"حلم رجل أنه يغادر مدينته ذات نهار في عاصفة تنحني لها الحقول وتنهض لمقدمها أعمدة يغزلها أمام قدميه التراب على حدود قرية تركب حافة الريح.. حلم رجل أن امرأة تحمل طفلاً بين ذراعيها غنت له أغنية كان يعرفها منذ طفولته ظل يرددها لنفسه وهو يقطع الصحراء كأنها ينبوعه الوحيد... لكن صوتاً في وسط الحلم أنذره وانسكبت ظلمة مفاجئة على البراري. حلق طائر من أحضان شجرة ظل غصنها المهجور يوميء في الهواء-زاد السكون حتى سمع الزمان ينسل على أطراف بستان يابس الأشجار بخفة الثعلب أو القطاة واهتز أديم الماء عندما انحنى ليشرب، ظامئاً، عليه.. أخذ النهر بعضاً من قسماته في دوائره وانتشل هو، الآن، براحته البقايا متعجلاً فالشمس ماثلة والعالم يستدرج ضياءها الباقي كنافذة سحرية تطل على الحدود حيث كان يحلم بأن يسير، وسار.
"سركون بولص" شاعر أساسي، تقرأ له بلغات عدة وهو يبرق في القصيدة، لغته واضحة وأفكاره نسجت بعناية لا تجد لها مثيلاً في الشائع من الشعر العربي السائد اليوم!
وُلد سركون بولص عام 1944في مدينة الحبانية التي تبعد 70 كم إلى الغرب من بغداد.
عاش طفولته ومراهقته في مدينة كركوك الشمالية. هناك جايل مجموعة من الشعراء والكتاب الشباب المتمردين والمتطلعين إلى حياة جديدة وفن جديد، ليشكلوا تلقائياً مجموعة عرفت في ما بعد باسم "جماعة كركوك"، وكان لها أثرها العميق في التطورات الشعرية والأدبية التي شهدها العراق في العقود الأربعة الماضية. أنتقل في منتصف الستينيات إلى العاصمة بغداد، ونشر عدداً من القصائد الحديثة، وترجمات عديدة من الشعر الأمريكي في بغداد وبيروت. انتقل أواخر الستينيات إلى بيروت، ليغادرها في ما بعد إلى الولايات المتحدة. عاش منذ ذلك الوقت في مدينة سان فرانسيسكو التي عشقها واعتبرها وطنه الجديد. في السنوات الأخيرة، كان كثير الإقامة في أوربا، خاصة في لندن وألمانيا.
صدرت له المجاميع الشعرية التالية: الوصول إلى مدينة أين 1985، الحياة قرب الأكروبول، الأول والتالي، حامل الفانوس في ليل الذئاب، إذا كنت نائماً في مركب نوح ، توفي سنة 2007م ، في العاصمة الألمانية برلين، عن عمر يناهز الثالثة والستين، بعد صراع مع المرض.
الأول والتالي شعر منشورات الجمل الطبعة الثانية 2008
إن إكتشاف شاعر، نقرأ له، في هذا الزمن الموبوء، كاكتشاف مجرة جديدة، أو علاج للسرطان. شيء نادر، وصعب. فلم يعد هناك ما يدفع الكثيرون لكتابة الشعر، أو حتي قراءته. سركون بولص، عرفته صدفة. صديق قارئ كتب عن شعره علي صفحة حسابه بـ (الجود ريدز). بحثت عنه: شاعر عراقي، ولد عام 1944 في بلدة الحبانية (800 كم غرب بغداد). انتقل مع عائلته إلي كركوك وهو في الثالثة عشر، وبدأ كتابة الشعر. شكل مع شعراء آخرين (جماعة كركوك). في عام 1961 نشر يوسف الخال قصائدا له بمجلة (شعر). في عام 1966 توجه إلي بيروت سيرا علي الأقدام، قصد المكتبة الأمريكية، طالبا أعمال آلن غينسبرغ وجاك كرواك، وآخرين. وأعد ملفا عنهم في مجلة شعر. في عام 1966 غادر إلي الولايات المتحدة، والتقي في سان فرانسسكو بـ آلن غينسبرغ وجاك كرواك. أمضي سنواته الأخيرة متنقلا بين أوروبا وأمريكا. توفي في برلين عام 2007 بعد صراع مع السرطان. من أعماله: الوصول إلي مدينة أين/ الحياة قرب الأكروبول/ الأول والتالي/ حامل الفانوس في ليل الذئاب/ إذا كنت نائما في مركب نوح. الوحدة. السفر. البحر. ثلاثية الحياة في ديوانه (الأول والتالي). سركون شاعر رحال. في كل مدينة زارها أو سكنها كتب قصيدة، أو ذكرها في قصيدة: كركوك، لندن، باريس، روديس، أثينا، فاس، مكناس، الأندلس، نيويورك، سان فرانسسكو.. وكل حانة ارتادها، يوما، خرج منها بصورة معلقة علي جدران ذاكرته. شعره موال شجن يفتك بأسوار الذاكرة وأعماق الشعور.. نصوص من ديوانه:
