تتخذ مسرحية «ليلة إعدام الخياط» طابع الكوميديا السوداء، في زمن غابر يتسم بالفوضى وجغرافيا غير محددة الملامح، وتحمل أجواء رمزية تتناول ثنائية القوة والعدالة في فضاء مسرحي متخم بالقوانين والفرمانات المتعارضة، حيث يتحول الخياط المتمرد إلى رمز للإنسان البسيط المهدد بالانكسار دونما ذنب أمام المنظومة العامة في ظل ضبابية الفرمانات وقصورها بتطبيق العدالة. وبهذا العمل، يواصل السنعوسي –الحائز على جائزة البوكر العربية– مشروعه الأدبي في استكشاف علاقة الفرد بالنظام العام والمجتمع، لكن عبر نص مسرحي هذه المرة، بعد أن عُرف بأعماله الروائية مثل «ساق البامبو» و«فئران أمي حصة» وثلاثية «أسفار مدينة الطين».
- «سجين المرايا»، رواية 2010 - «ساق البامبو»، رواية 2012 - «فئران أمي حِصَّة»، رواية 2015 - «حمام الدَّار: أحجية ابن أزرق»، رواية 2017 - «ناقةُ صالحة»، رواية قصيرة 2019 - «أسفار مدينة الطين»، ثلاثية روائية: الجزء الأول: «سِفرُ العباءة»، 2023 الجزء الثاني: «سِفرُ التَبَّة»، 2023 الجزء الثالث: «سِفرُ العَنْفوز»، 2024.
حائز جائزة الروائية ليلى العثمان لإبداع الشباب في القصة والرواية في دورتها الرابعة عن رواية سجين المرايا (2010).
حائز المركز الأول في مسابقة قصص على الهواء التي تنظمها مجلة العربي مع إذاعة بي بي سي العربية، عن قصة البونساي والرجل العجوز (2011).
حائز جائزة الدولة التشجيعية في مجال الآداب عن رواية ساق البامبو عام (2012).
حصدت روايته ساق البامبو الجائزة العالمية للرواية العربية بوكر عام (2013).
حاز لقب شخصية العام الثقافية - جائزة محمد البنكي، في مملكة البحرين (2016).
اختير لتكريم مبدعي مجلس التعاون الخليجي في الرياض ممثلا للكويت مع الملحن إبراهيم الصولة والقاصة باسمة العنزي (2016).
تأهلت رواية "فئران أمي حصة" إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (2016-2017).
تأهلت رواية "حمام الدار" إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (2018-2019).
اختيرت رواية "ساق البامبو" ضمن أفضل 100 رواية عربية بتصنيف مجلة "بانيپال" البريطانية (2018).
تأهلت رواية "ناقة صالحة" إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (2019-2020).
تأهلت الثلاثية الروائية «أسفار مدينة الطين» إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الـ 19، (2024-2025).
حائز جائزة رابطة الأدباء الكويتيين عن ثلاثية «أسفار مدينة الطين» (2025).
لا أدعي أنني مطلع بشكل كاف على أعمال المسرح المتعددة، بل وقراءاتي فيه لا تتجاوز بضع تجارب أيام الدراسة لمسرحيات مشهورة قُتلت بحثاً وتحليلاً، وبعض التجارب النادرة على فترات بعيدة، وربما السبب في ذلك؛ هو أن المسرح لا يستهويني، ولكن، عندما يصدر عملاً مسرحياً لكاتب تحب أعماله، لا يملكك إلا أن تبدأ في عمله، لتفهم لماذا اختار المسرح فضاءً لحكايته؟
في البداية، هذه الحكاية كما رسمها وسردها "سعود السنعوسي" لا تُحكى إلا عن طريق المسرح، وأدواته التي تساعد في تقوية الحكاية، وتقربك من الشخصيات، وتجعلك تشاهد الأحداث كأنك جالس على مقعد بداخل مسرح، تشاهد أدق التفاصيل بكلمات مكتوبة، تحركات الشخصيات وحواراتها، والعبث السوداوي المُغلف لكل شيء، بدءاً من الزمان والمكان، فلا يهم، المهم أن ما يحدث يحدث أمامنا، ومن خلال الخيوط التي يتلاعب بها الكاتب بالشخصيات، تتبلور الحكاية وأفكارها ومستوياتها المتعددة، فالحكاية مليئة بالرمزيات، عن السلطة والحُكم والسياسة والمجتمع، رمزيات يُمكن أن نسقطها على واقعنا الحالي أو حتى أي زمان أو أي مكان بسهولة، وكل ذلك محبوك في حكاية ممتعة، ساخرة إلى أقصى حد، رفع "السنعوسي" مؤشر السخرية إلى الدرجة القصوى، وكانت فعالة طوال المسرحية، حتى لو جاءت بشكل هزلي، فكان الهزل والعبث منطقياً للأحداث ودوافع الشخصيات، ولكن، ذلك ما يجعلنا على بينة، أن حتى ذلك العبث والجنون منطقياً وليس فقط في واقع أحداث المسرحية، ولكن في واقعنا أيضاً، تلك القرارات والعقوبات العبثية كم شاهدنا مثلها حولنا، تلك الأرواح التي قُتلت لأسباب تافهة أو حتى دون أسباب، وكأن الكاتب يُحاول أن يقول: من الذي يضع هذه القوانين؟ ومن تخدم؟ ولماذا نعيش وفقها وقبلناها بهذه السهولة؟ شخصيتي المُفضلة كانت "أيوب" ذلك الذي لم يُرى، وتمنى لو ظل كذلك طوال حياته.
