؤية الإجراءات المتبعة وتحركات أجهزة الدولة المختلفة وتضافرها معًا للوقوف على أسباب الحادث، وأيضًا ما نتج عنه من خروقات، للوائح المنصوص عليها وفقًا للقوانين السارية والتي تحكم المجتمع ككل. تبدأ آلية عمل الأجهزة عند شيخ الحارة، قد يكون شيخ الحارة لا يمثل للوهلة الأولى مركزًا للسلطة قياسًا بالحواضر والمدن الأوروبية وحتى قياسًا بالأجهزة الحديثة، لكنه مثّل لنظام المدينة في الدولة العثمانية وحتى أيام حكم المماليك رابطة وصل بين السلطة المركزية وبين الأهالي، أندريه ريمون، فصول من التاريخ الاجتماعي للقاهرة ص27 يذكر أندريه ريمون: أن المشايخ من مختلف الطوائف المهنية وحتى مشايخ الحارات كانوا واسطة اتصال بين السلطة والرعايا (الأهالي)، وهو نفس الدور الذي كان يلعبه شيوخ الطوائف الحرفية ص27 وكان على الحكام أن يلجأوا لهذه الطوائف ولشيوخها أو مشايخ الحارات عند حاجتهم لإنجاز بعض أعمال البناء أو النظافة أو في تبليغ أوامر الحكومة إلى أعضاء طوائفهم. أندريه ريمون فصول من التاريخ الاجتماعي للقاهرة ص15، ويضيف خالد فهمي صورة أعمق لدور شيخ الحارة تتعلق بموضوع الفصل أي الصحة العامة: "لم يقتصر دور مشايخ الحارات على صلة وصل فقط، ففي عام 1830 كان "واجبًا" على مشايخ اثمان القاهرة العشرة الإشراف على كنس شوارع أحيائهم ورشّها" السعي للعدالة ص278 وكانت جزءًا من عمل الضبطية، ومساعدة الجهاز الطبي في حصر أعداد السكان سواء تعلق الأمر بالتجنيد أو بالتطعيم ضد الأوبئة أو بتسجيل المواليد والوفيات. بقي إذن جانب آخر لحكاية فضل واسع وهو المكان التي وقعت فيه أحداثها، وإغفال الدراسات العديدة لتاريخ الحداثة قصة من يسكنون تحت الكوبري، وأوضح مثال على ذلك هو دراسة جان لوك أرنو.
ماذا يعني اكتشاف رفات طفل تحت كوبري قصر النيل؟ جرت العادة في الروايات التاريخية إلى تبني رؤية المدينة التي خرجت من عصور الظلام مع الاحتلال الفرنسي وبدأت أعمال التطوير بدءًا من محمد علي ووصولًا لقمته مع الأعمال الكبرى للخديوي إسماعيل، والرابط بين الواقعة وبين عملية التطوير هو مركزية المكان، إذ أن كوبري قصر النيل قد تم بناءه -في عصر اسماعيل- ليعبر عليه كبار الضيوف المدعوون لحضور احتفالات افتتاح قناة السويس 1869، إلى "سراي الجزيرة" على الضفة الغربية من نهر النيل.
وفي صياغة مختصرة لما يعرضه د. خالد فهمي وما يوجهه من نقد جوهري لمختلف السياقات التاريخية عن تلك الفترة: إذن ترجع الرواية التقليدية بتاريخ الحداثة إلى الحملة الفرنسية وما أحدثته من صدمه "حضارية"، وبالتغاضي عن الحملة العسكرية، وكذا كثيرًا من الإجراءات التي غيرت نوعا ما تخطيط المدينة القديمة بإزالة أبواب الحارات لأسباب استراتيجية، "كثيرًا ما يتم التركيز على المطبعة التي أتى بها نابوليون بوصفها أول مطبعة حديثة دخلت مصر، وذلك للتأكيد على أهمية الصدام والالتقاء مع أفكار الثورة الفرنسية، وتأثير ذلك على الحياة الثقافية والسياسية المصرية، (حوار مع خالد فهمي: لماذا كتابة التاريخ من أسفل - المفكرة القانونية)، وهكذا (استفاق) المصريون، الذين يغطون في سبات عميق طوال القرون العثمانية، إلى التخلي عن تهاونهم وتكاسلهم ودفعتهم إلى اللحاق (بِرَكْب) الحداثة والخروج من ظلام التخلف إلى أنوار الحرية. تقدم السردية رأيين مغايرين عن محمد علي الذي "لم يدخر جهدًا لنقل مصر إلى العالم الحديث" واحتذاء النموذج الفرنسي في كثير من سياساته، وآخر يرى أن الباشا وكذا خلفه عباس وسعيد، لم يولوا اهتمامًا بالقاهرة أو بمشاكلها، ولكن تلتئم مجددًا حركة التطوير، بوصول حفيده إسماعيل للحكم (المتهم بالبزخ والإسراف). واعتبار ما جرى للمدينة من تطور جذري في أواخر القرن التاسع عشر، مع بداية حكمه بمعاونة زميل دراسته علي مبارك وغيره من موظفيه الأجانب.
