What do you think?
Rate this book


360 pages, Paperback
First published January 1, 1990
كنت الوحيد في السيارة تقريبا الذي يرى الشمس صفراء على جوانب الطريق. و السماء على زرقتها خرساء. و كل ما يحيط بي و ما تطالعه عيناي من النافذة حزينا حزنا صدئا يسمم أحشائي. كانوا يستعجلون الوصول. و كنت في ذاتي أنطوي على أمنية خائبة في ألا نصل. صحيح أننا غادرنا البيت و المدينة و حدود اللواء. لكن السيارة كانت كالسفارة. أرضا محايدة. إنها عالم قائم بذاته. لا هو من اسكندرونه و لا من اللاذقية. بل نقطة معلقة في الفراغ. ما دمت فيها فأنا في وطن. أرض. بيت. و حين سأغادرها. أكون قد قطعت مع تلك الأشياء الحبيبة الأليفة. أكون واجهت الغربة. و ذقت مرارة الحقيقة التي تنطوي عليها حتى قبل أن أجربها.مشهد مغادرة الوطن في اسكندرونه و رغم انتقاله إلى مدينة أخرى داخل الوطن هي اللاذقية و التي سيعشها بعد ذلك إلا أن الوطن لا يمكن تعويضه أو محوه من الذاكرة
يا ربي كم أحببت والدي. و كم كرهته. و كم أحببته كرة أخرى. أحببته لهذه الجسارة التي تتبدى عفوية فيه. كرهته لهذه السديمية في الوجدان. كنت أعرف ألا أمل فيه. و أنه لن يتوقف عن الرحيل و السكر و العشق. و أنه خاسر دون أن يكترث لخسارته. دون أن يحس بها. أو يقدر نتيجتها قبل وقوعها. كان نوعا من المعصية غير المسئولة. لم تكن به لوثة. و لم يكن فاقدا لأي من ملكاته العقلية. لكنه كان يتصرف بجنون. و كان يتبدى لدى الملاحظة الدقيقة. أن جنونه غير مسئول. لأنه طبيعي فيه. فهو عقله. أصله. فطرته. و لم تنجح كل التجارب. كل الخيبات. كل نوبات الندم. في أن تطوره. أو تبدل من بهيمية سلوكه. و لأنني نقيضه في هذا. و أحمل كل موروث أمي من الطيبة. و حس المسئولية. فقد كرهته. ثم لأنني أرغب في أن أكون في شجاعته. فقد أحببته في مواقف الشجاعة. و تمنيت لو زرع الله في صدري قلبا كقلبه.
تفتحت حواسي الموروثة عنه في فتوتي المبكرة. كان في وجهي عينا أفعى. وميضهما. و كم من مرة ستقول لي النساء في حياتي المقبلة: لا تنظر أنت في عيوننا. و أسأل: لماذا؟ و يجبن: هكذا! في عيونك دعوة إلى لخطيئة. و لقد ارتكبت الخطيئة. أحببتها. عرفت النساء. و كنت كوالدي. قادرا أن أهب حتى قميصي الوحيد في سبيل امرأة. و لهذا ربما غفرت لوالدي رخاوته أمام المرأة. و لكنني أبدا لم أغفر رخاوته أمام العرق.انظر إلى الفقرة التالية التي يصف فيها حبيبته الأولى و ستعرف بأي لغة ساحرة يكتب حنا مينه
كانت مؤدبة. راضية. في عينيها بعدٌ لا يُدرك كنهه. و كانت مليحة. في وجهها وسامة. و على خديها غمازتان. تكسبان طلعتها بهاء إذا هي ضحكت. أما إذا ابتسمت فإن الغمازتين تغدوان معجتين في البشرة العجينية القمحية الموردة من صحة و نضارة. و كان شعرها ليليا. طويلا. يتهدل في جديلة على ظهرها. و يبقى منه بعض خصلة تتدلى على صفحة الوجه. كأنها تريد أن تحجب خفرا يوشّح المحيا. و الشفة العليا منشمرة قليلا. كتدبير تكويني لإظهار صف من الأسنان البيض المنتظمة انتظاما سمطيا.و في النهاية يصف مينه سبب العلة التي ألمت بكل شعوبنا المقهورة و غيّبت الوعي لعقود طويلة
لشد ما صادفت و ما عانيت من هؤلاء الذين يعتقدون اعتقادا راسخا أن السياسة لم تخلق لهم. فإذا سألتهم لماذا؟ أجابوك: لأن لها أربابها. و هم يقصدون فورا الأسياد. كانوا مستسلمين إلى خمول ذهني. إلى بلادة تفكيرية قاتلة. إلى نوع من تطويب التساؤل و التفكير و البحث إلى غيرهم. إلى أسيادهم على الأرجح. و هكذا كان هؤلاء الأسياد يحتكرون السياسة. دون أن يبذلوا أي مجهود لذلك. إذن كان ثمة ضرورة أن يعرف الناس. الشعب. الفقراء خاصة. أن السياسة داخلة في كل شيء. من الرغيف إلى أيما سلعة يبتاعونها. و أن هذه الخشية من السياسة لا موجب لها. و هذا الجهل السياسي عيب و إساءة إلى أنفسهم. و إلى فهمهم و موقفهم من الحياة كله.