ملخصاً.. تحمل هذه المسرحية في طياتها أكثر مما يبدو.
كوميديا سوداء عن فوضى القوانين والعدالة… عن التبعية حين تصبح نمط حياة؛ تبعية العوام للنظام أو لما يُشاع ويُردَّد بلا تمحيص. جماعةٌ بلا صوت، تابعون أو مجرد صدى لغيرهم؛ تبعيّون حدّ الذوبان، لا رأي ولا موقف، فقط يردّدون ما يصل إلى آذانهم، كأن التفكير رفاهية لا تخصّهم. ومع طول الأمد، حين تستنزف النفس ما لا طاقة لها على احتماله، تنقلب الآية. وسط هذا الركود يظهر التمرّد صغيرًا لكنه حيّ: أيوب، الشحّاذة «مهرة»، الخيّاط، والبزّاز… أولئك الذين حاولوا أن يلمسوا القانون بإصبع السؤال، أن يختبروا هشاشته، فكان نصيبهم التنكيل والعقاب. حتى انتهت رقبة الخيّاط، ثم رقبة أيوب، على حافة المشنقة؛ كأن الحقيقة لا تُقال إلا بثمن.
مسرحية يريد السنعوسي أن يقول من خلالها إن فوضى القوانين لا تمزّق المجتمع فقط، بل تشطره إلى نموذجين متقابلين: تابع يردّد بلا وعي ما يُملى عليه، ومتمرّد يستنزفه الصراع مع كل ما حوله. وبين الاثنين تتأرجح الأصوات الحائرة، تبحث عن ثباتٍ في عالمٍ فقد ثباته.
اسم الكتاب: ليلة إعدام الخياط الكاتب: سعود السنعوسي دار النشر: كلمات عدد الصفحات: ١١٤ صفحة
تقرأها تضحك، تنهيها تبكي.
يخاف الشجاع على الشجاع؛ خصوصًا في انصهار أُسس الأمور الأساسية وتعاريفها، هنا احتضن سعود "بشجاعة" ما لا أقوى على التفصيل فيه؛ خشيةً على الكاتب، وعلى الخياط، وعلى أيوب.. وعليّ أنا.
إذا ما غاب معنى العدل، غاب العدل بذاته؛ وبغيابه يغيب كل شيء.. وهذه المسرحية دليل حي على ذلك، يتجسد فيها قول عبدالله النفيسي "كرنفال" في وصفه للحالة المزرية، ويتجسد لي -لسببٍ أجهله- قامة الفنان المرحوم عبدالحسين عبدالرضا في كل شخوصها تقريبًا.
في بلد ما، شُوِّه أهلها؛ فتشوّهت أُسس قيام بلد متزن، ينسج سعود المعاني لا كما يجب أن تكون؛ بل كما هي فعلًا. عبر شخوصها التي ترمز للقانون تارة، وللجهة التنفيذية تارةً أخرى، وللتضحية ولسان السلطة والعاطفة والقطيع.. الخ، يبين سعود بلسان ساخر أن كيف تحول ذلك الشعب الى شعب ذليل باختياره وارادته، وكيف صارت رحلة السعي للأحلام هزلية وجريمة.
