المرحلة الهلنستية هي أكثر المراحل أهمية من الناحيتين الدينية والروحية، في تاريخ البشرية (وهي المرحلة التي تلت وفاة الإسكندر المقدوني وانتهت بقيام الدولة البيزنطية أي ما بين 323 ق.م - 330 م) لأنها المرحلة الحاسمة التي تمَّ فيها التحول الكبير من الأديان المتعددة الآلهة إلى الأديان الموحدة، لكن الأمر لم يحدث بالبساطة التي نتصورها أو من خلال التاريخ الرسمي المعلن الذي نعرفه لهذه المرحلة كما تعلمناأو قرأناه أو فرض علينا.
لقد اكتشفت أن هناك حلقة مفقودة بين أديان التعدد (التي تسمى بقليل من الدقة بالديانات المشركة) وأديان التوحيد شغلتها تيارات دينية غنوصية بشكل خاص، وكان معها تيارات مسارية وهرمسية، هي التي بدأت بالتوحيد الباطني العرفاني (الغنوصي) السريّ على طريقتها فانبثقت من حضورها المؤثر هذا التوحيدية اليهودية ثم المسيحية، وجاء الإسلام في أعقاب هذا التأثير وفي وقت متأخر نسبياً، ولكنه كان ضمن دائرة التأثيرين المباشر وغير المباشر لها.
إن هذه الحلقة المفقودة التي تجمع المسارية والهرمسية والغنوصية هي البادئة بفكرة التوحيد العرفاني الباطني الخالي من الوحي، والتي تحملت عناء الاصطدام مع كتلتين كبيرتين: الأولى هي كتلة الماضي الصلد للأديان التعددية (المشركة!)، والثانية هي كتلة الأديان ذات التوحيد الظاهري الناشئة حديثاً والمؤمنة بالوحي، والتي انتعشت بفضل المناخ الروحاني والفلسفي الذي أشاعته المرحلة الهلنستية. وبعد صراع طويل تمكن التوحيد الباطني من الانتصار على الأديان المتعددة الآلهة، ولكنه فشل أمام الأديان التوحيدية الظاهرية الجديدة (غير العرفانية) التي أخذت التوحيد وجعلت منه شعاراً مميزاً وجعلته ظاهرياً لا باطنياً وأسبغت عليه صفة الوحي وهيأت له شرائع متزمتة أصبحت، مع الزمن، موجهة لعقائده وفازت بالتوحيد النهائي، ولكنها دمرت كل تلك الجذور الأولى التي بدأها التوحيد العرفاني (الغنوصي) ودمرت كل ما يمت بصلة للتوحيد العرفاني الباطني الذي تسلقت عليه وظهرت من خلاله.
هذا الكتاب محاولة لمعرفة ما جرى ومعرفة كيفية ظهور التوحيد الباطني العرفاني الذي سبق التوحيد السماوي أو الإلهي أو الوحييّ.
شاعر عراقيّ ولد في كركوك 1951 حاصل على شهـادة الدكتوراه في التاريخ القديم 1996 عمل في وزارة الثقافة والإعلام العراقية /دائرة السينما والمسرح لغاية 1998 ثم استاذاً جامعياً في جامعة درنة في ليبيا للفترة من 1998-2003 مدرسـاً للتاريـخ القديم وتاريخ الفن عـاد إلى العراق في آب 2003 كما أنه مؤلف مسرحيّ إضافـة إلى كونه مؤلفاً لأكثر من عشرين كتابـاً في المثولوجيا والتاريخ القديم والأديان القديمة ويقيم الان في هولندا.