تناول مؤرخي الحداثة عن مصر القرن التاسع عشر، من ذلك المنظور، البصري، الإنشاءات التي وليت اهتمام حكام مصر، لا سيم الخديوي إسماعيل، والأثر المدمّر جراء سياساته المالية الرعناء، التي أدت إلى تشويه وجه المدينة بالاهتمام المنصب على بناء القصور والبذخ في إقامة الاحتفالات واهمال الجانب الآخر لمن يقيمون على الضفة الشرقية. لا تعني السردية بمن يقيمون في الجانب الشرقي ولكن تعني بنموذج البناء، فشرقًا ظل ذلك الجانب مهملًا يفتقر إلى النظام والعناية بالنظافة ومرتعًا للأوبئة. أما الجانب الآخر والذي جرى تطويره وفقًا لأساليب حديثة مستمدة من "الغرب" وبناء عليه، فإن السردية التقليدية انتهجت النظرة الخارجية المرتكزة على ما اعتبرته إنجازات حكام مصر في انشاء المباني العامة وتحديد كيفية الشكل النهائي لها بحيث تكون شبيهة بواجهات المباني في باريس.
إذن ماذا عن المحكومين، الأهالي؟! هناك ما يشبه السردية الممتدة عبر عقود، عن ��موم المصريين بوصفهم في أقل تقدير كارهي للتغيير فضلًا عن صفات أخرى تختلف باختلاف الحاكم ومساعي السُلطة وحتى تصورات النخبة عنها. وفي سياق ما يقدمه السعي للعدالة وتحديدًا الفصل الثالث، فإن الاشتباك مع السردية التاريخية التقليدية نابع من تعامل مؤرخو الحداثة مع حاسة الشم كما يقول د. خالد فهمي: "بنفس الاستخفاف والاستبعاد المجحف الذي نظروا به إلى من يعيشون تحت الكوبري.. وهو (ما) اعتاد (عليه) مؤرخو القاهرة الحديثة، بإعلائهم شأن حاسة البصر وإعطائها مكانة متفوقة على شم الروائح، وعلى نفي أي دور لحاسة الشم والروائح الكريهة التي اتسمت بها المدينة التي يكتبون عنها في سردياتهم العديدة". كيف وبأي طريقة بل وبأي دافع أمكن السيطرة على تلك الروائح الكريهة والمناظر المنفرة؟
وبذا كان استهلاله بتلك الحكاية، مشيرًا إلى جانب آخر، مهم، اغفلته السردية: أي السكان الغائبين للجانب الشرقي-المُتصوّر. وعلى ما جرت عليه العادة فقد فضّل أولئك المؤرخون التأمل في المناظر البديعة من شرفات المباني الفخمة المهيبة، والإشادة بالرؤية الثاقبة لمن خططوا المدينة ومن رسموا خرائطها ومن نسقوا حدائقها. واختاروا وصف المنظر المدهش لمتنزهاتها ونسيمها العليل بدلا من الحديث عن روائح المدينة وروحها. أو النظر إلى الهيئة العامة للقاهرة باعتبارها سوق استثمار عقاري تدفع عجلته رغبات الخديوي، ومثلّت فرصة سانحة للأثرياء من خاصته ومن الأجانب وكذا الشركات الخاصة للتمكن من تغيير وجه المدينة.
هناك عالمان، واحد متوسط إسلامي عثماني، وهناك الفكر الحداثي الذي أتى به الفرنسيون. خالد فهمي المفكرة القانونية.
كانت المحاولات تتم في عدة اتجاهات لتطوير المدينة القديمة المحافظة على طابعها الإسلامي والعثماني، التي تمتاز بالأزقة والحواري الضيقة، وفي الوقت نفسه إنشاء مدينة جديدة تحمل اسم مؤسسها إسماعيل، لاستقبال ضيوفه في احتفالات افتتاح قناة السويس. وجرى الربط بين المدينتين من خلال شبكة طرق واسعة. وكانت القاهرة المدينة التي تحاول الخروج منذ الصدع الأول الذي أحدثته حملة نابوليون، بالانفصال المتدرج من تحت عباءة الباب العالي والدولة العثمانية منذ محمد علي، قد تحقق في عهد إسماعيل، وبحسب أرنو لم تنفصل القاهرة بأكملها، وبشكل مطلق، ولكن ظل هناك همزة وصل رئيسية بين مدينة "تقليدية" وأخرى استمدت نموذجها من باريس، متمثلة في حي الأزبكية كنقطة مركزية لتجمعات أجنبية غير متجانسة مع نسيج المجتمع القابع وسط المدينة وسيمثل النواة التي ستمتد نحو الناحية الغربية. وفي الأخير تمثل التجمع الأجنبي كاتجاه مغاير للمدينة التقليدية العثمانية، نحو الحداثة.
