يعد بحث "المجاز" من أهم مباحث البلاغة، وهو لم يحظ بدراسة مستقلة تعني بتقصي ظروف نشأته، واثر القرآن في تحديد ماهيته ووظيفته في التعبير البليغ، ولقد أشار الباحثون إلى أثر المعتزلة بصفة خاصة في إنضاج مفهوم "المجاز" من خلال سعيهم الدائب لنفي التصورات الشعبية عن الذات الآلهة وعن أفعالها. غير أن هذه الإشارات جاءت مجملة في سياق موضوع أعم هو موضوع الصورة الأدبية في النقد العربي وكان لهذه الإشارات الفضل في تنبيه الباحث الدكتور نصر حامد أبو زيد إلى أهمية الموضوع، فكان إن عمل في هذا الكتاب على دراسته دراسة تفصيلية هدفت إلى الكشف عن تلك العلاقة الوثيقة بين الفكر الاعتزالي، وبين بحث المجاز في القرآن، وهي علاقة كان لها أثرها في توجيه مبحث المجاز وجهة خاصة في دراسة الشعر والنثر على السواء، وقد انقسمت دراسة الباحث إلى تمهيد وثلاثة فصول، يتناول التمهيد نشأة الفكر الاعتزالي ويحاول أن يفسرها في ضوء الظروف الاجتماعية للمجتمع الإسلامي أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الهجري، وذلك لإدراك العلاقة بين الواقع والفكر الاعتزالي بأبعاد المتعددة، ويتناول الفصل الأول العلاقة بين المعرفة والدلالة اللغوية عند المعتزلة، ويكشف عن أثر الفكر الديني الاعتزالي في صوغ اللغة بين أنواع الدلالة الفصلية وجعلها آخر هذه الأنواع، وكانت الشروط التي وضعها المعتزلة لصحة الدلالة اللغوية بمثابة مدخل طبيعي لمناقشة مفهوم المجاز عند المعتزلة، كان من الضروري الإشارة إلى التطور التاريخي لمفهوم الانتقال في الدلالة وذلك منذ المراحل الأولى لنشأة علم التفسير، وبيان العلاقة بين نضج المفاهيم البلاغية عامة، وبين تأويل النص القرآني لخدمة الخلافات العقائدية يبن الفرق المختلفة، غير إن هذه العلاقة بين المجاز والتأويل كانت في حاجة لفصل خاص، الفصل الثالث، للكشف بشكل أعمق عن هذه العلاقة على المستويين المعرفي والديني على السواء. لقد اعتمدت الدراسة بشكل رئيسي على المقارنة بين المعتزلة والأشاعرة خاصة، وهي مقارنة تهدف إلى الكشف بعمق عن خصوصية الفكر الاعتزالي دون أن تتجاوز ذلك إلى بيان الأصول الفكرية للأشاعرة، وهدف المؤلف أن يكون بدراسته تلك قد وفق في الكشف عن جانب هام من جوانب التراث الديني الإسلامي في مجال البحث النقدي والبلاغي.
بداية؛ هذا كتاب دسم وصعب لا يكفي لكي تقرؤه مجرد فهم لفكر المعتزلة وأصولهم فقط لكن عليك القراءة بتعمق في اللغة، وعلوم القرآن والتفسير، بل وقراءة تفاسير المعتزلة للقرآن الكريم كتفسير الزمخشري وغيره نصر أبو زيد في حوالي ثلاثة فصول، وأقل من 300 صفحة لم يترك شيء من الممكن أن يخطر في بالك لم يتحدث عنه ويؤرخ له يبدأ منذ النشأة، ليست-نشأة الاعتزال ولا حتى الفرق بعمومها- ولكن منذ نشأة الخلافات السياسية في عهد سيدنا عثمان، ثم سيدنا عليّ ومعاوية وغيرها إلى نهاية الدولة الأموية وأسباب ذلك في نشأة فرق ذات خلفيات سياسية كالخوارج والشيعة والمرجئة والتي ما لبثت أن أصبح لها وجهها العقائدي والكلامي أيضًا