هي بالنسبة لي، انتقام من تخصص درسته ظنًّا بحقيقته، وهي بالنسبة لمحب المسرح، انتقام صريح وصرخةً واضحة لمدى قباحة المسرح الحديث.
أحسن في نسجها، وأحسن في اختياره لاظهارها بهذا الوضوح. عمل مهم، جاء في وقته؛ رغم أنه كُتب قبل ٥ سنوات.
ليست مسرحية؛ بقدر ما هي محاكمة، ورؤية جديدة لمعنى الجار.
ماذا يحدث حين يغيب العدل؟ حين تتماهى البديهيات؟ حين تصبح شحاذة وكيلة نيابة وصوت للقانون؟
مسرحية عظيمة! تقع أحداثها في ١١٤ صفحة فقط، لكنها مليئة بالرمزيات والإسقاطات بأسلوب ساخر. نرى في الكتاب محاولة الوصول إلى المجرم الذي تسلّل إلى منزل رجلٍ مسن، وتنتقل التهمة من شخصٍ إلى آخر على يد المجرم نفسه!
أنصح بها بشدة، لا يفشل سعود أبداً في إبهاري. ⭐️⭐️⭐️⭐️
أنا لستُ من قرّاء المسرحيات عادةً، لكني من قراء سعود السنعوسي، والكتاب قصير يناسب انشغالي هذه الأيام، لمَ لا؟
لو كان الأمر بيدي لجعلت كل منتجي مسرحيات العيد في بلدنا يقرؤون هذا النص، فأنا واثقة أنّهم سيتسابقون على شرائه وتحويله إلى عرض حيّ. النص يحمل من روح الفكاهة ما يكفي لجذب الجمهور، وفكرته بسيطة وسهلة التنفيذ على الخشبة، وأنا أستطيع أن أرى المقاعد جميعها محجوزة لمسرحية مثل هذه.
باختصار، تدور الفكرة حول لصّة تحتال على القانون وتُلفّق التهم لكثير من الناس كي تحصل على بيت وفستان وزوج، لكن كلّ ما خطّطت له ينقلب عليها في النهاية بطريقة ساخرة وسلسة ومضحكة. نتمنى نشوفها على الخشبة
في هذه المسرحية، لا ندخل حكاية بقدر ما ندخل اختبارًا أخلاقيًا طويل النفس. منذ السطر الأول، يضعنا النص أمام عالم يبدو مألوفًا ومجرّدًا في آن واحد؛ عالم بلا تاريخ محدّد، بلا مدينة تحمل اسمًا صريحًا، وكأن الكاتب يتعمّد نزع الجغرافيا ليترك الفكرة عارية، قابلة لأن تنطبق على أي زمان، أي مكان، وأي سلطة. هنا لا تُروى الحكاية لتُحكى، بل لتُحاكم، ولتسأل القارئ قبل أن تسأل شخصياتها.
الأحداث تتقدّم في شكل مشاهد متتابعة، مكثّفة، كأنها لوحات مسرحية تُضاء وتُطفأ، كل لوحة تضيف طبقة جديدة من التوتّر والشك. الصراع ليس حدثيًا بالمعنى التقليدي، بل صراع وعي: بين القانون بوصفه نصًا جامدًا، والعدالة بوصفها معنى متحرّكًا؛ بين الجماعة التي تبحث عن خلاصها في تنفيذ الأحكام، والفرد الذي يجد نفسه عالقًا في ماكينة لا ترحم. كل مشهد يُقرّبنا أكثر من السؤال المركزي: من يملك الحق في الحكم؟ ومن يدفع الثمن حين يتحوّل الحكم إلى طقس جماعي؟ كل مشهد يبدو وكأنه خطوة صغيرة، لكنه في الحقيقة يدفع القارئ إلى منطقة أكثر توترًا وأسئلة. لا يعتمد النص على المفاجأة الصادمة، بل على التراكم الذكي، حيث يتنامى الشعور بالاختناق واللاعدالة تدريجيًا. الأحداث هنا ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لكشف منظومة كاملة من العلاقات والقيم المختلّة، فتخرج من المسرحية وأنت تشعر أن ما قرأته لم ينتهِ عند الصفحة الأخيرة، بل ما زال يتحرّك في داخلك، بصمت ثقيل ومزعج