وهو ما نقل السردية إلى طور آخر أي الواقع الثنائي: المدينة القديمة/ الأحياء الجديدة الذي ظهر في ١٨٧٤، يقدم جان لوك أرنو تفسيرًا لجهود ومشروعات الخديوي إسماعيل باعتبارها "نتاج إرادة (غير) واعية، ومشاريع عديدة لشق الطرق (ولكنها) غير مكتملة، خُطِّطَت في عام ۱۸۷۱، وتم التخلي عنها. ويشرح أرنو العوائق المفترضة: إذا كانت شبكة طرق تمتد عدة عشرات من الكيلومترات بالحلول محل أراض بكر يمكن تنفيذها بأقل التكاليف إلا أن عمليات شق الشوارع يثير العديد من المشاكل المتميزة. فهي لا تحتاج فقط إلى إمكانات مالية لنزع الملكيات الواقعة على مسار الطرق، بل تستلزم أيضا عمليات رفع خرائطية مفصلة، وتشكيل لجان تقدير، وهدم مئات المباني، ورفع الأنقاض المترتبة على ذلك. ويعدد أوجه الخلل في إدارة الخديوي للحفاظ على قوة عمل تدفع سير المشروعات، هو افتقاره إلى نظام إداري كفء ودقيق (فـ) نظام الإدارة الخديوية المفرطة في مركزيتها والسيئة التدرج، وكذلك الطابع المُلِحّ الذي يعزوه إسماعيل إلى أعماله لا يتلاءم مع عمليات تتطلب متابعة دقيقة لمختلف مراحلها. أرنو القاهرة: إقامة مدينة حديثة ص124/125
ومع ذلك فتمة توازن معين في شئون البلديات كان يتحقق تدريجيا مع هذا بتأثير التفاعلات الذاتية للقوى المادية والبشرية التي كانت تمارس تلقائيًّا فعلها المؤثر في هذا المجال ص82 وفقًا لما يقوله أندريه ريمون، ويقدم بدوره تفسيرًا آخر: (و) أن البنية العامة للمدينة تبدو كما لو كانت تسير وفق تنظیم منطقی هیأته تفاصيل الحياة نفسها دون تدخل من جانب السلطات ص76 لكن من غير المرجح أن تكون قوة الدفع الذاتي وحدها لفرض نظام دقيق يحكم تخطيط المدينة. على سبيل المثال طائفة السقايين. يمكن مراجعة أندريه ريمون فصول من التاريخ الاجتماعي، السقايين في القاهرة ص84-115.
يشتبك المؤرخ خالد فهمي مع السياقات المتعددة للسردية التأريخية المصرية التي تهيم بالنموذج "الفرنسي"، وتشيد بدور "الحكام" والطبقات الارستقراطية. باعتبار أن مؤسسي القاهرة الخديوية قد وقفوا مشدوهين أمام الشوراع الفسيحة وواجهات البنايات والمقاهي والمحلات، وخروا سجدًا -مبالغة أدبية- أمام سحر الأضواء والأنوار المبهرة لباريس وأفكار الثورة الفرنسية. بزعم ان القاهرة جرى تطويرها وقفًا على رغبة الخديوي إسماعيل -بعد زيارته الشهيرة للمعرض الدولي في باريس-، وتجاهل كل التغيرات التي سبقت عهد إسماعيل -ربما بقرون- وتغير معها مركز المدينة سياسيًا واقتصاديًا أكثر من مرة. ومع ذلك ظلت رغبات الخديوي هي الركيزة الأساسية للسردية التقليدية، سواء كان الأمر راجع لبذخه أو لإفلاسه، وانعدام الإمكانات وضيق الوقت، ما أدى في النهاية إلى عدم اكتمال مشاريع التطوير أي مُنيت بالفشل.
وهناك انقسام آخر للسردية التاريخية المصرية على نفسها، مع ثنائية أخرى توازي ثنائية المدينة: عالم موروث وآخر وافد، تمثله التيارات الإسلاموية، والآخر يمثله التيار الليبرالي. يشترك شقي الرحى في أن فرنسا والحملة الفرنسية لها بالغ الأثر في دخول مصر للحداثة. فريق يراها باعتبارها فقدان للهوية باستيراد أدوات الحداثة واستبدال الشريعة بالقانون الوضعي، أما الآخر فيرى أن أفكار الثورة الفرنسية هي ركيزة التطور والدخول إلى الحداثة. وتتبنى وجهتي النظر وبعيدًا عن الاحتقار المتبادل الذي طال الطبقة الواسعة من الأهالي، باعتبارهم متخلفين، أن ذلك العالم كان نتاج الحداثة الغربية، نفس الرؤية الغربية والاعتراف بالقصور في التشريع (التنظيمي) والذي كان سببًا لإنشاء المحاكم المختلطة، وأن السلطة الحقيقة ممثلة في الاستعمار (الفرنسي-البريطاني) كانتا نقلة نحو الحداثة.