احد أكبر الأشكالات التي يقع فيها الفكر الديني هو معالجتة للصيرورة التاريخية من خلال منظومتة الفكرية الخاصة, وفي العادة تحمل هذه المنظومة رؤية ذاتية متعالية على بقية التجارب الأنسانية, بحيث تخلق منظومة فكرية مركزية يكون معبود هذه الديانة وتجربتها الثقافية والسياسية الخاصة هي المنظار التي يُرى من خلالها حركة التاريخ وتفاعلاتة, وقد أستعرضت سابقا في المجلة كتاب بعنوان ( البلاط والمجتمع الأسلامي وعلم التأريخ) قام مؤلفة بتبيان هذه الاشكالية بشكل مفصل من خلال دراسة تطبيقية على كتب التاريخ الأسلامي التي ألفت منذ القرن الأول وحتى القرن السابع الهجري, لكن مع تطور العلوم في القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين أستطاع علم التاريح أن يتحرر من سلطة الدين والسياسة وبدء في تطوير مناهجه الخاصة, مستفيداً من تطورعلوم أنسانية وطبيعية أخرى كعلم الاديان والميثولوجيا والانثروبولوجيا والاركولوجيا والأقتصاد والنفس واللغة والجينات والأمراض والأجتماع وغيرها, وهو ما ساعد المؤرخين على تحقيق وغربلة المواد التراثية لأعادة أستنطاق التاريخ بعيوان الواقع الذي كان عليه الأنسان في تلك الحقبة, متجاوزة بذلك نظرة الدين القداسية أو نظرة السياسة السلطوية على التاريخ, في هذا المجال يبرز خزعل الماجدي كواحد من ألمع الباحثين التاريخين الذين أثروا المكتبة العربية ببحوث تاريخية ودينية وأدبية غزيرة ناهزت الخمسين مؤلفاً حتى الأن وما زال مشروعة مستمراً, وضف خزعل الماجدي ثقافتة الموسوعية في حضارات ما بين النهرين وأديان العالم القديم وكل ما وصلت له العلوم لاعادة كتابة تاريخ جديد للأنسان يستعرض التاريخ والاديان كحركة من الأفكار والثقافات والهجرات البشرية التي تنمو وتصعد وتزهر ثم ما تلبث أن تتعقد بنيتها الفكرية وتتشابك مع أشكال ونماذج أخرى, فتتحور هذه المنظومة القديمة مع الزمن أو تتفسخ وتذوب في داخل منظومات جديدة أكثر حيوية وأستيعاباً لتغيرات الواقع الأنساني, أستعرض في هذا المقال القصير كتاب خزعل الماجدي الأخير ( كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد) الذي صدرت طبعتة الأولى في عام 2014 عن المركز الثقافي العربي بالتعاون مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
تبرز قيمة الكتاب في معالجتة لملابسات الحقبة الهيلينستية التي يعتبرها الباحث أحد أعظم فترات التحول التاريخي التي قادت الفكر الأنساني إلى تخوم جديدة, لكن هذه الحقبة ظلت معالمها مجهولة لعدة أسباب أهمها ولادة ديانات عالمية كبرى كالمسيحية والأسلام أحتكرت كتابة التاريخ وهمشت او قمعت كل أشكال الاعتقدات والأفكار السابقة, هذا التهميش للديانات والمعتقدات المحلية أدى إلى أضمحلالها وذوبانها في كيانات دينية اكبر ,كما لا يغيب عن ذهن القارئ كم التشابك والتعقيد بين منظومات الاعتقاد التي كانت رائجة في الحقبة الهيلينستية وندرة المصادر التي تحدثت عنها ,مما يجعل مهمة الباحث التاريخي الذي يريد رسم حدود فاصلة لتطور بنية كل معتقد أقرب لمن يبحث عن أبرة في كومة قش. لكن البحث التاريخي في هذا المجال يتقدم كل يوم بتوفر معطيات جديدة تقدم صورة أوضح عن واقع الحياة الفكرية والثقافية للحقبة الهيلينستية, وحتى يتمكن الماجدي من الابحار في هذا البحر الزاخر بالعقائد والفلسفات والمؤثرات فقد بدء في كتابة بأستعراض الظروف السياسية التي رافقت نشوء هذه الحقبة وأهم تطوراتها.