الشخصيات مرسومة بذكاء لافت؛ لا أحد منها بريء تمامًا، ولا أحد شرير خالص. كل شخصية تحمل مبرّراتها، مخاوفها، وطرقها الخاصة في النجاة. ما يميّزها ليس أسماؤها أو خلفياتها، بل أصواتها الداخلية، ذلك التردّد الخفي بين ما تعرف أنه صواب، وما تُجبر على فعله. الشخصيات هنا مرايا، نرى فيها المجتمع حين يتخلّى عن التفكير الفردي، ويذوب في قرار عام يُريح الضمير لأنه موزّع على الجميع. اللافت أن سعود السنعوسي لا يمنح شخصياته براءة كاملة ولا يدينها إدانة مباشرة، بل يتركها تتحرّك داخل منظومة خانقة، فتغدو تصرفاتها مرآة لضعف الإنسان حين يُحاصر بالخوف أو يُغرى بالأمان. هذا التوازن يجعل الشخصيات حيّة، قابلة للتأويل، وقريبة على نحو مقلق من الواقع. ومثال على ذلك: روّاد السوق بوصفهم الجوقة الشعبية، صوت الجماعة المتقلّب، الذي يراقب، يعلّق، يتفاعل، ثم يتراجع عند لحظة الاختبار. هم ليسوا أشرارًا ولا أبرياء، بل انعكاس للمجتمع حين يفضّل النجاة الفردية على المواجهة. كما تبرز شخصيات ثانوية مرتبطة بالقانون والحكم، كالقاضي أو ممثلي النظام، لتُظهر كيف يمكن للقانون أن يفقد روحه حين يتحوّل إلى نص جامد بلا عدالة. بهذه التشكيلة، لا تتحرّك الشخصيات كأفراد منفصلين، بل كأدوار داخل آلة كبيرة، كل واحد فيها يساهم عن قصد أو خوف في دفع الأحداث نحو مصير يبدو حتميًا، دون أن يُقال ذلك صراحة.
الزمن في النص دائري، خانق، كأنه ليلة طويلة لا تنتهي. لا ن��عر بتقدّم زمني تقليدي، بل بتراكم ضغط نفسي، حتى يصبح الزمن نفسه أداة عقاب. المدن والأسواق والساحات تظهر كرموز أكثر منها أماكن؛ فضاءات عامة يتحوّل فيها الإنسان إلى رقم، وإلى شاهد صامت على ما يحدث، أو مش��رك بالصمت. هذا التجريد المكاني يمنح العمل بعدًا كونيًا، ويجعل القارئ يشعر بأن ما يقرأه يمكن أن يحدث هنا، الآن، دون حاجة لتغيير التفاصيل.
أسلوب الكاتب يجمع بين البساطة والعمق بشكل لافت. اللغة مباشرة، واضحة، لكنها محمّلة بدلالات ثقيلة، تترك أثرها بعد انتهاء الجملة. الحوار هو العمود الفقري للنص؛ حوار ذكي، متوتر، يحمل في طيّاته سخرية سوداء تكشف هشاشة المنطق الذي يُبنى عليه العنف باسم النظام. لا توجد خطابات مطوّلة ولا شعارات مباشرة، بل جُمل قصيرة، حادّة، تشبه طرقات متتالية على ضمير القارئ.
الفلسفة الكامنة خلف النص هي فلسفة مساءلة لا إجابة. المسرحية لا تقدّم حلولًا، ولا تدّعي امتلاك الحقيقة، بل تضعنا أمام مأزق أخلاقي مفتوح: ماذا يحدث حين يصبح القانون أداة للطمأنينة الزائفة؟ حين تُغسل الأيدي من الدم لأن الجميع شارك؟ المعنى الخفي يتسرّب بهدوء: الخطر الحقيقي ليس في القسوة، بل في اعتيادها، وفي القدرة على تبريرها باسم المصلحة العامة.
كونها أول قراءة لي في أدب المسرحيات، جاءت التجربة مدهشة على نحو غير متوقّع. شعرت بأنني لا أقرأ نصًا، بل أشاهد عملًا حيًّا يتشكّل أمامي، وكنت أتمنى، بصدق، ألا تنتهي الصفحات. هذا النوع من النصوص يترك فراغًا جميلًا بعد الانتهاء منه، فراغًا يدفعك للتفكير، لإعادة القراءة، ولمساءلة أفكارك الخاصة عن العدل، والذنب، والمسؤولية. إنها مسرحية لا تُغلق عند آخر صفحة، بل تظل مفتوحة في الذهن، تؤدي عرضها الحقيقي داخل القارئ نفسه.