الفصل الأول كان أشبه ببحث إبستمولوجي حول مفهوم العقل والمعرفة عند المعتزلة وطرقهم في الاستدلال، أما الفصل الثاني فهو تتبع لمسار تطور اللغة والمصطلحات اللغوية بدءًا من مصطلح "المثل" الذي كان يطلق على كل التعبيرات البلاغية ثم تقسيمها إلى تشبيه وكناية واستعارة ومجاز، وتطور هذا المصطلح الأخير ونضوجه على يد أبو عبيدة والفراء والجاحظ. بدأت صعوبة الكتاب تقل حين بدأ الفصل الثالث؛ المجاز والتأويل هنا عرض عملي لطريقة المعتزلة في الاستعانة بالمجاز في تأويل الآيات التي لا يتفق ظاهرها مع أصولهم، كالآيات التي تفيد التشبيه والتجسيم وهو ما يتنافى مع أصلهم الأول التوحيد والآيات التي تفيد الجبر وكلام الله ونفي رؤيته يوم القيامة وغيرها، ومقارنة آرائهم بآراء مخالفيهم وعلى رأسهم الأشاعرة واستخدام كل منهم لمصطلحي "المحكم والمتشابه" ليتفق مع آرائهم، واعتبار كل فريق منهم أنهم هم الراسخون في العلم وأنهم هم الفرقة الناجية
ربما كان الكتاب ليكون أسهل للقارئ لو كانت الدراسة أكبر وأعم، وليست مجرد تمهيد كل ذلك العرض المكثف كان سيهضم أيسر وأكثر نضجًا بالطبع سأعيد قراءته، هذا الكتاب خصوصًا-وكل ما يتعلق بفكر المعتزلة عمومًا- لا يجب أن يمر مرور الكرام
المعتزلة الأكثر ثورية.. الأشعرية الأكثر دبلوماسية.. و في النهاية السنة هى المنتصرة.. هكذا كانت نتيجة حرب النصوص بين الفرق الكلامية المختلفة..
الكتاب يتحدث عن الطريقة الاعتزالية في تفسير القرآن -كما هو واضح من اسمه-.. و لكن الدكتور نصر لا يتوقف عند مجرد شرح و تفسير الآيات القرآنية لكنه يغوص إلى جدلية أعمق و هى علاقة التفسير بالأيدلوجية..
عندما يتم ذكر التفسير فإنه في الأغلب يتجه إلى الاهتمام بمعنى الكلمات و أسباب النزول مع استخدام الشعر العربي كشاهد على تلك التفسيرات. لكن أبو زيد يريد إلقاء الضوء على إشكالية أكبر من مجرد أسباب النزول و معنى الكلام فهو يتحدث هنا كيف أثرت الظروف السياسية و الأيدولوجيات المختلفة في رؤية النص بمضمون مختلف.. بل برؤية متضادة في كثير من الأحيان..
الخوارج مثلا لديهم اقتناع أساسي بوجوب الخروج على الحاكم الظالم و أصبح هذا أحد سماتهم الأساسية على مدار التاريخ.. و انعكس بالتالي على تفسيراتهم للنصوص.. المعتزلة لديهم اقتناع أساسي بتنزيه الله.. و هذا أصبح المنطلق الذي من خلاله قاموا بتفسير كل النصوص.. المرجئة لديهم اقتناع أساسي بأن الإيمان هو تصديق القلب فقط و هذا انعكس بالتالي على تفسيراتهم للنصوص.. الجبرية لديهم اقتناع أساسي بقدرة الله اللانهائية و هذا انعكس على تفسيراتهم أيضا.. وهكذا كانت كل فرقة لديهم مجموعة من الأسس التي تكون أيديولوجية معينة حول العلاقة بين الله و الإنسان و من خلال تلك الأسس/المنطلقات تتحدد رؤيتهم للنصوص..
وهذا معناه ببساطة أن العقل يسبق النقل.. حتى عند أهل السنة المؤمنين بأولوية النص..لأنه معنى هذا ضمنيا أن أيديولوجيتهم التي تري العقل أقل من النص هى التي حكمت هذا التوجه لديهم...
و الآن لو كان التفسير محكوم بالأيديولوجية .. و الأيديولوجية نفسها محكومة بالظروف الاجتماعية و السياسية المحيطة بالمفسر و تؤثر في فكره.. كيف يمكننا إذن أن نتقبل تفسيرا واحدا تاما تم تكوينه في عصر ما و في ظروف معينة ليكون هو التفسير اللانهائي و اللامحدود و المؤبد؟؟
بل أن الأسوأ من هذا أن تكون تلك الأيدولوجية "موجهة قصدا" و ليست مجرد "نتاج فكري حقيقي" و هنا نخرج حتى من فكرة تأثير الأيديولوجية "بشكل طبيعي" إلى فكرة استغلال النصوص لمصالح شخصية..