"في الشرق كانت ترقد مدينة الأموات هادئة وموحشة" أندريه ريمون القاهرة ص295
هناك تساؤلات عديدة ساورتني ولم أمكن تجاهلها، نتيجة الاحباط الشديد الذي أصابني مع كتاب أرنو وحصره للمجتمع المصري على فئة محددة، ومعرفتي المسبقة بوجود فئات أخرى، عاشت في مناطق عدة في القاهرة تحمل أسمائهم إلى الآن، ورغبتي في معرفة تفاصيل أكثر عن حياة هؤلاء، ولكن تبدد شيئًا منها مع كتابي أندريه ريمون وبخلاف الطوائف المهنية العديدة، والتجار والعلماء المتحكمين في نشاط المدينة، لم يولي المؤرخون اهتمامهم للفئة الأكبر من المصريين من صغار الحرفيين والمهنيين والعمال والفلاحين القطانين في الحارات والأزقة على أطراف الأحياء من الفقراء، فقد ظلوا يعيشون خارج التاريخ. أندريه ريمون فصول من التاريخ ص268
لماذا؟ هل لأنهم رفضوا ما انتجته الحملة الفرنسية العسكرية، أم لأنهم كانوا يرزحون تحت وطأة التخلف والتمسك بعادات وقيم بالية، أم رفضهم ومقاومتهم للاستعمار؟ ما الذي فعله أهل المحروسة، وكيف شاركوا في تحسين شروط حياتهم، هل انتقلوا من إمرة سيد لآخر، "كسكان وديان سهلي المعشر والإنقياد"، كمثالًا للطاعة، دون أي بادرة عصيان؟ كيف تلقوا أوامر تلك السلطة؟ هل اكتفوا بأن يكونوا أدوات مُسْتَغَلة في يدها؟ أم قاوموها؟ ما هي أساليب السلطة في السيطرة على حياتهم وأجسادهم؟ ما هي أوجه المقاومة، وما الذي دفع مؤرخو الحداثة إلى تجاهلهم؟ ما الذي جرى؟ وما هو دور "الخبراء الأوروبيين" في إعادة تعمير القاهرة؟ وكيف تم استنباط تلك الصورة النمطية عن القاهرة، واستحواذها على كثير من المؤرخين العرب والأجانب، وكيف ظلت ثابتة مع مرور السنين دون تغير جذري. إذا كان اهتمام حكام مصر بالقصور وبالطرق الواسعة فأين موقع من يعيشون من تلك الحكاية؟ ولماذا يطغى حضورهم فقط وقت الأزمات السياسية والاقتصادية. ويكون حضورهم إيذانًا بالصاق التهم -المتدوالة- إليهم كمتسببي للفوضى واختلال النظام. وواجب عليهم التنحي جانبًا لافساح المجال لمن هم أكثر وجاهة وعلمًا وأفضل إدراكًا! (الثائر الحق!)
تتردد السردية التاريخية التي تجعل من الحداثة نموذجًا يُقرأ من خلاله نشأة الدولة الحديثة في مصر، بين أمجاد الحكام وانحطاط المحكومين، وحتى لا يكون الوصف قاسيًا يمكن التعبيرعن ذلك بتدني مستوى مقدرتهم على تنظيم أنفسهم، الذي ينعكس على التنظيم بين مختلف الإدارات، ومدى كفاءة موظفي تلك الجهات والإدارات المختلفة، مقارنة بهوسمان ومجموعة موظفيه، ومن الملاحظ أن المنهجية الرائجة تنتقل من حاكم لآخر ومن سلطة لأخرى، وتعدد مراحل التأريخ، أو السياقات المتواترة، المُربكة أحيانًا، لأن أسلوب خالد فهمي يبدء أولا بطرح ما تعبر عنه تلك السرديات، ومن خلال قراءاته المتنوعة في التاريخ الاجتماعي، يطرح تساؤلاته العديدة، والتي هي بالمناسبة قد تكون جزء من أسئلة طُرحت من قبل، كتاب جان لوك أرنو، القاهرة: إقامة مدينة حديثة (1867-1907) من تدابير الخديوي إلى الشركات الخاصة. يزخر بنقاط عديدة أشار إليها لكن لم يتناولها بالقدر الكافي رغم استفاضته في التغيرات التي طرأت على النمو العمراني للقاهرة في القرن التاسع عشر.