تنبع أهمية هذه المسرحية تحديدًا من قدرتها على تحويل حدث فردي بسيط في ظاهره إلى قضية إنسانية كبرى، تكشف هشاشة العدالة حين تُدار بعقل الجمع لا بضمير الفرد. هي مسرحية تضع المجتمع كلّه في قفص الاتهام، لا لتدين أشخاصًا بعينهم، بل لتفضح آليات التفكير، والخوف، والطاعة العمياء، وكيف يمكن للضحك والسخرية أن يخفيا تحتها أكثر الأسئلة إيلامًا عن الذنب والمسؤولية والحق. في هذه المسرحية لا يكون الخياط وحده على وشك الإعدام، بل المنطق، والرحمة، والقدرة على التفكير الحر، ولهذا تظل حاضرة وضرورية؛ لأنها تُذكّر بأن أخطر الجرائم لا تُرتكب بالسكاكين، بل بالأفكار حين تتوقف عن السؤال.
في ليلة إعدام الخياط، تتحوّل فكرة القانون إلى مهرجان من التناقضات، حيث تُقيم السلطة طقوس عدالتها فوق خشبةٍ أُعدّت سلفًا لإدانة البريئ. فالخيّاط المسكين لا يُستدعى ليُحاكم على جريمةٍ ارتكبها بقدر ما يُستدعى ليؤدّي دور "كبش الفداء التشريعي" في مسرحٍ يتقن توزيع الأدوار: فالسلطة تحكم باسم القانون، والقانون يُنفَّذ باسم السلطة، والجمهور يهتف باسم العدالة التي لا تُريد سوى أن تطمئن السلطة بأن نظامها مستمر.
السنعوسي ينسج من هذه الفوضى عرضًا مسرحيًا باذخ السخرية، تُستحضر فيه القوانين وتُلغى لتناسب مزاج طال عمرها، والفرمانات المتضاربة تُنبت مواطنين مشوَّشين، لا يعانون من غياب العدالة بقدر ما يخنقهم فائضها العبثي. الخيّاط مذنبٌ لأن الدولة بحاجة إلى مذنب، فهو وجهٌ عابر في كتالوغٍ لا ينفد من الأضاحي، لأن القانون في هذا العالم لا يطلب الحقيقة، إنما يريد ضحية أنيقة تُعلَّق على مشنقة النظام.
في هذا المسرح، لا بطل سوى السلطة: بوجهها البارد، ومنطقها المتناقض، وصوتها الذي لا يترك مساحة لغيرها. تتبدّل التهم كما تتبدّل الأقنعة، لكن البطولة تظل حكراً على من يملك العصا. فالخطأ ضرورة وطنية، والعقوبة عرض سياسي، تتقن فيه الدولة فنّ الإقناع بالتصفية.
وحين تُرفع المشنقة في المشهد الأخير، يتركنا السنعوسي أمام قناعةٍ مُرّة: بأن الذنب هو ما يُصدّق عليه القانون. والحقيقة تُصاغ في مكاتب الحكومة، والنجاة تأتي بالتكيّف المبتذل مع الخطأ الرسمي. كيف تحوّل القانون من ميزانٍ للحق إلى سوطٍ يُجلَد به الناس باسم الحق؟ وكيف قد يصير البقاء على قيد الحياة في مدينةٍ خانقة شكلًا آخر من أشكال العقوبة؟
كان أو ما كان في قديم الزمان مولاةٌ تُسنّ ألف ألف قانون .. وعقوبة كل الجرائمِ إِعدام ،،
لوحات بطابع الكوميديا السودَاء
الرمزية تحكم كل شيء: الجغرافيا غير محدّدة، الزمن يشبه «قديماً»، لكن القضية معاصرة : الفرد والمنظومة ، كل شخصية تحمل أبعادًا واسقاطات مُقننة. تقرأ بل تُشاهد حضوراً مسرحياً و تجربة مكثّفة. قصيرة ولكن تبقى في الذهن كأحد الأعمال التي عالجت قضية السلطة والقانون ، هنا خشبةٍ رمزية ومحاكمة تدعو فعلاً للعدالة .