الدكتور نصر في الكتاب يطرح مقدمة بسيطة عن الأفكار الأساسية للمعتزلة و يحاول شرح الاختلافات الفكرية في بعض القضايا الحيوية بين المعتزلة و بين مخالفيهم.. الملاحظ هنا هو وجود "نسق فكري شبه متكامل" لدي كل جهة و هذا النسق الفكري كان متطورا متجددا... فكانت كل فكرة يتبعها رد من جماعة أخرى يتبعها تغيير في شكل الفكرة الأصلي يتبعها ظهور فكرة جديدة.. و هكذا في علاقة دياليكتية حية جعلت كل جماعة فكرية لا يتوقف فكرها عند نقطة معينة بل يتغير بإطراد مع مرور الزمن..
أعود إلى جملتي الإفتتاحية في المراجعة.. و قصدت بها تحديدا الخلاف حول مشكلة الجبر و الإختيار... المعتزلة و الخوارج رفعوا شعار حرية الإنسان لأقصى درجة فجعلوا الإنسان هو المسئول بشكل تام و كامل عن أفعاله.. فرؤيتهم لمفهوم العدل الإلهي تتطلب ألا يحاسب الناس على شيء لم يقترفوه..
اما السنة و الجبرية فكانت لديهم "حساسية" تجاه القول بما يقوله المعتزلة لأنه قد يفتح الباب لوجود إرادة إنسانية تحد من الإرادة الإلهية.. و بالتالي قالوا أن الله هو المسئول عن خلق الأفعال بأكملها..
و في الوسط كان الأشعرية بقولهم بالكسب و الذي يجعل الله هو الفاعل لكن الإنسان هو المسئول عن الإرادة فقط و الله يحاسبنا على تلك الإرادة...
شغلتني كثيرا طوال حياتي تلك المشكلة.. الجبر و الإختيار.. أريد فعلا أن أؤمن برأي المعتزلة.. أريد أن أشعر أنني المتحكم في قدري.. لكن تأويلات المعتزلة للنصوص القرآنية كانت أحيانا رائعة.. و أحيانا مقبولة.. و غالبا مغالى فيها ...
في مقابل أن السنة و الجبرية لديهم ما يكفي من نصوص قرآنية لإثبات قدرة الله المطلقة و أنه هو الفاعل.. و هو النصوص التي من الصعب جدا تأويلها على غير ظاهرها لإثبات العكس.. و التي للأسف أجدني أتقبل رأيهم فيها..
أما الأشعرية فحاولوا التوسط بين الرأيين.. حاولوا ان يكونوا حلقة وصل بين تطرف حرية الإنسان المطلقة و بين جبر الإنسان المطلق فقالوا أن الإنسان يكتسب أفعاله من الله لكنه فقط يوجه إرادته تجاه الفعل.. فنحن فقط نريد.. أما الفعل نفسه فهو من الله.. و لهذا فالأشعرية ترى أن حساب الإنسان يكون على إرادته/قرارته و ليست على الفعل نفسه لإالفعل نفسه مسئولية الله وحده.. و هنا الأشعرية أجدها تلف و تدور كثيرا و تحاول التلاعب بالألفاظ... فالآيات التي يتمسك بها الجبرية واضحة تماما... و حتى فكرة الكسب نفسها تهمل تماما وجود مؤثرات خارجية تجعل الإنسان يختار تلك الإختيارات.. فشخصية الإنسان لازلت مخلوقة من الله و تلك الشخصية تحكم تماما إختيارات الإنسان.. فإذن سيكون من الغرابة أن نقول بحرية الإنسان في الاختيار طالما أن هذا الاختيار محكوم بالطباع الشخصية التي ولد بها الإنسان...
و أخيرا.. الدكتور نصر بذل بالفعل مجهودا ضخما في جمع مادته العلمية من كل تلك المراجع و الكتب.. و بذل مجهودا أكثر ضخامة في تحليل تلك المادة العلمية و ربط العلاقات بينها .. هذا المجهود الذي يجعلك تشعر بدسامة الكتاب و الحاجة إلى قراءة الكتاب أكثر من مرة.. فمرة واحدة غير كافية أبدا حتى مع التركيز الشديد -قرأت الكتاب تقريبا في حوالي 10 ساعات كاملة!!- لهضم كل تلك الأفكار التي يحويها الكتاب..
أغلى ما اشتريت من كتب في حياتي -حسب السعر أقصد- و لكنه بالفعل لم يجعلني أندم على كل جنيه دفعته!