- الإيماضة الباقية كنت تنهضين من النوم اتزيحي الستارة ثم تعودين إلي في السرير، تتبعك هالة من الغبار الذهبي الذرا أمرر فيها يدي المشعرة الغبراء ليغسلها شلال أشقر من النور. واليوم، حين أزحتها إلي اليمين، شبه نائم في الضحي، وتدفقت شمس أثينا في غرفتي، رأيت جوربك المنسي فوق ذراع الأريكة يتألق مهملا في النور، شفافا كبيت عنكبوت. كم من الوقت مضي، من كنا حينذاك.. رأيت قطرة الدم القديمة في المنشفة البيضاء وقرأت، متلكئا، كلمات لك في رسالة شرسة اللهجة بعد يأس الإطالة الأبدية، في غضب معذور- (لماذا لا تجيب؟ حتي السحالي تصيء طوال الليل وراء بيتي بانتظار جواب، والبزاق يرتع آمنا هذه الأيام في صندوق بريدي. الطقس هنا ضار كما في قلبي: تقتلع الأعاصير من جذورها الأشجار، وتلقي بالقوارب الصغيرة عاليا فوق السقوف..) هل تهجم الريح الآن،عالية، من لا مكان.. ريح الذكري التي تدعو إلي النزول، ريح الغياب علي شفرة الذكري. أكلما اندفع نحو ظلامه العفوي قطار، سمعنا الحب يهدل تحت العجلات؟ ماذا فعلنا بالهدية، بتلك العوالم التي رأيناها، خلقناها من الأحاديث الطويلة علي سطيحة مقهي، في ظلام السينما، بين الشراشف البليلة عن كل شيء في هذا العالم المسحور. من فتح النص الجريح، في أية هاوية للزمن اختفي. ماذا حدث لتلك الخليقة. في أية أحراش بائسة يقهقه "الكاكابورا" ذلك الطائر الضحاك في بلادك التي لم أرها (كنت تقلدين صوته الهستيري أحيانا لتطردي عني نوبات الكآبة) والطيور الغريبة الأخري في أوستراليا البعيدة حيث سافرت قبل الشتاء.. كم شتاء، أين، متى.. وهذه الرغبة التي تزورني في كل مساء، هذه الريح، هذه الشهوة التي لا تعرف الاكتفاء، إنها تومض قليلا كتاج دفين تحت القشور، في سورة طافحة من الأيام إلي أن يجتاحني مدها العميق بعيدا عن هذه الغرفة حيث أهذي لها، وأصغي إلي صداها..
- المحطة تمشي، فتدفعك الريح من الوراء باردة كأنفاس مقبرة من نفق المترو نحو مطلع الدرج: عامود أسطواني تغطيه الإعلانات عن كل شيء من أحذية النساء إلي مواعيد المظاهرات- كشك السجائر حيث تشتري علبة الدخان وتقرأ بعض العناوين عن أرضك البعيدة حيث الحرب لا تنام، منحنيا قليلا تحت ثقل الحقيبة تحت ضربة المناخ البارد عندما يلسع خديك كسوط حوذي ميت خارج المحطة... صيحات المسافرين ما زالت ترن فارغة بين الأنفاق حتي بعد أن تفرقوا في الطرقات الجانبية ولن تراهم في هذا العالم، علي الأغلب، ثانية لكن تحت دمائك عاصفة من صيحات أخري لا تكف عن الانقصاف كالرعد في الجبال التي عبرتها ليلة أمس نصف نائم آتيا من أسبانيا إلي فرنسا، بالقطار- لأنك تمشي والوجه البشري جريح يأتي لينام تحت أقواس المحطات.. لأن الوجه جريح يأتي لينام، وحياتك نهر من الطين والدماء يجري تحت أقواس المحطات، بينما ينصب الموت شاراته في غابة أيامك أحيانا للتذكير بوجوده من بين الأشجار وأنت تمشي والصباح ينزل ميتا كرداء أرملة علي سياج المنافي، تحت صفوف النوافذ الأجنبية. والروح تصارع الأسلاك. والأرض تدور...
- الوجه ذلك الوجه الذي مررت به علي الجسر فوق مقبرة مونمارتر البيضاء المطمورة تحت الثلج بكل موتاها لامرأة باكية تعض يدها جاهلة أين تسير لا تأبه للريح إذا رفعت ثوبها فوق ركبتيها لا تأبه للمارة والسيارات منذ تلك اللحظة أصبحت أسيرا له حتي صرت تكاد تراه كلما عبرت أحد الجسور
النهر: بعد أن نام الأحياء يسهر الموتى على ضوء القنديل _____________________________ الشاهد: ما تبنيه اليوم، قد ترقص في خرائبه غدا. إذا كنت تبحث عن شاهدٍ تطلع إلى المرآة .