الحقبة الهيلينستية هي أصطلاح تاريخي يؤرخ للفترة التي بدء فيها الأسكندر الأكبر فتوحاتة في الشرق وتأسيسة لأمبراطوريتة المترامية الأطراف التي جمعت بين الشرق والغرب لأول مرة, ومن ثم أنقسامها بين قوادة بعد وفاة الأسكندر المفاجأة وهو في قمة مجدة وعطاءة, من الناحية اللغوية فكلمة هيلينستية ( Hellenistic ) مشتقة من الأصل هيليني Hellen أو أغريقي نسبة إلى بلاد اليونان التي خلعت بعد ذلك ثقافتها على الحضارة التي سادت فيها الثقافة الأغريقية في العالم الشرقي, فتكون ترجمة كلمة هلينستية أقرب الى (الأغرقة) أو ( العصر المتأغرق), على الرغم أن المؤرخون يحددون الفترة الزمنية للحضارة الهلينستية بين وفاة الأسكنر في سنة 323 ق.م الى سنة 30 ق.م بعد ان سقطت مصر البطلمية بيد الرومان الذين حلوا محل الأغريق في الشرق, فأن الماجدي يخالف هذه الفكرة ويمد العصر الهلينستي الى سنة 323 م مع بداية أعلان الأمبراطور قسطنطين المسيحية كديانة رسمية للدولة الرومانية, والسبب الذي دفع الماجدي الى أتباع هذا النهج هو أستمرار الطبيعة المتجانسة للثقافة والعبادة الهيلينستية حتى مع قدوم الرومان للمشهد السياسي, لكن لمزيد من التفصيل فالماجدي يضع تقسيم جديد للفترة الهيلينستية في الشرق يفصلها إلى حقبتين متمايزتين : الهيلينستية والرومانستية, فالفترة الهيلينستية أستمرت من وفاة الأسكندر في سنة 323 ق.م الى سنة 30 ق.م , حيث سادت فيها الدولة البطلمية في مصر وكانت عاصمتها الأسكندرية, والدولة السلوقية في سوريا والعراق وأسيا وكانت عاصمتها أنطاكية ,والدولة المقدونية في بلاد اليونان ومقدونيا , والدولة البرجامية الصغيرة في أسيا الصغرى , لكن مع قدوم الرومان الذين كانت عاصمتهم روما وأكتساحهم لكل العالم الهلينستي القديم بدئت معه الحقبة الرومانستية من سنة 30 ق.م إلى سنة 323 م ,على الرغم من هذا التغير السياسي بقيت الثقافة والديانات والفلسفات الهيلينستية الأغريقية سائدة وتتفاعل في ما بينها حتى تحولت فيها روما إلى المسيحية وبدئت الحقبة الرومانية البيزنطية, ومع هذا التحول أُسدل الستار على الحقبة الهلينستية التي كانت المصهر التي شكلت عبر عقود من الزمن الحاضنة لتطور فكرة التوحيد الدينية مستفيدة من تخمر فكرة العولمة والأممية والكوزموبوليتية السياسية.
بعد استعراض أهم الأحداث السياسية التي صاغت معالم الحقبة الهيلينستية يعمد الماجدي الى أعادة رسم خريطة منظومات الأعتقاد المتعددة في الشرق والغرب وكيف تفاعلت فيما بينها وتداخلت مدفوعة بالتغييرات السياسية المصاحبة, من أجل ذلك يقسم الماجدي مراحل تطور الدين إلى ثلاث أقسام أساسية هي التعددية والتفريدية ومن ثم التوحيدية ويفرد بقية الكتاب لاستعراض أهم ملامح كل مرحلة والتحورات التي طرأت عليها, في المرحلة التعددية التي تميزت بديناميكة أعتقادية تعددت فيها المعبودات وأختصاصتها حسب البيئة المحلية بل شهدت أعادة توطين لكثير من المعتقدات الشرقية في منظومات الاعتقاد الأغريقية, فكانت بقايا الالهة المصرية والرافدينية والفارسية والفينيقية والكنعانية والاغريقية بشجرات أنساب ألهتها المتباينة تعزف سيمفونية أعتقادية غنية يمشي على أنغامها جموع المريدين في كل هذه المناطق التي عرفت أستيطان بشري منذ فجر التاريخ,لكن على الرغم من هذه الموزاييك الدينية الظاهرة فأنه في الوقت نفسة كانت هناك منظومة موازية تعمل بشكل باطني يحيطها الكثير من أجواء الغموض والسرية, وهي تعتبر الحاضنة التي تم فيها أعادة توجية أديان التعدد لتدخل المرحلة التفريدية, يقول الماجدي في صفحة 177 ((هذه التيارات الدينية السرية الباطنية كانت تسري تحت القشرة المعلنة للأديان التعددية والتفريدية, وكانت قد أبتكرت نوعاً من التوحيد الباطني الذي كان حكراً على جماعات سرية صغيرة كانت تمارس طقوسها وتعاليمها بحذر شديد)), في الجانب الشرقي تمثلت هذه التيارات الباطنية التوحيدية بشكل أساسي في المسارية والهرمسية والغنوصية وفي الجانب الأغريقي يمكن تلمس مظاهرها في فلسفة أفلاطون وفيثاغورث بشكل أساسي.