ما يلي جزء من يمراجعة لكتاب جان لوك أرنو، القاهرة إقامة مدينة حديثة:
برغم أن أرنو يدفع بحقيقة تأثر الخديوي إسماعيل وزميل دراسته علي مبارك بالتطوير الذي حققه هوسمان في باريس، إلا أنه يشكك في أن يكون الخديوي أو على مبارك الذي نسب إلى نفسه كثيرًا من جهود موظفين آخرين، قد اقتربا ولو من بعيد من تحقيق النموذج الباريسي. ورغم أن هناك تشابه بين تجديدات هوسمان إلا أن "المباني التي شيدت في القاهرة خضعت لحد أدني من التنظيم" ص32
وفي الوقت الذي يقر فيه أرنو بالتشابه الشكلي، فمثلًا لم تكن جهود هوسمان وليدة اللحظة، فقد استغرق هوسمان 20 سنة كي يغير وجه المدينة، ولم تكن تلك الفترة مجمل المدة التي استغرقتها أعمال التطوير، لكن جهود هوسمان كانت استكمالا وتكليلًا لجهود من سبقوه بعقود، كما هو الحال مع حكام مصر قبل إسماعيل، ولكن يعتمد أرنو التحليل الاقتصادي كأحد العوامل الرئيسية في تغيير وجه المدينة، ففي حوالي عام ١٨٤٥، تم رصف وتوسيع جانب من الطريق الذي يقع فيه الموسكي، والذي كان قد تم شقه بواسطة الحملة الفرنسية، مع مده حتى القصبة، مما أوجد صلة مباشرة بين المكان الذي تتركز فيه التجارة الواسعة في قلب المدينة القديمة، وبولاق ومينائها، مرورا بالأزبكية. وبعد عشرين عاما تم مد نفس الطريق مرة أخرى. وبفضل تلك العملية تم إنجاز أول طريق للعبور من شرق القاهرة إلى غربها، وذلك من مقابر قايتباي حتى شاطئ النيل بمسافة قدرها أربعة كيلومترات، تقع الأزبكية في مركزها تقريبًا.
وفي منتصف القرن التاسع عشر غدا وضع الأزبكية، كملتقى طرق توصل بين مناطق عديدة، المركز المفضل لمباشرة الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بتنظيم السفريات وبالأجانب الذين يترددون عليها. وبالإضافة إلى الآثار التي ترتبت على شبكة الطرق، أصبح الحد الشرقي للأزبكية الموقع المفضل لإقامة جانب كبير مـــــن السكان من ذوي الأصل السوري، وأغلبهم من المسيحيين، وكان لهم دور كبير في الوساطة بين المصريين والأوروبيين. لم تكن الأزبكية مجرد مفترق طرق لا يمكن تفاديه، من الناحية الطوبوغرافية، ولكنها مدينة كانت أيضا، بحكم نوعية الأنشطة التي تجمعت فيها، همزة وصل رئيسية بين مدينة تقليدية وامتداد لها استمد نموذجه من الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط، وقد امتدت الأحياء الجديدة التي أقامها الخديوي بدءًا من ذلك المركز.
يماثل أرنو بين جهود محمد علي وابنه إبراهيم في تهيئة الأرض وشق الطرق بين المدينة القديمة وربطها بالأزبكية، حيث يقيم الأجانب، وبين مساعي فرنسا وانجلترا في التمهيد لمصالحهما، أي أعمال شق قناة السويس بدافع من فرنسا، ومشروع ربط الإسكندرية بالسويس بواسطة السكك الحديدية مشروع انجليزي. وكما ارتكز على ما بدا أنها نتيجة جهد إبراهيم في تهيئة الأرض للزراعة أو للعمران، الذي ستنطلق منه أعمال إسماعيل الكبرين استنادًا بمكانة الأزبكية ومشاريع الشركات الخاصة كالمياة والغاز ص40 وبتداخل مصالح الأشخاص سواء من الأسرة الحاكمة أو من الأجانب والشركات الخاصة الحاصلين على امتيازات تتيح لهم تحقيق منافع ومكاسب من استغلال الأراضي والمشروعات المتجهة غربًا، ظل أرنو يقيس تقدم التخطيط العمراني في القاهرة اعتمادًا على ما جرى من تخطيط وتطوير للمدن والحواضر الأوروبية.
وأخيراا انهيت كتاب " السعي للعداله " للمؤرخ د/ خالد فهمي . أُصدر الكتاب عام 2018 باللغه الانجليزيه و قام الأديب حسام فخر بترجمته في عام 2022 والتدقيق اللغوي للاستاذ علاء سويف ، ترجمه الكتاب جيده جدا ولا تشعر أنه كُتب بلغه أخري غير العربيه فالترجمه مُتقَنه علي عكس ترجمه الدكتور شريف يونس لكتاب " كل رجال الباشا " فقد كانت سيئه .
يدحض الكتاب الأفكار التي يروجها المؤرخون الاجانب بأن نشأه مصر الحديثه كانت علي يد الفرنسييين بدأ من الحمله الفرنسيه واستكمال النهضه مع الاحتلال الانجليزي سواء في الطب والقانون والجهاز الاداري للبلاد .
يدحض فكره مقاومه المصريين للطب والتشريح والتطعيم حيث زعم مؤرخو الاستشراق بأن التشريح يخالف الدين وبأن المصريين شعب جاهل يؤمن بالسحر والشعوذه.
يدحض فكره ان الدوله العثمانيه كانت غارقه في الجهل والتخلف ،ويربط نشأه الدوله الحديثه بمصر بأنها جزء لا يتجزأ من الدوله العثمانيه بما يتعلق بالقانون والفقه . (فالخط الهمايوني ) مجموعه من القوانين اصدرها السلطان العثماني عام ١٨٥١ كان النظام في مصر يتبعها ويلتزم بها في احكامه القضائية وكانت الاحكام مزيج من الشريعه الاسلاميه والاحكام الوضعيه في القضايا التي لايوجد بها حكم شرعي.