في الكتاب الثالث من رحلة الأعمال الكاملة للدكتور نصر حامد أبو زيد، ذهب بعيدًا عن أجواء »مفهوم النص« و»نقد الخطاب الديني«، واتجه نحو »الإتجاه العقلي في التفسير« بمبحثه الذي يتضح من عنوانه »دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة« أنه مؤيدًا/ لموقف ما للمعتزلة أو مخصصًا مبحثه لغرض ما ينوي اثباته أيديولوجيًا لكن الذي يتكشَّف لك من مقدمة الكتاب وباقي ثناياه أنه لا يحمل أي ضغائن ضد خصوم المعتزلة ولا يحمل – أيضًا – تأييدًا للمعتزلة، فهو في الأساس – كأبحاث د.نصر – أبستمولوجية خالصة لوجه العلم والحقيقة
هنا يبحث أبو زيد عن المجاز والتأويل والتعقل منذ بدء العرب لتفسير الكتاب، منذ أن كان المجاز شيئا جديدًا على الواقع العربي وكان التأويل شيئا غريبا عن المجتمع حد أنهم وصفوا أول المؤولين بـ المؤولة
يبدأ د.نصر الكتاب بمقدمة معتادة يبحث فيها عن الإرتباط التاريخي والواقعي بين المجتمع والأحداث السياسية التي مهدت لوجود الفكر الإعتزالي وتحكيم العقل الذي أهملته باقي الفرق والمذاهب. الفصل الأول : مبحث نظري أبستمولوجي يدور حول المعرفة والدلالة اللغوية والإيمان والقدرة والعقل والمواضعة. الفصل الثاني : يدور حول المجاز ونشأته وتطوره، وجد عند القدامى بأصله »تجوز« وتطور على يد المفسرين إلى ما وصل إلينا اليوم »المجاز«. الفصل الثالث : عن المجاز والتأويل عند ابن عباس (توفي 68 هـ) وتلميذه مجاهد (توفي 104 هـ) والحسن البصري (110 هـ) ومقاتل بن سليمان (توفي 150 هـ) وأبو عبيدة معمر بن المثني التيمي (توفي 209 هـ) الفراء (توفي 207 هـ وقيل 215 هـ)
كل هؤلاء أوّلوا النص مع المعتزلة واتفقوا في نقاط واختلفوا في الكثير، بعضهم كره الآخر وبعضهم أوسعه جدلًا، والبعض من الأشاعرة تشابهوا مع الخوارج في تكفير المعتزلة المختلفين معهم في الرأي لكن الباحث لا يبتعد عن الأشاعرة (خصم المعتزلة اللدود التقليدي) الذين كانوا يذهبون للتأويل – فقط - لدحض رؤية المعتزلي للنص ويذهبون بـ المحكم والمتشابه عند المعتزلة إلى متشابه ومحكم وهو نفسه ما كان يفعله المعتزلة مع المحكم والمتشابه عند الأشاعرة والعكس بالعكس (لعبة قلب العملة على الوجه الآخر)، لكن كان نظرة المعتزلة بـ تحكيمهم للعقل و��لتفكير والنظر إلى الواقع ومجاراة اليوم الذي يعيشون فيه تختلف اختلافًا جوهريًا تامًا عن الأخذ بظاهرية النص ولا اجتهاد فيما فيه نص الذي وقع فيه الأشاعرة لقرون ولازالوا
كما أن الأزمة الكبرى التي بقيت في الذهن العربي والإسلامي هي القول بـ (خلق / أزلية) القرآن، و(رؤية / عدم رؤية) الله. و تكمن في اعتقاد المعتزلة بأن الله صفات مطلقة (العدل والرحمة وهكذا) إنطلاقًا من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وذهبوا إلى أن الكلام صفة فعلية (وهي التي يستطيع أي شخص له لسان وفم أن ينطق بها) ليست صفة ذاتية (كالرحمة والعدل والمغفرة) فالإعتقاد الأسمى عند المعتزلة بعدم التجسيد، لكن اختلف خصومهم عنهم فقالوا بأن الكلام صفة ذاتية وأن رؤية الله محالة في الدنيا مجازة في الحياة الآخرة. وهو ما تعارض مع المعتزلة تمامًا
غير أني لو شئت أن أعبر عن الحرب التي دارت حينها بصورتين لأخترت صورة : في عام ( 105 هـ/724 م ) استلم الحكم في دمشق هشام بن عبد الملك الذي عين خالد بن عبد الله القسري والياً على الكوفة، فقبض على ابن درهم، وفي أول يوم من أيام عيد الأضحى من ذلك العام قال خالد وهو يخطب خطبة العيد: أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
دعا الخليفة المأمون الفقهاء والمحدثين أن يقولوا مقالته في خلق القرآن، فيقولوا إن القرآن مخلوق محدَث، كما يقول أصحابه من المعتزلة الذين اختار منهم وزراءه وصفوته، ولكن أحمد بن حنبل لم يوافق المأمون في رأيه، ولم ينطق بمثل مقالته بل قام بتكفير كل من يقول بخلق القرآن، حيث قال أحمد بن حنبل: «والقرآن كلام الله تكلّم به، ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يَقُل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول، ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يُكفّر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم.»