يُرجع الماجدي الشكل البذري للأديان الباطنية سواء المسارية أو الهرمسية أو الغنوص إلى الفترة السومرية القديمة من خلال طقوس عبادة الإله الراعي (دموزي) والذي أنتقل لاحقاً إلى الكلدانيين والبابليين وعرف بالإله (تموز), ودموزي هو أصل طقوس المناحات والندب والأسرار المسارية من خلال أسطورتة الشهيرة مع (إنانا) ونزولة إلى العالم السفلي وموته الفجائي ثم صعودة للسماء, وهذه الدورات الثلاث (الأرض, العالم السفلي,والسماء) تشبه دورة النفس أو الروح, فضلاً عن كونه أله الخلاص والمنقذ المنتظر كل عام , في أحد فرعيها تحورت طقوس هذه العبادة إلى الهرمسية المنسوبة إلى الشخصية الأسطورية هرمس مثلث العظمة أو المعظم ثلاثاً أو مثلث النعم أو مثلث الرحمة وهي كلها ألقاب جمعت ل(هرمس) لانه جمع بين النبوة والحكمة والملوكية, وعرف هرمس حضورا في بلاد بابل من خلال شخصية باني مدينة بابل ,وفي مصر من خلال شخصية (أمحتب) باني الأهرام, وفي حران من خلال شخصية (بوذاسف) باني هياكل النجوم, وفي العربية من خلال شخصية (أدريس) المرفوع للسماء ,وفي الفارسية من خلال (أبجهد) جد أدم ,وفي بلاد الأغريق من خلال شخصية (هرمس) رسول الالهة وأبن زيوس ,وفي الهند من خلال شخصية (بوذا),يمكن تلمس طقوس الهرمسية بشكلها الظاهري في الديانة الزرادشتية وبشكلها الباطني في فلسفة أفلاطون, وهذه الاشكال القديمة من طقوس التنجيم والخيمياء الشرقية أمتزجت في الفترة الهلنستية بالفلسفة الأفلاطونية لتقدم الهرمسية بشكلها الختامي كما صورتها نصوص (الهرمس طوط) المصرية والمدونة الهرمسية اليونانية (بوامندريس)*, في الجانب الأخر تطور فرع أخر من عبادة (دموزي) تمحور حول طقوس التطهير وعبادات الأسرار والقرابين, والشكل الظاهري لهذه النوعية من العبادات يمكن تلمسه بوضوح في طقوس العبادة الاورفية في اليونان القديمة التي كانت تُكرس للإله (دينيسيوس) وتتخللها عروض غامضه تبلغ حد التهتك والأنحلال, والشكل الباطني لهذه العبادات يمكن تتبعه في مدرسة فيثاغورث الفلسفية التي أكتنف تعاليمها ومناهجها أسوار من السرية والطقوس الغامضة, وهذان الشكلان الظاهري والباطني هو الذي شكل خلال الحقبة الهلينستية ما عرف بالمسارية أو ديانة الأسرار, لكن هذا التفاعل لم يتوقف عند هذا الحد بل أستمر في التمازج والتداخل بين الهرمسية والمسارية ليولد في الفترة المتاخرة من الهلينستية الشكل الغنوصي ليكون بمثابة جهاز معرفي وفلسفي متكامل للحياة,وتعاليم الغنوصية ترتكز بشكل أساسي حول أسطورة الخلاص من الخطيئة من خلال المعرفة , وهي رؤية باطنية يمكن تتبع مظاهرها في كثير من الأديان والفرق والفلسفات المعاصرة كما هو موضح في الصورة.