يقدم الكتاب بحثا مفصلا عن الطب والفقه والقانون في مصر الحديثه ( القرن التاسع عشر ) الميلادي وخاصه منذ تولي محمد علي حكم مصر وخلفاؤه حتي الاحتلال الانجليزي للبلاد 1882.
يؤكد ع ان محمد علي وخلفاؤه لم يأتو بمشروع للنهوض بالبلاد ولكن تطورات الاحداث والخطوب هي التي ألزمتهم بذلك ، من حيث تطوير القوانين لتناسب القضايا المعقده ويضرب الكتاب مثلا لذلك نظام الحسبه حيث كانت الدوله المصريه العثمانيه تعتمد علي شخص (المحتسب ) في كشف المفسدين وظبط الاسواق ثم كيفيه التخلي عن هذا النظام تدريجيا بتكليف هذه المهام لاداره كامله موجوده في كل إقليم داخل الدوله .
وكيفيه تطور الادوات العقابيه من الضرب بالكرباج الي التخلي عنه تدريجيا والاكتفاء بحبس المجرم في السجن .
ومن حيث تحسين الاوضاع الصحيه للمستشفيات حيث وضع الخديوي عباس قوانين صارمه لتوقيع المريض للموافقه او الرفض ع اجراء العمليه الجراحيه وشرح مخاطرها له قبل اجراءها لانه كان يوجد أطباء يستغلون اجساد المرضي كتجارب علميه .
وشهدت فتره الخديو اسماعيل نهضه عامه للصحه من حيث نظافه الشوارع والسجون وصحه المساجين وانشاء شبكات الصرف الصحي وانشاء احياء جديده لتقليل تكدس السكان بمصر القديمه وتشجير الشوارع والميادين وانشاء الحدائق العامه كان كل ذلك حرصا ع الصحه العامه الي جانب التوسع الغير مسبوق عالميا في زراعه القطن .
وبالتالي فإن انظمه الدوله كانت بتطور مستمر عبر عصور الحقبه الخديويه ولم تكن في جهل حتي يأتيها الاحتلال سواء كان فرنسي او انجليزي.
بل بالعكس كان هناك قوانين مصريه عثمانيه تعاقب ايضا من يتسبب بقتل العبيد او ازاءهم بغير وجه حق ( قبل الغاء نظام العبوديه) في حين ان العبيد في فرنسا وانجلترا كانو يعاملون معامله الحيوانات.
وأخيراا يؤكد الكاتب علي ان المواطن المصري البسيط لم يكن راضيا علي كل هذا التقدم والتطور الحضاري للبلاد في كل المجالات . وكان يأمل في ان تستمر حياته المستقره كما كانت قبل مجيء محمد علي باشا الي مصر حتي وان لم يكن بها كل هذه النهضه .
لانه دفع ثمن كل هذا بالعمل بالسخره سواء لانشاء السكك الحديديه ١٨٨٦ او بإجبارهم للدخول بالجيش ١٨٢٥ او لحفر قناه السويس التي زُهقت فيها الكثير من ارواح المصريين او لانشاء المدارس والمستشفيات والحدائق العامه كل ذلك كان بالسخره . اي نعم كان يوجد عقاب لكل اداري تسبب في موت هذه الارواح من اقصاء عن العمل او الحبس او النفي خارج البلاد . ولكن كل ذلك لم يمنع النفور الشعبي لدي هذه التجربه الحضاريه الغير مسبوقه في الشرق الاوسط .
هذا المنشور ماهو الا نبذه بسيطه عن الكتاب الذي يحتوي علي كميه كبيره من التفاصيل الدقيقه الخاصه بالنظام الطبي والقانوني والفقهي المتبع بمصر الخديويه والتطورات والتحسينات التي طرأت ع هذه الانظمه بدايه من ١٨٣٥ الي ١٨٨٢ حيث استعان المؤرخ بالوثائق والمراسلات المحفوظه بدار الوثائق المصريه وأطلعنا عليها بالكتاب .
بعد شهر من القراءة المتقطعة وفي عصر اليوم انتهيت من قراءة هذا السفر الجليل …500 صفحة من توثيق رحلة هذا البلد نحو العدالة … رحلة نحو الانتقال من دولة القرون الوسطى الى الدولة الحديثة ..
(لم تنشأ تلك الدولة الحديثة بغرض خدمة المصريين. لقد شددت من سيطرتها على أجسادهم وتحكمت فيها بشكل غير مسبوق، بل مدت آفاق تلك السيطرة إلى ما بعد الموت، وأخضعت جثث الموتى لكشف متمعن ودقيق. ولكن لم يدخر المصريون في سعيهم للعدالة أي جهد يمكن أن يدفع تلك الدولة إلى خدمتهم. ولم يوقفهم أي شيء في سعيهم المستمر من أجل العيش في سلام، والموت بكرامة).