(.. أن تعرف كفايتَك من الألم، في هذا العالم العنيد، وأنك كنت تغذي أسطورته بكل بيت تكتبه كأنه حجرُ الفتيلة.) باعتقادي، سركون بولص، واحدٌ من الشعراء الذين يهنيء القاريء نفسه بالتعرف عليهم بين صفحتي كتاب.
حين تقرأ لبولص فأنت لا تقرأ نصوصاً شعرية أو نثراً .. أنت تعيش تجربة ما.. بتفاصيلها بوجعها بتمردها بعذوبتها ببؤسها.. القيمة هنا لما يصوغه المشهد من معنى ككل، وليس للنص على حِدة.
يقدم سركون بولص رؤية جديدة للحياة وهو في خضم احتدامه بها يعيد تشكيلها بكلماته من جديد.. سواء كانت معقدة كالحرب والغربة والحب .. أم بسيطة كتفاصيل يومية عادية وتفاصيل مايحيط به من أشياء .. هو يرصدها بعين الشاعر التي تبحث عن المعنى وما وراء الأشياء .. ولا تكتفي بالمرور العابر .
لغة مترفة مدهشة ..وصدق حميمي .. وتراكيب فريدة تربك القارئ حيناً لتخلق مساحة للدهشة للتأمل فيما يريد أن يقول.
«افعل ما تُريد.. يمّم وجهك صوب جهةٍ غير معلومة، واسبح في جميع الأنهار إن شئتَ، كن هبةٌ لكل تيار لكن لا تتلكأ في باب الساحرة لا تجرِ وراء بريق المرآة .. فجرُك قصير وثابتٌ، شمسك تحتمي بأكثر من ستارٍ. كل غاية سهرتَ من أجلها الليالي، كل محالٍ يسهلُ الآن انتظاره بعد أن قطعتَ حبلَ الحيرة والتقت المرساةُ بالقاع .. أرى هنا سفرا إلى البعيد لكنّ البحر الذي تنوي عبوره لا يضمرُ غير عاصفةٍ ويلَ من يلاقيها وحده في العراء وها أنت وحدك في سفينة وأصدقكَ القولَ يا ولدي أنّ البرق ولا ريب سيملأ الآفاق لكنه لن يكسِرَ الصواري»
لبّ تجارب سركون وهي التي تتوسط بداياته وذروة إبداعاته في عظمة أخرى لكلب القبيلة القصيدة في هذه التجربة عميقة أكثر منها في بقية التجارب ومتعبة في تتبع أثر سركون واصطياد الصورة كما يرميها هو في الهواء أحب هذا العظيم الذي يجيء لنا من أول التاريخ وحزين لأني أنهيت تجربته بنهاية هذه المجموعة فسركون محفز دائم على أكتشاف الشعر وآلام الإنسان والقصيدة .
كان البحر يصخب طويلاً هكذا مثل تنين فى مراحل طعنِهِ يتقيّأ كنوزا حيةً على الرمال، حيث ترقص أو تتلوّى وبعد قليلٍ تموت. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما تبنيه اليوم، قد ترقصُ فى خرائبه غداً. إذا كنت تبحث عن شاهدٍ تطلّع إلى المرآة.
من الأغن��ة " عندما تأتي " أنتِ عندما تأتين من وراء تخومك المجهولة الى البداية حيث جرح يبدأ بالاتساع مقدماً كبركةٍ تلقت حجر أيُّ فم سيرضيكِ في هذا الطقس الردىء .. أي عازفٍ يسلمكِ حية إلى اوتاره .. حتى لو كان مضرابه من قوائم النسر .
وجدته صدفة على حافة الرف في محل بيع الكتب وعرفت أنها صدفة مهمة من أولئك التي تظهر بها كتب لديها ماتقوله. لم أكن لأعرف سركون أبدًا وحدي دون مداخلة الحظ السعيد أو تناغم مشاعر بحث القلب مع الرؤيا. ووجدته بكلّ ملامح الذي كنت انتظرت تواجده طويلًا ، وكان هناك دائما وأنا التي لم أكن!
قلت عن بولص في قراءة سابقة: تشعر أن القصائد جميعها في المتناول, سهلة الفهم والقراءة, لكن في الحقيقة هي أبعد ما تكون عن ذلك, هذا النوع من القصائد, هذا اللون من الكتابة, هذا العُمق يحفظ للقصيدة رمزيّة خاصة, رمزية قد تكون صعبة في أغلب الأحيان لكنها قريبة من القلب, تلمس القلب, توغل في اللمس. -
ما تزال الرمزية خاصّة وصعبة, قريبة من القلب جدًا. هذا ما يتأكّد عندما تقرأ ما كتبه بسّام حجّار على الغلاف الخلفي: " أعرف مسكنًا واحدًا لسركون بولص هو اللغة. ولعل هذا ما جعله في ظنّي، قبل أن ألتقيه وبعد أن ألتقيه، شخصًا من المعاني".
وهذا ما يظهر جليًا في قصائد الرجل العراقي المسكون باللغة والمعاني. رائحة المدينة الأولى, الرائحة الأولى التي تظهر بين القصائد تعطيك شعورًا غامرًا بالرهافة والحزن.