"أنا اللِّصُّ الذي نَشَدَ الدِّفءَ والدفءُ يا سادتي لا يُسرق، لأن الدِّفءَ عادلٌ يُخجلك بسخائه إن أعطى، فيمنحُ الكُلَّ بالإنصاف.. أو يتركنا كُلُّنا للبرد لنموت".
قد تكون هذة أول مرة أقرأ في نص مسرحي، وسعيد بأن البداية كانت مع "السنعوسي" الذي لطالما أحببت قلمه وطريقته في الكتابة والتعبير وبناء النص، وقد كان هذا النص بوابة العودة للقراءة في سرد جديد "للسنعوسي" الذي مضى وقت طويل منذ أن قرأت له أي نص أدبي حديث أياً كان شكله، وقد كان مبهراً ومشوقاً وجديداً كلياً بكل تفاصيله ومنحنياته وصوره، وشعرت وأنا أقرأ فيه وكأنني أستحضر المشاهد الموجودة في النص على خشبة المسرح، وأن شخوص العمل يدورون أمام ناظريّ ناقلين شكل المشهد في النص بينما يتداولون حواراتهم أمام الجمهور الذي أنا واحدٌ منهم.
النص يأتي من مساحات غرائبية ومثيرة تشبه تلك الموجودة في حكايا وقصص الموروث الشعبي، تلك التي تتعدد شخوصها بين عالية القوم وأسفلهم، بينما تدور معظم المشاهد في سوق المدينة، وتجري تفاعلات النص بين أطراف عدة تتعدد أسمائهم ووجوههم ومهنهم بين مُهرة، أيوب، صاحبة الدار، الخيَّاط، النجَّار، الغجرية، البزَّاز، مولاتي الكبيرة، الوزير، البصَّاص وزميله البصّاص الأعمى، أفراد الشرطة، مُنادي القصر، الجوقة الذين هم رُوَّاد السُّوق، ويحضر كل هؤلاء ليلعب كل فرد منهم دوره في معترك النص، ونرى طابع الحيلة التي يلجأ إليها العديد من أفراد المسرحية للخروج من مأزقهم، بينما يعيشون تحت ظل حكم "مولاتي الكبيرة" التي تحكم أسواق المدينة وكل البلاد بقوانين صارمة وبعصا من حديد، بينما يسري الفساد السلطوي في خلفية المشهد العام، ويسعى كل فرد لتحقيق مصالحه الشخصية حتى وإن إستدعى ذلك ظلم الآخرين والإجحاف في حقهم ومصالحهم.
النص لذيذ وشهي وممتع، ولغة "السنعوسي" فيه سهلة وبسيطة وتأتي من غير تكلف، حيث تأخذك إلى تلك اللوحات المتعددة في النص دون أي تعقيد، فتشعر بأنك حاضر وسط العمل وأن تطوراته تنعكس أمام مرأى عينيك، وبأن كل تفاصيل الحياة التي تدور في نص المسرحية تجري على خشبة المسرح المتخيل في ذهنك بحيوية مذهلة، وبأن كل أطراف العمل أشخاص نابضين بالحياة، متجاوزين للخيال وصولاً إلى واقعك.
يقول النص أموراً كثيرة بسلاسة مطلقة، حول مفهوم العدل، والعيش في ظل حكومة متسلطة، وتعطش الشعوب المقهورة للموت والدم، واللجوء للحيلة للهرب من مصير محقق وللتمكن تجاوز النظام، والحقيقة الأزلية القائلة بأن البقاء للأذكى بخلاف الأقوى، وبأن المحتال لابد أن يلقى حتفه في يوم ما نتيجة أفعاله السيئة، وواقعية أن اللص لا يسرق إلا لحاجته، وأن "بلاد العجائب" هي بلاد يتشارك شعبها في جرم النفاق والتودد لمولاتهم بغية السلامة من بطشها حتى وأن كان ذلك على حساب المصلحة العامة، وأن الشعوب المقهورة لابد وأن يجيء اليوم الذي تنتصر فيه على من سلبها حريتها وحقوقها واستقلاليتها. صدقاً لقد كانت القراءة في هذا النص ممتعة بمجملها، ومدفوعة بحس التشويق والترقب بين لوحها الممتدة بإمتداد النص، فقد كان النص بحد ذاته بمثابة مفاجأة مثيرة بكل تفاصيلها وظروفها.
