يشتمل كتاب المعارف لأبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى سنة ٢٧٦هـ) على فنون كثيرة من المعارف أولها: مبتدأ الخلق وقصص الأنبياء وأزمانهم وأعمارهم وافتراق ذراريهم ونزولهم بمشارق الأرض ومغاربها ، وأسياف البحار والفلوات والرمال ، إلى أن يبلغ زمن المسيح والفترة بعده ، ووصل ذلك بذكر أنساب العرب مختصرا ذلك ، ومختصرا على العمائر ومشهور البطن. ثم أتبع ذلك أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبار العشرة من المهاجرين . ثم الصحابة المشهورين ، ثم الخلفاء ، ثم التابعين. وذكر المساجد المشهورة كالكعبة وبيت المقدس ، ومسجد المدينة وغيرها. وأخبر عن الفتوح وغيرها من المواضيع الغني بها الكتاب مما لا يمكن حصره.
أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينورِي. عالم وفقيه وأديب وناقد ولغوي، موسوعيُّ المعرفة، ويعد من أعلام القرن الثالث للهجرة. ولد بالكوفة، ثم انتقل إلى بغداد، حيث استقر علماء البصرة والكوفة، فأخذ عنهم الحديث والتفسير والفقه واللغة والنحو والكلام والأدب والتاريخ، مثل أبي حاتم السجستاني وإسحاق بن راهويه وأبي الفضل الرياشي وأبي إسحاق الزيادي والقاضي يحيى ابن أكثم والجاحظ، ولهذا اعتبر ابن قتيبة إمام مدرسة بغدادية في النَّحو وفَّقت بين آراء المدرستين البصرية والكوفية. كما عاصر قوة الدولة العباسية، وصراع الثقافات العربية والفارسية والأجناس العربية وغير العربية، وما أسفر عنه من ظهور الحركة الشعوبية ومعاداة كل ما هو عربي. كما عاصر صعود الفكر الاعتزالي وسقوطه. فكان لكل ذلك تأثيره في معالم تفكيره، وتجديد موضوعات كتبه كما يظهر في مؤلفاته. اختير قاضيًا لمدينة الدينور، ومن ثم لقب بالدينوري. وفي عهد الخليفة المتوكل العباسي، الذي أزال هيمنة فكر المعتزلة، عاد ابن قتيبة إلى بغداد، وشهر قلمه وسخره لإعلاء السنة وتفنيد حجج خصومها، وبذلك استحق أن يقال: إنه في أهل السنة بمنزلة الجاحظ عند المعتزلة. وفي بغداد اشتغل بالتدريس، فتتلمذ عليه خلق كثيرون، رووا كتبه، ونقلوا إلينا علمه مثل: ابن درستويه، وعبد الرحمن السكري، وأحمد بن مروان المالكي، وأبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان وغيرهم. وأهل السنة يحبونه ويثنون عليه، ويعدونه إمامًا من أئمتهم كما فعل الخطيب البغدادي والحافظ الذهبي وابن تيمية. مؤلفاته متعددة، وتشمل موضوعاتها المعارف الدينية والتاريخية واللغوية والأدبية، ومن أشهر مؤلفاته: تأويل مشكل القرآن؛ تأويل مختلف الحديث؛ كتاب الاختلاف في اللفظ؛ الرد على الجهمية والمشبهة؛ كتاب الصيام؛ دلالة النبوة؛ إعراب القرآن؛ تفسير غريب القرآن. ومن كتبه في تاريخ العرب وحضارتهم، كتاب الأنواء؛ عيون الأخبار؛ الميسر والقداح؛ كتاب المعارف. ومن كتبه الأدبية واللغوية: أدب الكاتب؛ الشعر والشعراء؛ صناعة الكتابة؛ آلة الكاتب؛ المسائل والأجوبة؛ الألفاظ المغربة بالألفاظ المعربة؛ كتاب المعاني الكبير؛ عيون الشعر؛ كتاب التقفية وغيرها. ولتعدد اهتمامات ابن قتيبة وتنوع موضوعات كتبه، يُعدُّ عالمًا موسوعيًا، فهو العالم اللغوي الناقد المتكلم الفقيه النحوي. وتعود شهرته في التاريخ والأدب إلى كتابه الشعر والشعراء، وبوجه خاصّ إلى مقدمة هذا الكتاب، وما أثار فيها من قضايا نقدية.
سماه مؤلفه المعارف لأنه فعلاً موسوعة مختصرة لكل المعارف التاريخية ابتدأه بذكر بداية الخلق بقصة آدم في جميع الكتب السماوية ثم ألحقها بذكر قصص الأنبياء والخلفاء والصحابة والتابعين وملوك فارس واليمن وغيرهم والكثير من المعلومات والمعارف القيمة وبشكل مختصر وشيق. كتاب قيّم جدا تعبت حتى حصلت عليه وأنصح جميع المهتمين بقرائته.
ألف ابن قتيبة هذا الكتاب كما نفهم من مقدمته ليكون منهج تثقيفي مصغر لهؤلاء العاملين أو الطامحين للعمل في بلاطات الأمراء ودواوين الحكومة، فجمع فيه المعارف العامة التي قد يحتاجها هؤلاء بصورة موجزة. قسم كبير من ا لكتاب أوقفه ابن قتيبة على التراجم والأنساب، دون التفصيل، فاكتفى بذكر أعلام الصحابة والتابعين واعيان كل مجال مثل القادة والفقهاء والنسابة، بل وحتى مشاهير أصحاب العاهات. وخارج حدود هذا القسم، نجد ابن قتيبة يتناول موضوعات مختلفة، مثل تاريخ الرسل والأنبياء، والفرق الإسلامية التي اشتهرت في زمانه، وتاريخ العرب في الجاهلية، وتاريخ ملوك اليمن. في القسم الذي يتناول فيه تاريخ الرسل والأنبياء، نجد سلطة الثقافة اليهودية واضحة على ابن قتيبة، والذي نجده يبدأ كتابه بتبني الرواية اليهودية عن الخليقة والأنبياء، ويصرح بأنه ينقل عن التوراة مباشرة، وكثيرًا من الأحيان ينقل عن وهب بن منبه، وفي بعض الأحيان عن كعب الأحبار. ومن المدهش أن يبلغ التأثير اليهودي هذا المبلغ من رجل واسع الثقافة شديد الالتزام مثل ابن قتيبة، حتى لنجده يتبنى بعض الروايات الضعيفة مثل أن تارح هو والد نبي الله إبراهيم وأن الذبيح هو اسحق عليه السلام. يحمل الكتاب بين طياته كثير من المسائل التي استوقفتني، فمثل نجد ابن قتيبة يشير في أكثر من موقع إلى الإسبان باعتبارهم واحدة من أمم الروم، ولكننا لا نعلم على وجه اليقين من يعني بهذه الأمة، وعندما استعرض أشهر الفقهاء، مقسمًا لهم أصحاب رأي وأصحاب حديث، فإذا به يضح مالك في أصحاب الرأي، وليت شعري، كيف يحسب صاحب الموطأ في أصحاب الرأي؟! وهو أمر يحتاج مناقشة ما هو مفهوم أهل الرأي وأهل الحديث في زمان ابن قتيبة.