وهنا يبرز ابن حنبل مدى تكفيره للمختلفين معه في الرأي دون أن يجادلهم أو يناقشهم في الأمر، بل ويَدْعِ الناس إلى تكفيرهم وإلا صاروا كُفّارا وبعد ذلك - للأسف - تم جلده مرارًا وتكرارًا
إنه عصر مليء بانجازاته واخفاقاته، كان فيه مدرسة عقلية للتفسير ومدرسة للأصولية ومدرسة للتكفير، لجأ البعض مرّات للتعقل ومرّات للتمسك بالأصول، وكأنها حرب بينهم على تفسير النص القرآني، من سيمتلك التفسير الأوحد؟ من سيمتلك الحقيقة المطلقة؟ من سيمسك بالسراب؟؟
أخيرًا : تفوَّق الباحث الدكتور نصر حامد أبو زيد – كعادته – في أن يخرج للناس بحثًا محايدًا غير متأثر بفرقه ضد فرقه، غير مدافعًا عن مذهب ضد مذهب، واقفًا في مكانه كباحث، لا يحيد عن مكانه ولا يؤيد أي طرف من الأطراف. رحم الله الجميع
يتناول الدكتور نصر حامد أبو زيد المعتزلة بكونهم الفريق الوحيد الذي تناول وطوّر أهم مبحث من مباحث البلاغة وهو مبحث المجاز وذلك من خلال سعيهم الدائب لنفي التصورات الشعبية عن الذات الإلهية وعن أفعالها. فإذا كان المجاز وسيلة خاصة من وسائل الأداء اللغوي، فإن اي فهم لطبيعة المجاز ووظيفته لا يمكن أن يَنفصم عن تصور ما لطبيعة اللغة ودلالتها، وهذا التصور لطبيعة اللغة إنّما يتم في تصور أعم لطبيعة النشاط العقلي في سعيه نحو المعرفة، وبما أن المعتزلة كانوا الفريق الأكثر إعلاءً له، أكثر من اي فريق آخر من الفرق الكلامية، فقد تنبهوا قبل الجميع للترابط بين مبحث المجاز وبين مجالات اللغة والمعرفة بشكلٍ عام.
ينقسم الكتاب لتمهيدٍ وثلاثة فصول ويقع في ثلاثمائة صفحة تقريبًا..يتناول التمهيد نشأة الفكر الاعتزالي و يفسرها في ضوء الظروف الاجتماعية للمجتمع الإسلامي أواخر القرن الاول وأوائل القرن الثاني الهجري الفصل الاول يتناول المعرفة والدلالة اللغوية ومفهوم العقل عند كبار المعتزلة، اما الفصل الثاني يناقش مفهوم المجاز وتأويله، نشأته وتطوره، وفي الفصل الأخير يربط المجاز بالتأويل ويدرس العلاقة بينهما الكتاب صعب جدًا..ويحتاج لقراءات مسبقة في علوم القرآن والتفسير وتاريخ الفرق الكلامية،لكنّه في الوقت ذاته مهم وحيوي لفهم المجاز والتأويل وجهود المعتزلة في رفع التناقض بين العقل والشرع من جانب، والنصوص المتعارضة ظاهريًا في القرآن من جانب آخر!!
للمعتزلة مبادئ خمسة هي العدل - التوحيد - المنزلة بين المنزلتين - الوعد والوعيد - الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .. وقد لجأ المعتزلة للمجاز والتأويل للاستدلال بالآيات القرآنية على صحة مذهبهم ولمجادلهم خصومهم و الاشاعرة على وجه الخصوص.
في هذا الكتاب يعرفنا الكاتب كيف تم توظيف المجاز و التأويل للدعوة الى الاعتزال و لاعلاء العقل عن النقل
"الخطاب الإلهي ثابت في منطوقه لكنه متحرك في دلالاته."