لمّا حضرنا لقاء توقيع ومناقشة الكتاب؛ كتب لنا سعود بالإهداء "أهديك هذه المسخرة المُرَّة!" ومع إني ما خلصت الكتاب وقتها لكن كان إهداء بمحله، واليوم يوم وصلت النهاية أقول: ونِعّم المسخرة! ❤️🔥
"أنا العقل الذي فر من رؤوسكم وسَكن الأزقة المظلمة"
المسرحية تجسيّد جميل للعبثية الفكرية من واقع نعيشه بشكل مخيّف :" مسرحية بأحداث وشخصيات رمزية حافلة بالإسقاطات!
ليلة إعدام الخياط.. مسرحية قصيرة تتجاوز المتعة والتسلية لتلامس قضايا لها معاني عميقة، تعكس الواقع، تثير الفكر، وتقدم رسائل هامة.. يبدو أنها تحمل في طياتها الكثير لا يعلمها إلا السنعوسي.
نص يبدو بسيطاً لكنه يحمل بين طياته أكثر مما نعتقد.. لم أقرأ الكثير في مجال الأدب المسرحي وبشكل عام لا يستهويني المسرح لكتها تجربة ممتعة وجدت فيها عناصر عدة كالشخصيات، الفكاهة، وحتى إدخال الرمزيات والأفكار بصورة مُبسطة كهذه استمتعت بها وجعلتني أفكر في العديد من التساؤلات والتي لم أجد حتى الآن جواباً لها..
تقييم الكتاب ⭐️⭐️⭐️ عنوان الكتاب: "ليلة إعدام الخياط" - للكاتب/ سعود السنعوسي عدد الصفحات: 114 صفحة دار النشر: دار كلمات للنشر والتوزيع . رأيي: "الكتاب عبارة عن مسرحية تدور أحداثها في قرية تحكمها امرأة تُدعى «مولاتي الكبيرة»، التي لا تتوقف عن إصدار القوانين لرعيتها، إلى أن تُصدر آخر قوانينها بجعل عقوبة أي جريمة هي الإعدام. بعد تطبيق هذه القوانين، يتعرض منزل أحد السكان لاقتحام من قبل شخص ملثم، فيتولى قائد الشرطة متابعة القضية سعيًا لتطبيق العدالة. فهل سيتمكن فعلًا من تنفيذ القانون كما هو، أم ستقف العوائق في طريقه؟
المسرحية جميلة وتحمل طابعًا رمزيًا ومعاني عميقة؛ إذ تكشف عن شخصيات تتفاوت مواقفها بين من يتهرب من القانون، ومن لا يعنيه سوى نفسه، ومن يستغل الأحداث لتحقيق مصالحه الشخصية، مقابل من يتمسك بالقيم الأخلاقية ويقف في وجه الظلم. كما تُسلط الضوء على جمهور يكتفي بالمشاهدة، باحثًا عن المتعة في معاناة الآخرين." .
هذه المسرحية تجربة تأملية في ماهية القانون والذنب والذات: ليست القضية هنا مجرد سلسلة أفعال ومعاقبات، بل لعبة وجودية تُظهِر كيف تَصوغ اللغةُ السلطوية (الدستور والأحكام، النصوص، التسميات) عوالم ممكنةً وتختزل الوجود إلى أدوارٍ يمكن اللعب بها أو خلعها.. القانون في المسرحية لا يكتفي بتنظيم الفعل، بل يشارك في صياغة الهوية، فيُعرّف من هو بريءٌ أو مذنب قبل أن تتكشف دوافع الفاعل، فيصبح الفعل انعكاسًا لهياكل أعمق من الأخلاق البسيطة، منها الجوع إلى الاعتراف، والبحث عن منزلٍ يَمنح معنى لذاتٍ مهجورة..