وهذا التشريح التاريخي الذي قام به الماجدي لتحديد عوامل االتطور الفكري منذ أقدم العصور وحتى الحقبة الهلنستية يرسم خريطة تساعد على فك بعض التشا��ك الذي أتسمت به أديان ومعتقدات حوض البحر البحر المتوسط, لكن يبقى فهم الآلية التي سارت فيها هذه العملية مهم لفهم النمط الحالي من الأفكار والمعتقدات التي صاغتها التيارات الباطنية القديمة خلال المرحلة الهلينستية التفريدية, وهي التي يمكن أن يطلق عليها الحلقة المفقودة التي حمل الكتاب عنوانها, ففي هذه المرحلة المفصلية من التاريخ ,ومدفوعة بفكرة العالمية التي جائت مع الفتوحات الأسكندرية, وبالنزعة التوحيدية في الهرمسة والمسارية والغنوصية بدء نوع من الأنتخاب وسط العدد الكثيف من المعبودات المحلية بحيث يتم عبادة إله معين وجعله مركز الآلهة او سيد الآلهة,فالأسكندر الأكبر عندما دخل مصر عمد إلى مزج معبود الاغريق (زيوس) الذي كان يُمثل بصورة رجل كبير كث اللحية, بمعبود مصر القديم (أمون) الذي كان يمثل بصورة كبش ذو قرنين معقوفين, فجاء الشكل التفريدي الجديد لزيوس وأوزيريس على شكل رجل كث اللحية وعلية قرني كبش معقوفين عرف بأسم (سرابيس), كما أن الأسكندر نفسة قد تم تكريسة على يد كهنة معبد أمون في واحة سيوة المصرية بأعتباره أبناً لأمون, حيث رسمت صورتة على العملات النقدية بشكل رجل أغريقي عليه قرون كبش, وهو ما رسخ لاحقاً أسطورة ذو القرنين الذي ربما وصلت قصصه وعملاتة إلى أرض الجزيرة العربية, خصوصا وأن معبد أمون بواحة سيوة كان يوجد به نبع ماء يسمى (نبع الشمس) الذي كرس أيضاً أسطورة ذهاب الأسكندر للعين الحمئة, كما يمكن تتبع العملية التفريدية في اليهودية من خلال تطور فكرة الاله (يهوه), الذي كان في البداية مجرد أله محلي من ضمن الالهة الكنعانية المتعددة التي عبدها اليهود, لكن بعد السبي البابلي وظهور أنبياء ما بعد السبي الذين أحتكوا بالنزعات الباطنية في بلاد ما بين النهرين, جعلوا من الإله (يهوه) إلها قومياً خاصاً باليهود, ثم تتابعت العملية التفريدية وأضفوا علية الصفات العالمية والكونية في مرحلة متأخرة,هكذا نرى أن الفضاء المفتوح الذي وفرته الحقبة الهلنسيتية ضلت تعمل فيه الأفكار التوحيدية الباطنية من هرمسية ومسارية وغنوصية (التي كانت فكرية ونخبوية في طبيعتها) على أديان التعدد لتمر بها أولا للمرحلة التفريدية ثم تنتج في النهاية الشكل التوحيدي الظاهري للأديان اليهودية والمسيحية والأسلام ذات الشكل الشعبي**, في الفصل الاخير من الكتاب خص الماجدي الديانة المسيحية بشيء من التفصيل لتبيان الأثر الغنوصي العميق الذي رافق بداية نشوئها كما رسمتها الأناجيل غير القانونية (الأبوكريفا) التي لم تعترف بها الكنيسة وهي كثيرة العدد.
على الرغم من الأهمية المعرفية لهذه النوعية من البحوث التي كرس الماجدي لها حياتة الاكاديمية ألا أن القارىء لهذا الكتاب سيجد تشعب وكثافة في المادة محل البحث وعدم ترابط في بعض أجزائها, فعلى الرغم من الجهد المبذول لتحديد معالم الاشكال الدينية الباطنية في الشرق وأهم تعاليمها ألا أن هناك تداخل كبير بينها بشكل يصعب التفريق بينها في بعض الاحيان, كما سيجد القارئ في الكتاب بعض من عدم التنظيم في النقلات الزمنية, كما ان اخراج الكتاب يحتاج لأعادة مراجعة ليكون اكثر تنظيما حيث تجد مواضع يسهب الماجدي في تفصيلها ومواضع يتركها بلا تفصيل, وهذا ربما ناشء من ندرة المصادر والسرية الشديدة التي رافقت طقوس هذه الأديان وعدم وجود مرجعية فكرية واحدة أو منظومة هرمية واضحة شكلت بنيتها عبر الزمن, كما ان الماجدي أسهب في تفصيل المرحلة التفريدية التي عملت فيها الغنوصية على خلق منظومة الاعتقاد في الديانة المسيحية في حين نجد هذه المعلومات شحيحة في ما يتعلق بالأسلام واليهودية, لذلك نجد الماجدي يشير في أخر فقرة من كتابة ان هذا المحور سيخصص له كتاب مستقل, على الرغم من هذه الملاحظات الفنية يبقى كتاب (الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد) لخزعل الماجدي أضافة ثرية للمكتبة العربية المتعطشة لهذا النوع من البحوث ,كما أن الابواب التي طرقها الماجدي في الكتاب تعطي مؤشر لحجم الغموض الذي ما يزال يلف جوانب الحياة في حضارات الشرق القديم على الرغم من الجهود الاثرية والبحثية المبذولة حتى الأن, إلا أن هذا المجهود ما يزال متواضع مقارنة بكمية المواد الاثرية والمخطوطات التي ما زالت تقبع في المتاحف وتحت ركام المواقع الأثرية وتنتظر من يفك أسرارها ليربط الحلقات المفقودة في تاريخ الشرق القديم والحديث.