::انطباع عام::
غير ممكن! كتاب أكاديمي دسم من أول حرف إلى آخر حرف، لابد من قراءته بتركيز شديد للغاية، إذ أنه استهلك مني وقت أكثر مما كنت أتخيل، فهو كتاب لا يمكن قراؤته على أريكة، بل على مكتب، ومعي القلم والورقة علاوة على المراجع التي لابد من النظر فيها ومعاودة القراءة لما سبق من أفكار إذ أن نصر حامد أبو زيد له طريقة مميزة في العرض كما لاحظت وهي أنه لا يفترش كل أفكاره مرة واحدة، بل يمهد لها خطوة خطوة ويسحب قارئه الهوينا حتى يدرك الفكرة ويتشبعها في الأخير. بمعنى آخر، لم أفهم الغاية من الكتاب أو فكرته بشكل عام إلا بعد الانتهاء منه تمامًا، وفي كل صفحة كنت أتفاجئ في مواجهة فكرة جديدة لكنها مرتبطة مع فكرة سابقة وهكذا. كم المصادر والمراجع التي اعتمدها أبو زيد هائل! وقدرته أنا لا أستوعبها في مزج كل هذه الاقتباسات من المراجع وتنضديدها وراء بعضها في سلك منظوم يشعرك أنه سلسلة متناغمة! الشيء الآخر الذي تكون لدي بعد القراءة هو فعليًا عدم قدرتي على تكوين موقف نقدي شخصي خاص بي! فكأن كل الآراء التي قد قرؤتها سواء للمعتزلة أو لخصومهم من الأشاعرة وغيرهم كأنها كلها صحيحة! هذا الدياليكت المتسلسل الذي خلقه أبو زيد في كتابه جعلني أشعر أن لكل وجهة نظر وجهة مقنعة وجهة نظر أخرى مقنعة بالقوة نفسها وبالحجج نفسها بل واعتمادًا على المصدر نفسه ألا وهو القرآن الكريم! قضية رؤية الله عز وجل مثالاً وموقف المعتزلة النافي للرؤية ألبتة سواء في الدنيا أو الآخرة بينما موقف الأشاعرة الذي يجيز الرؤية في الآخرة، واعتمادهما على الآيات نفسها! لعل أفضل ما تعلمته من هذا الكتاب فضلاً عن الكم الهائل من المعلومات اللغوية والتفسيرية والمعرفية التي طرحها أبو زيد هو فكرة الاجتهاد والبحث، "فالقرآن قد وصف نفسه بأنه هدى وبأنه بيان فكيف يأتي فيه المتشابه الذي أثار الخلاف وأوقع الفتن؟" ويكون رد ابن قتيبة على هذا التساؤل: "لو كان القرآن كله ظاهرًا مكشوفًا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر. ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة." وهي كلمات تكتب بماء الذهب حقًا! ولا أصدق من قول الله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ" المائدة ٤٨ *** ::نظرة عامة::
تحولت إيحاءات المجاز التصويرية على يد المعتزلة إلى دلالات إشارية وبناءً على ذلك لم يجد المعتزلة من وظيفة للمجاز في القرآن سوى إثارة التأمل العقلي والاجتهاد النظري الذي عدّوه جزءًا من التكليف الغرض منه تعريض الناظر لمزيد من الثواب يزيد من ثواب المقلد ويربو عليه ... يصبح التأويل ضرورة لا محيص عنها لرفع التناقض الظاهري بين أدلة العقل وأدلة الشرع لأنه لا يمكن عند المعتزلة أن يدل كلام الله على خلاف ما دل عليه العقل ... المتشابه هو ما يحتاج لتأويل أو تصريف عما وضع له في أصل اللغة ... السلاح الذي يستعمله المعتزلة للتأويل هو سلاح المجاز ... الوحي قد اختار اللغة العربية كنظام إشاري عام بين الله والإنسان وهي لغة بطبيعتها بشرية ومحدودة لا تتسع إلا لمدارك البشر ومعارفهم فعبارات اللغة تستعير من الجسم الإنساني لتعبر عما هو غير إنساني: المعضلة إذن في استخدام اللغة للتعبير عن الله، إنك لا تستطيع أن تنجو من التشبيه مهما حاولت. لذلك استخدم القرآن اللغة التصويرية ليخاطب الناس على قدر عقولهم. المحكم: آيات الأحكام والتشريع التي تستند إلى القرنية اللغظية وتخصيص العام أو تعميم الخاص مبني على الخطاب نفسه المتشابه: آيات التوحيد والعدل التي تستند إلى