النص، بطابعه الهزلي الساخر والكوميديا السوداء، يتيح لنا رؤية السلطة كقماشٍ يُخاط وتُفصّل عليه مصائر الناس، فيُنتزع من القيم معناها حين تُستَخدم كأدوات انتقامية أو لملء فراغات اجتماعية، وهذا ما يجعل الخيط بين الضحية والجلاد هشًا للغاية.. من جهة أخرى، تطرح المسرحية سؤالًا فنّيًا وفلسفيًا عن الحدّ الممكن للمقاومة الأخلاقية: إلى متى يمكن للفرد أن يطوّع النصوص لأحلامه واحتياجاته قبل أن يتحول إلى آلية في ماكينة اجتماعية لا تترك مجالًا للحنان؟
وفي قلب هذا السؤال يقف الخيّاط كشخص يمثل الضمير العملي ..ليس كمصوّر مثالي للعدالة، بل كمن يقول إن للحياة متطلبات لا تُستعاد بالكلام وحده.. هذا الاستثناء الأخلاقي الذي يرفض تحويل الكرامة إلى بند في قوانينٍ تُكتب وتُلغى بحسب هواة الانتقام. وعلى مستوى البنية، تُوظّف المسرحية الرمزية والمشهد الجماعي لتفكيك فكرة المساءلة العامة: كيف يمكن لجسدٍ واحدٍ أو نافذة مكسورة أن تُطلق سلسلة محاكمات تُستَخدم فيها اللغة كسهمٍ لحشدٍ عام يبحث عن مشهدٍ يشبع رغبته في العقاب؟ كما أنها تذكّرنا بأن العدل عندما يُستثمر سياسياً يفقد بُعده الإنساني ويصير آلية للإقصاء، وأن النصوص القانونية نفسها قابلة لأن تُستبدل بالأخلاق المزيفة..
أخيراً، وبغضّ النظر عن مسارات الأحداث، تبقى القراءة الفلسفية للمسرحية دعوةً للتأمل في سؤال كلاسيكي لكنه مُعاد بصياغة معاصرة: أيُّ عالمٍ نَبني حين نُسند قرار المصير إلى نصوص لا تُقرن برؤية إنسانية؟
كنتُ لا أزال أعاود قراءة ثلاثية الأسفار للمرة الثانية، وما بين عنوانٍ وآخر قررتُ التنزّه في الصفحات الأولى من مسرحية (ليلة إعدام الخيّاط)، لأجدني أنهيها في جلستين!
على الصعيد العام، تبدو المسرحية المكتوبة عملاً يستنفر الحواس جميعها، تمايزُ الأصوات منح كل شخصية سمتها وأداءها، والحدوتة ذكية إلى درجة أنها مبنية على تصاعدٍ محسوب ودورةٍ محكمة وختامٍ شديد الإتقان، في هندسةٍ سرديّة ورؤية بصرية بديعتين.
الحوارات بما تحمله من قفشاتٍ ولمحات تُفجِّر الضحك، واللعبة مع الجموع، وحضور جوقة روّاد السوق، كلها منحت النص إيقاعًا نابضًا وحياةً صاخبة.
مسرحيةٌ في غاية الأناقة، ولقد رغبتُ، صدقًا، لو أنها كُتبت في زمن صقر الرشود، رحمه الله..
مسرحية اجتماعية مليئه بالرمزيات. النص تارة يضحك و تارة يجلب الحزن. بلدة غاب عنها العدل تحت ظل ملكه ظالمه مهووسة اعدام، تحكي المسرحيه عن الطبقيه، الاولويات ، الفقراء ،الشرطه والواسطات.
عندما اغتال لص منزل صاحب الدار و تم القبض عليه، فر من التهمه و القو القبض على صاحب البيت نفسه، ثم النجار الذي لم يُصلح النافذه،ثم الغجريه، ثم البزَّار ثم الخياط. ثم انتهى الامر بشكلٍ غير متوقع.
مسرحية بسيطه و سهلة القراءه لكن تحل في طياتها العديد والعديد من الاحداث و العُمق. كانت تجربه رائعه. و انصح فيها بشدة.
مسرحية ساخرة، تحمل الكثير من الإسقاطات السوداوية لعالمٍ ما عاد للمنطق فيه وجود، عالمٌ تحكمه السُلطة والسُلطة وحدها، عالمٌ تُقدّم فيه القرابين البشريّة للشارع الذي فقدَ المنطق بدوره بعد أن أضنته لقمة عيشه، فصار يبحث عن شماعة يُعلّق عليها سبب بؤسه، والسُلطة تنوّله الجزرة ليركض خلفها وتبقى هي، تمتص دمه دون أن يُلقي لها بالًا!
عمل تراجيدي مسرحي ممتاز ، حيث صراع الإنسان البسيط مع القوانين العبثية. كوميديا سوداء بطلها المجازي "الخياط" الثائر على سلطة اللامنطق. أول عمل مسرحي لنجم ساطع في عالم الرواية ، تجربة ناجحة بكل المقاييس الأدبية.