*تجد شيء من المعلومات حول الهرمسية ومذاهبها في كتاب أبن وحشية النبطي من القرن الرابع الهجري بعنوان ( شوقُ المُستهام في معرفة رموز الأقلام) في صفحة 150 ,طبعة دار الجمل, تحقيق جمال جمعة.
** يمكن تلمس هذه المراحل الثلاثة من التعدد والتفريد والتوحيد في الديانة الهندوسية الأن, حيث ُتشكل المعبودات المحلية الكثيرة الشكل التعددي من الديانة, والشكل التفريدي يتوضح في حصر السلطة الالهية بين ثلاثة ألهه رئيسية : برهما (الخالق), فشنو (الحافظ), شيفا (المدمر), وفي الشكل التوحيدي من الهندوسية يمكن رؤيتة في الجانب الفلسفي العميق الذي يؤمن بوحدة كل شيء في النفس الكلية أو الأتمان (Eternal Soul).
المفترض بهذا الكتاب أن يُبين الرابط بين الديانات الوثنية والتوحيد، أي متى تحول البشر من عبادة آلهة عديدة إلى إله واحد؟ التطوريون عمومًا يَرَوْن أن البشرية تطورت من الوثنية إلى التوحيد، على اعتبار أن التوحيد أكثر تطورًا من الوثنية ( هذا رأي قديم ولا أعلم إذا ما زال له أي قيمة علمية بالحاضر) لكن المؤلف يخفق في تبيين هذه الحلقة فهو يستهلك جل الكتاب ليهلك وقتك وعقلك بتفاصيل دقيقة عن الأديان الغنوصية والهرمسية وديانات الأسرار. هذه التفاصيل لا علاقة لها بموضوع الكتاب لا من قريب ولا من بعيد، وإنما استعراض غير ذي معنى الا لزيادة عدد صفحات الكتاب. هذا زيادة على ركاكة أسلوب الكاتب فهو يقحم الكثير من الفقرات بلا معنى، ولا تسلسل منطقي. أيضًا تكراره الممل لبعض الأفكار، كأن يضيف ( وهي ديانة تفريدية وليست توحيدية) في كل مرة يذكر فيها اليهودية، أو( أصل التوحيد الباطني ) لكل مرة يذكر فيها الغنوصية. هذا غير ضعف المراجع ( ويكيبيديا، مقالات صحف، مواقع منتديات) ورسومات غير واضحة وأخطاء إملائية. برأيي أنه يجب إعادة كتابة هذا الكتاب بطريقة أكثر احترافية ليصبح مؤهل للقراءة، فهو بالشكل هذا يثير الارتباك للقارئ
في أخطاء كتير أوي في كتاب خزعل الماجدي "كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد"، خصوصا في كلامه عن أفلوطين، وفي مصطلحاته كمان. أيضا يقتبس نص يدعي إنه من المدونة الهرمسية المصرية، ويحيل إقتباسه إلى كتاب "متون هرمس: حكمة الفراعنة المفقودة"، من تأليف: تيموثي فريك وبيتر غاندي، الي انتقدت أنه تجميعة قائمة على القص واللزق قام بها المؤلفان من من 5 مصادر مختلفة. والمصيبة الثانية ان الإقتباس بيتكلم عن "أتوم" ولو كان هو كلف نفسه وقرأ الكتاب الي بيقتبس منه حيلاقي أن المؤلفان بيقولوا بوضوح في ص 31 أنهم استبدلوا كلمة "الإله" في النص الأصلي بكلمة "أتوم" حتى يتحرر القاريء من الارتباطات المبنية على كلمة إله.