في صفحات الكتاب ستجد الشيخ الأزهري يخلع عمامته ليتقدم وئيداً في اروقة مدرسة الطب في ابو زعبل
يتراجع شيخ الحارة ليظهر مأمور الضبطية (ببدلته و ازراره النحاسية )
يتوارى القاضي الشرعي لتظهر اول صورة للمحكمة الحديثة ممثلة في (مجالس السياسة) التي تحولت لاحقاً الى المحاكم الأهلية…
يكفّ السادة عن التصرّف فيمن يملكونهم كعبيد
تُستبدل عقوبات الضرب بعقوبة الحبس
تتكون الجيوش بدلاً من الأورطة
تحلّ هيبة الدولة بدلاً من هيبة مولانا ولي النعم …
وبدلًا من اهتمام الوالي بالموتى فقط لكى يتم تقسيم التركة او ما يُعرف ب (الكشف على الأموات) يُضاف الاهتمام بمنع تفشي الاوبئة و منع القتل ..
هنا تبدأ الدولة الحديثة حين ينشغل الحاكم بموقع المواطن على الورق (كشوف التعداد و قوائم الجرد و الاحصائيات ) بدلاً من كون المواطن منبتّ الصلة منقطعاً في قريته …فعندما يُنتزع الفرد من (عاقلته) يكون في الامكان مساواته مع غيره من الأفراد..
كتاب عظيم القدر ..و توثيق مذهل قام به المؤرخ و الأكاديمي المرموق د خالد فهمي بدأب وصبر و كأنه ينحت تمثالاً وسط الصخور ..
“لم تكن كفاءة هذه الدولة المصرية الحديثة ولا ثقتها بنفسها تعنيان بالضرورة تمتعها بالشعبية أو بالمشروعية فب أعين رعاياها، فلم يشعر الأهالي يوما أن هذه الدولة دولتهم أو أنها تعمل على رعايتهم وتسهر لراحتهم.." " لم يدخر المصريون في سعيهم للعدالة أي جهد يمكن أن يدفع تلك الدولة إلى خدمتهم ولم يوقفهم أي شيء في سعيهم المستمر من أجل العيش في سلام والموت بكرامة." من خاتمة الكتاب الثري جدا والدسم جدا جدا، قد تحتاج وقتاً طويلا للانتهاء من قراءة صفحاته ثم قد تحتاج -في كثير من الأحيان- لإعادة قراءة بعض الفقرات لاستيعاب المعنى المراد. لن يقدم لك الكتاب وجهة نظر الكاتب جلية واضحة سيترك لك كامل الحرية لتحكم بمفردك بقبول أو رفض تصرفات الدولة الحديثة في الطب والسياسة والمنظور الفقهي لهما وبينهما، فتارة يُشعرك أنه أكبر المناصرين لكل إجراء اتخذته تلك الدولة في سبيل إرساء قواعدها واحكام السيطرة على الأهالي، وتارة ترى نقده الشديد لبعض لبِنات ذلك الصرح الحداثي. يتحيز للدولة الخديوية أحيانا، وينقدها وينقضها أحيانا أخر. لكن في النهاية تبقى تلك الحقائق المستند إليها في هذا الكتاب غير ذات محل شك أو نقد، فالحقيقة تبقى حقيقة. الكتاب ضخم ودسم لكن أشعر أن الحكم على تلك الحقبة الحرجة يحتاج لمزيد من القراءات النقدية المستندة للحقائق أيضا. ترجمة لا نظير لها، تكاد لا تشعر قط أن الكتاب قد كُتب بلغة أخرى غير العربية. قراءة ممتعة ومفيدة :)
يفكك هذا الكتاب العديد من الافتراضات والتنميطات التي اعتدنا أن ننظر من خلالها لتجربة الحداثة المصرية منذ بداياتها. ويعتمد في ذلك على مشروع بحثي ضخم من الغوص في وثائق من دار الوثائق المصرية.
كعادته يقوم خالد فهمي، بتقديم عمل معرفي متميز، يشكل إضافة هامة، تستحق القراءة والاشتباك أكثر من مرة.
هذا التعليق بشكل أولي وموجز، إلى أن أقوم بكتابة تفصيلية عن هذا الكتاب الثري.