القرينة العقلية بأن الله حكيم لا يختار القبيح ولا يأمر به بالتالي فهي مجاز يجب تأويله على الأساس العقلي فالأمبر بالقبيح يتأول مثلاً على أنه تهديد لمعرفة قصد القائل المحكم هو الأصل للكتاب والمتشابه فرع ينبغي أن يرد إلى المحكم بالتأويل وباعتماد المعتزلة على العقل وأدلته وبسكوت القرآن عن تحديد المحكم والمتشابه حاولوا أن يضعوا أصولاً عامة تسمح لهم بتأويل آيات القرآن تأويلاً يتفق مع أصولهم العقلية في العدل والتوحيد أما خصوم المعتزلة فقد نهجوا النهج نفسه في تقسم القرآن إلى محكم ومتشابه لكنهم اختلفوا معهم في تحديد الآيات المحكمة والمتشابهة. *** ::الأصول الخمسة للمعتزلة:: ١_ التوحيد: نفي أن يكون لله تعالى صفات أزلية وإنكار قدم صفات الأفعال لتجنب تعدد القدماء وهو الشرك، فيجب تأويل كل الصفات التي يفهم منها أنها صفات المخلوقين. ولله صفات ذات قديمة: الحياة والقدم والقدرة والعلم وهي صفاته الذاتية القديمة أما الخلق والإيجاد والكلام (القرآن الكريم) صفات الفعل الحادث حسب المعتزلة. ٢_ العدل: نفي أي قبيح عن أفعال ال��ه تعالى وللإنسان حرية أفعاله واستحقاقه مآلها مع الله بها وإعطائه قدرة الفعل. ٣_ الوعد والوعيد: وعد الله المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب. وعلى هذا ينفذ وعده فيمن أطاعه ووعيده فيمن عصاه. ٤_ المنزلة بين المنزلتين: مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان لكنه لا يدخل في الكفر فهو في منزلة بينهما أي فاسق يستحق النار. ٥_ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: حملوا الناس على مذهبهم وإلزامهم به؛ وتغيير المنكر يكون بالحسنى ثم اللسان ثم اليد ثم السيف؛ حمل السلاح في وجوه المخالفين من الكفار أو العصاة؛ أوجبوا الخروج على السلطان الجائر (القرآن الكريم لدى المعتزلة هو فصل محكم وصراط مستقيم ولا خلاف فيه ولا اختلاف وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان لها ذكر في القرآن ومعنى). *** ::خاتمة نصر حامد أبو زيد وهي كافية لتلخيص أهم نقاط الكتاب::
يمهد نصر في الكتاب لنشأة الفرق الإسلامية نتيجة للصراع السياسى ويضع حجر الزاوية في هذا الصراع وهو خلافة عثمان ثم ينتقل إلى كيف نشأ الخلاف حول القضايا الدينية تبعا للقضايا السياسية المطروحة بقوة آنذاك. ثم ينتقل إلى استخدام كل فرقة من تلك الفرق إلى الدلالات العقلية والنصية لدعم رأيهم،ومع استعمالهم للنصوص قضت الحاجة لظهور التأويل النصوص للدلالة على صحة الرأى. فكلا الخصمين يستدل بذات الكتاب. ولذلك بزغ المجاز في ثننايا كتابات المتقدمين منهم. ثم تطور على يد علماء المعتزلة ليظهر جليا في كتابات الجاحظ والقاضى عبد الجبار. ويربط نصر بين أصول المعتزلة الخمسة وقد ظهرت كما أسلفنا نتيجة للصراع السياسى وبين تأويلهم للآيات القرآنية للاحتجاج بها على صحة أصولهم. ويبدو في الكتاب انتصار المعتزلة للعقل على حساب النقل، وذلك لتقديمهم الاستدلال للعقلى كضرورة للاستدلال بالنقل. ينتقل نصر كعادة قلمه بسلاسة بين التاريخ والتفسير واللغة لطرح قضيته موضوع الكتاب دون إملال للقارئ أو إطناب يدفع القارئ للسأم.
كتاب أقل ما يقال عنه أنه جيد ، قد كتب على صبر وأناة شأن الرسائل الجامعية المصرية قبل أن ينقلب الموضوع وينعكس المطبوع، وفق فيه -رحمه الله- توفيقا فقد كتبه بعد بحث في مظانه وإلمام بمواده. ولا أرى من مأخذ - قد يؤخذ- إلا من ميل واضح لآراء المعتزلة مقابل خصومهم من الأشاعرة قد كان أولى اتقاؤها في معرض المقارنة.