عندما قرأت كتاب "البحث عن جذور الإله الواحد"، للباحث فالح مهدي، كانت من أهم وأكبر مؤاخذاتي عليه، عدم تحدثه أبدا تقريبا، عن تاريخ الممالك في العصر القديم (وهو أمر له أهمية بالغة في البحث في تاريخ الأديان). ولكن، وأثناء قراءتي هذا الكتاب للدكتور الماجدي، وجدته يتحدث عن ذلك بتفصيل وإسهاب، بل وأكثر من ذلك، فهو يدرس التاريخ السياسي والديني أيضا، ولا يقتصر على أحدهما دون الآخر، وهذا أمر يُحسب إليه وبقوة.
ولكن، مما يُحسب ضده -وبالقوة ذاتها-، هو التكرار الزائد عن حده في الكتاب للكثير من الأفكار، والتركيز المبالغ فيه على السرد التاريخي (ومن دون ذكر المصادر بالطريقة السليمة)، بدلا من السرد التحليلي والمنطقي. أما عما أشرنا إليه حول المصادر، فهو من أشد الأمور التي استفزتني وأغضبتني في الكتاب؛ فهو، بدلا من أن يذكر الإسم الكامل لمؤلف الكتاب الذي يستشهد به، ومن ذكر عنوان الكتاب (الذي هو أمر أساسي)، يكتفي، بطريقة مستفزة (بل مزعجة وغبية إلى حد ما)، بوضع قوس بهذه الطريقة (النشار 1995: 83)! حيث يذكر لقب الكاتب؛ وسنة نشر الكتاب، والصفحة التي يستشهد منها، دون ذكر حتى عنوان الكتاب! وبذلك، فإنك إن أردت معرفة عنوان الكتاب، فعليك أن تعود إلى قائمة المراجع في آخر الكتاب، لتبحث عنهةوتطّلع عليه! ما عدا ذلك، فهو كتاب جيد ويستحق القراءة، ويفتح آفاقا للبحث لدى القارئ.
يلاحظ المتتبع لتاريخ الأديان المقارن -بامنظوره العلمي- التقارب الكبير والترابط الذي يصل الى حد التشابه في بعض الأحيان بين الأديان، وكيف أنها منذ نشأتها مع الإنسان العاقل وهي تمضي في سيروره وحلقة تطورية مترابطة مفادها فهم الوجود وما الذي سيحدث بعد الموت، إلا أن الثغرة التي افتقدتها تلك السلسة المترابطة للأديان هي الحلقة أو التحول الذي حدث من أديان التعدد الى أديان التوحيد، تلك الحلقة -حسب الماجدي- ظلت مفقودة الى جاء الحديث ليظهرها ويدرسها دراسه مختبرية تاريخية.
يحاول الماجدي في هذا الكتاب تتبع تلك السلسلة المترابطة للأديان ونشوء الفلسفات والأفكار ومدى تأثيرها على الأديان المتأخره بل أن بعض الفلسفات كالفيثاغورية والأفلاطونية تعتبر الرافد و المؤسس لمذاهب دينية متعدده. تتحور الأديان وتتشكل حسب الثقافات المتتالية في صيرورة تاريخية مستمرة أوصلتنا من أديان تعدد الآلهه الى أديان التفريد ثم أديان التوحيد.
في استمرار البحث تتكشف المعالم الرئيسية وتلك الحلقة المفقودة التي انتقلت فيها الأديان الى التوحيد بدايةً مع العصر الهلنستي ودخول الفلسفة الأغريقية وعولمتها أي تحويلها الى ثقافة عالمية اجتاحت العالم ككل حتى أن مسميات الأشخاص والمدن أخذت الطابع الهلنستي. مع دخول الفلسفة وارتباطها بالدين من خلال الافكار التي أسس لها سقراط وأفلاطون ولاحقاً أفلوطين أوجدت سلسلة من الأفكار وبرتباط هذه الأفكار مع المعتقدات الشرقية القديمة ظهرت ديانات مثل الهرمسية والمسارية والغنوصية بدورها مهدة الطريق جيداً وثبتت القاعدة الأساسية لأديان التوحيد التي جائت بعدها.