د. خالد فهمي من أهم مؤرخينا المعاصرين في بحثه الجديد يتحدث باستفاضة مرتكزا علي اهم المصادر في القرن التاسع عشر عن الطب في مصر الحديثة حيث قصة انشاء القصر العيني انتقالا الي التطعيم ضد الجدرى و الحجر الصحي و التشريح الطبي ومراحله من معارضة وحتي بدايات العمل به ، و م ينتقل بنا الي السياسة في مصر الحديثة و تاريخ القانون المصري في القرن التاسع عشر منذ العمل بالمحاكم الشرعية والاعتماد علي الشفاهية و مجالس السياسة واعتماد الكتابية حيث اعتماد مجالس السياسة في تحديد الهوية للمتقاضين عن طريق اسماء الآباء ومحل الإقامة و التذكرة و الضمان وغيرها. كالاخذ بالشبهات و التحقق من حسن السمعه سماعي أو مكتوبة. ثم يعرض الكتاب للتخطيط الحضري والصحة العامة في القاهرة في القرن التاسع عشر. حيث تخطيط القاهرة في العصر الحديث من القرن التاسع عشر وعلاقتها بالصحة العامة(مشكلة النفايات دفن الموتي و الروائح الفاسدة و الاوخام الناتجة من المستنقعات و البرك و اماكن النفايات والحد من انتشار الامراض و التعامل مع الأوقاف والشريعة في التخطيط وتنظيم المحلات التجارية بين قوانين العمارية. منتقلا بعد ذلك إلي الحسبة و المحتسب وتاريخها في السير و الدراسات الفقهية و تطور نظام المحتسب عبر المؤسسات حيث مؤسسات الشرطة والنظافة و الصحة العامة التي حلت محل المحتسب والتي ظلت محتفظة بالعنف كأداة إلي أن تم استبدالها بالسجن. الي جانب الكيمياء الجنائية في صناعة الدواء و الكشف علي الاطعمة الفاسدة. واخيرا يتحدث د خالد فهمي عن تطبيق العدالة حيث تطبيق نظام قانوني سياسي للدولة المركزية الموحدة لفرض سيادتها وبدأ إلغاء العقوبات البدنية و الجسدية واستبدالها بالحبس. ودور الطب الجنائي و شهود الإثبات و الأدلة الجنائية في حركة التحول من المحاكم الشرعية اللي المحاكم السياسية و الطب السياسي. دراسة رائعة جديدة موثقة.
كعادة الدكتور خالد فهمي الكتاب يغوص في أعماق التاريخ يرويه من زاوية أخري غير الزاوية المعتادة حيث يرتكز علي الجسد وكيف مرت دولة محمد علي علي الجسد المصري لتسحقه سحقا دون أن يعير المؤرخون اهتمام لهذا الجسد ،هنا يأتي د خالد فيوقف الجميع وينبههم إلي ذلك الخطأ الفادح في تفادي رواية الجسد الذي تطفح به الوثائق في الارشيف المصري. هنا يتناول الدكتور المجتمع المصري من خلال حواس الإنسان البصر والشم والتذوق...إلخ فيحكي قصة القاهرة من منظر تلك الحواس وكيف يحكي البصر والأنف قصة مدينة. طموح رائع وفريد من د خالد الصراحة. هنا دكتور خالد بيدينا نظرة أكثر عمقا من (كل رجال الباشا) للمجتمع المصري ويزيح الكاميرا عن الباشا في المقصورة الرئيسية ويحولها الي الحارة والزقاق والجزارة واللومان فنري القاهرة القبيحة كريهة الرائحة ويحكي لنا كيف سعي الحكام ليعالجوا المعضلة ويناقش دوافعهم ويفند الحجج والكتابات التي طرحت نظرياتها الخاصة عن هذه الحقبة والدوافع ويؤيد ما يراه صحيحا. بدأ الكتاب بتحدي نظرتين نظرة علمانية ونظرة إسلاموية للتاريخ والقانون فيطرح حججه في تفسير التطور الحاصل في القانون المصري لم يكن من آثار التنوير الاوربي بقدر ما كان نتاجا منطقيا السياق التاريخي قبل وأثناء حكم الباشا وأبناؤه. لكن اختلف الكتاب ده عن (كل رجال الباشا)في أكثر من نقطه اذكر منها : * احيانا تسرع د خالد في إثبات نقطة أو نقطتين وعدم تقديم أدلته الكافية الشافية الوافية كما كان يفعل في(كل رجال الباشا). * هذه النقطة قابلة للمراجعة والتدليل بقراءة أكثر عمقا،وكتابة قراءتي بشكل اوضح؛ د خالد معرفتش بشكل كافي تعريفه للشريعة والفقة واحيانا كنت بحس أنه بيخلط بينهم و مفيش خط فاصل في عقل الدكتور بين المصلحين . طبعا النقطة دي محتاجة مراجعة لتوضيح أكثر مني لكن حتي الآن هسيب النقطة دي في مراجعة سريعة للكتاب وهكتب النقطة دي بشكل أعمق في قراءة قادمة أكثر عمقا (دي نقطة خارجية لكن من اسباب حبي للمسيري أنه مولع بالتعريفات أكثر من اللازم احيانا وده وان كان احيانا ممل لكنه مفصلي في نقطة زي دي ) * بعض النقاط في النهاية محستش (نتيجة الخلط المذكور) بعض الاستنتاجات الخاطئة والنتائج اللي بالطبع خاطئة لأنها بنيت علي أقل تقدير عن خلط.
هذه النقاط الثلاث السريعة هي ما كلفت الكتاب نجوما ثلاث لكن ده لا ينفي استمتاعي بالكتاب والاستفادة منه.