الكتاب جيد للغاية لمعرفة تفسير المعتزلة للقرآن واتجاههم العقلاني المميز لذلك، بل ويكاد يتوسع ليقدم نظرة أشمل عن المفاهيم العقائدية لدى المعتزلة. وقد نجح أبو زيد في عرض آراء المعتزلة في مختلف القضايا الفكرية/ اللغوية/ العقائدية جنباً إلى جنب مع آراء خصومهم وخصوصاً الأشاعرة.
(ولقد وجد المعتزلة في تقسيم القرآن الكريم إلي محكم ومتشابه وسيلة دينية شرعية للتأويل، رغم أنهم أخضعوا دلالة القرآن كله للدليل العقلي. وكان من الطبيعي أن تكون الآيات التي تسند وجهة نظرهم وأفكارهم العقلية محكمة، وأن تكون تلك التي يستدل بها خصومهم متشابهه في حاجة للتأويل. وسلك خصوم المعتزلة نفس مسلكهم. وكان القول بالمجاز عند كليهما وسيلة للتأويل وأخراج النص عن ظاهره. وحين يعجز المعتزلة عن تأويل النص استناداً إلي تركيبه اللغوي، يلجأون إلي الاستناد إلي الدليل العقلي . وكلا الدليلين عندهم سواء في تأويل النص القرآني. وقد اتضح ذلك في تأويل الآيات التي تتصل بقضيتي رؤية الله وخلق الأفعال. -وأياً كان تقويمنا لجهود المعتزلة، فالذي لا شك فيه أنهم حاولوا مخلصين رفع التناقض بين العقل والشرع من جانب، وبين النصوص المتعارضة ظاهريا في القرآن من جانب آخر. وكانت جهودهم في مجالات المعرفة واللغة والمجاز- لخدمة هذه المهمة- انجازاً له آثاره العديدة على هذه المجالات، وعلى المتخصيين فيها في تراثنا العربي. ولعل هذه الدراسة أن تكون تمهيداً لرصد هذه التأثيرات التي تركها المعتزلة في غيرهم من أعلام الثقافة العربية وعلومها.)
كتاب ممتاز من شخص متمكن ودارس جيد هو الأستاذ الكبير نصر حامد أبو زيد . حيث يوضح فى هذا الكتاب أن أى فكر لا ينشأ من فراغ ولكن ينشأ ضمن الظروف الموضوعية ( السياسية والإجتماعية )التى تحيط بهذا الفكر بحيث يقوم هذا الفكر بتغيير هذه الظروف أو تأييدها . ونشأ الفكر الإعتزالى فى ظروف صعبة للغاية منها تحكم الأمويين ومحاولتهم إستغلال الناس والسيطرة عليهم من خلال نشر المذهب الجبرى والرضوخ للواقع على أنه قضاء الله . وأيضا الأراء المتباينة فى مرتكب الكبيرة وهى أراء متعلقة ببعض الصحابة مثل على وعثمان والزبير وطلحة ومعاوية .. و الفكر الإعتزالى له أصول خمسة . يمكن تلخيصها فى أصلين رئيسيين هما التوحيد والعدل . وخلال تأصيل هذه الأصول الخمسة تم بلورة مفهوم المجاز تدريجيا وإستخدامه فى تأويل الأيات التى يوحى ظاهرها بخلاف أصولهم . ويعد المذهب الإعتزالى من المذاهب التى تقدم العقل على النقل . وخسرنا كثيرا فى القضاء على هذا المذهب وتدخل السياسة فى القضاء عليه . ولو استمر لكان لنا شأن أخر ..
رغم ان المبحث جميل جداً و رائع الا ان الكتاب اعابه الكثير من التكرار في الافكار و السرد و مقدمات طويلة بعيدة عن صلب الموضوع.
اما خلاصة البحث و عصارته فهي بلاشك ان المعتزلة استخدموا التأويل والمجاز لدعم العقل مقابل النقل / النص الديني الظاهري و في رأيي كانت تجربة مثيرة و متقدمة في الفهم زمانياً
الكتاب يشرح كيف استخدم المعتزلة العقل لفهم القرآن، ففسروا النص بما يوافق قيم العدل والحرية، بدل الاكتفاء بظاهره. فكرهم كان محاولة لجعل الدين أكثر انسجامًا مع الواقع والحياة
بدايته صعب وصعب للغاية ولكن تلمس في المجادلات التي أوردها بين المتكلمين تفتحا عقليا لا يوصف وتدرك مدى عظمة تفكير واستنباط أولئك المتكلمين ومدى ضآلة وضحالة تفكيرنا