لعل ماساهم في ضياع تلك الحلقة -حسب الماجدي- هي المحاولة الشرسة من أديان التوحيد للقضاء وإمحاء كل ماقبلها من ثقافات وأديان وفلسفات حتى تأسس وتنفرد هي وحدها بفكرة الوحي كحقيقة مطلقة لاتشوبها شائبة. أول من فعل ذلك اليهودية ثم المسيحية التي مهدة بدورها الفكرة لظهور الإسلام على انقاض المانوية والمندائية والزرادشتية والذين أطلق عليهم فيما بعد الزنادقة والهراطقة والمجوس.
رغم أن أفلوطين السكندري كان وثنياً إلا أن أثره كان كبيراً على الديانة المسيحية وقد أخذ عنه القديس أوغسطين ووضع على ضوئه الأفلاطونية المسيحية، وكانت فلسفة أفلوطين أساس الثالوث المقدس إذ ظهرت الأقانيم الثلاث (الآب، الإبن،الروح القدس) متكافئة مع أقانيم أفلوطين (الواحد، العقل، النفس) وأثر أفلوطين كذلك على العرب المسلمين في فلسفة المبدأ الأول والفيض والنفس وتأثر بها الكندي، الفرابي، ابن سينا واخوان الصفا
خزعل الماجدي رجل علم لا يشق له غبار في مجاله، مطلع بشكل جيد على كتابات الباحثين و الاكتشافات و اللقى الأثرية كما انه يحرر أبحاث رصينة في هذا الحقل المعرفي. غير انه هنا يدلس أو يقع على أم رأسه في مغالطة المصادرة على المطلوب. بدل أن يثبت أن هناك تسلسل لتطور الأديان من التعدد (الذي رفض أن يسميه شركا) نحو التوحيد المحض، يكتفي بافتراض وقوع هذا و يكتفي بالبحث عما يسميه الحلقة المفقودة و هنا يجد نفسه ملزما بالبحث في الفترة الهلنستية كي يتسق كل هذا في كتاب...... ألم يتحصل العلماء على ما يكفي من الأدلة التي تتتبث أن إنسان ما قبل التاريخ كان موحدا؟ (فكرة الروح الكونية التي تسكن كل الكون) خلاصة الكلام أن خزعل الماجدي مُغرض، فالرجل متحمس للإلحاد و مثابر على محاولات تقويض الدين على العموم و الإسلام بشكل خاص و هذا يخدش نزاهته العلمية.
هناك الكثير من أتباع الديانات التوحيدية ينظرون للأديان التعددية بشكل فيه إزدراء وحيف بل ويعتبرون أنفسهم أصحاب الحقيقة المطلقة ، وينسون أو بتناسون أن التوحيد ولد من رحم التعددية وبأنه كان ضرورة لتوحيد شعوب الإمبراطورية الرومانية ولم يكن ترفا ولا إختيارا بل كان حتمية تاريخية لابد من عولمة الدين وجعله عالميا ينقلنا الكاتب حول المراحل والمحطات التاريخية التي جعلت الأديان التعددية تفقد بريقها وفي المقابل سبب سيطرة الأديان التوحيدية وتبني الإمبراطوريات للتوحيد لكي يسهل السيطرة على الشعوب متعددة الأعراق تحت شعار : «حاكم واحد ودين واحد وإله واحد»
يبحث الكاتب في علاقة الفلسفة الاغريقية وتأثيرها علي اديان الشرق القديمة وانتقالها من التعددية الي الوحدانية والاستقلال الي الديانات الابراهيمية المختلفة ، سرد الكاتب للبحث ليس افضل شيء واعتقد كان من الممكن ترتيب السرد ليسهل علي القاريء تلقي وجهة النظر دون تشتت او عدم تركيز ، بجانب ذكر الكاتب لويكبيديا كمصدر في بعض فقرات الكتاب وللامانه هي قليلة جدا وهذا غير مستحب في الاعمال البحثية ، تجربة اولي للقراءة لأعمال الكاتب خزعل الماجدي وتقييمها جيدة
كتاب جميل يتحدث عن تأثير ديانات العصر الهلنيستي في نشوء ديانات التوحيد و يتحدث عن بعض أفكار الفلاسفة كافلاطون التي كان لها دور كبير في الافكار التوحيدية إضافة الى ذلك فهو يناقش فكرة تشابه المعجزات و قصص الالهة القديمة في الديانات التعددية و الديانات التوحيدية