What do you think?
Rate this book


437 pages, Paperback
First published January 1, 1997
كان لكل كوخ أرضية خشبية مرتفعة على أعمدة و تحت هذه الأرضية تعيش كل أنواع الحشرات و الزواحف. من الجرذان و الفئران إلى الضفادع و الأفاعي. و كان من العبث قتلها و تطهير البيوت منها. لأن الخنادق المحفورة حول الأكواخ تعج بها. و هي ترفد الأكواخ يوميا بكميات محترمة منها.
أما نحن البشر الذين نسكن هذا المستنقع. فقد اعتبرتنا المدينة. أو اعتبرنا أنفسنا. نوعا إضافيا من الحشرات و الزواحف. و جيرانا أدنى مرتبة من البهائم التي كانت تعيش على التل القريب. حيث تُطرح قمامة المدينة. فتنبش فيها الخنازير التي يربيها رجل اسمه الخواجه إسكندر. و نزاحمها نحن. رجالا و نساء و أطفالا. في النبش بين أكوام القمامة. للعثور على ما يصلح للأكل. أو الاستعمال. أو البيع لأصحاب الروبابيكيا و الانتفاع بثمنه الزهيد. مثل الزجاجات الفارغة و الملاعق و الشوك و السكاكين. و الصحون المكسورة و التي يمكن تجبيرها. و خرق الثياب التي يمكن الإفادة منها في شيء ما. و الخبز اليابس الذي يفضل عن الموائد و يوضع في أكياس ورقية و يرمى في القمامة.
إن أختي التي ذهبت إلى الخدمة في بيوت الناس لن ترجع إلى البيت بعد ثلاثة أشهر كما وعدت الوالدة. الطريق الذي مضت فيه حاملة صليبها بشجاعة كان طريق الآلام. و في الجلجلة ستصلب الطفلة على خشبة الحاجة. و نحن الذين في البيت سنأكل بثمن ردائها خبزا. و ستنقضي أعوام طويلة قبل أن تعود إلينا. و لن تعود لتستقر. بل لتهاجر معنا من اللواء إلى اللاذقية. و لتبدأ أيضا كدحا من نوع مختلف.
إنني لا أعرف أو لا أذكر كل تفصيلات تلك المأساة التي واجهها الناس. لا أدري كيف تصرفوا. و ماذا فعلوا. و لا بأية وسيلة قاوموا الفناء الذي كان يتهددهم جميعا. لقد تشبثوا بالحياة بكل ما في قواهم الباقية من طاقة على التشبث. و جابوا المدينة بحثا عن أي عمل. مهما يكن قذرا أو تافها. و استدانوا ما دام يوجد ثمة من يعطيهم ايما شيئا بالدين. و باعوا أغراضهم و فرشهم و ثيابهم. و زاحموا الخنازير على الرابية بالبحث بين القمامة عما يمكن أكله أو بيعه أو الانتفاع به. و تقبضت أكفهم المرتجفة من سغب على ما كانت تطاله. و خرج بعضهم عن سواء السبيل فقبل بعضهم أن يسرق أو ينهب أو يحتال. و رغم هذا ظل الحي يعاني المجاعة التي دفعته إلى أكل ديدان الأرض.
انني أتوقف هنا لأقول: انه بمقدار ما في الدنيا من أشرار فيها من أخيار. بل إن الأخيار أكثر. و قد التقيت بهم في كل مكان. و حتى الأشرار كانت في نفوسهم نقاط خير. فإذا استطعت ملامستها أضاءت. و عندئذ كانوا يبذلون الأشياء عن طيبة خاطر. كأنما ليعوضوا عن الحمأة التي يتردون فيها. و لقد دفعني عطف الناس و مؤاساتهم. و الخير البادي أو المستتر في نفوسهم. إلى حب الأخرين. إلى حب الإنسان و الإنسانية حبا عظيما. و إلى الإيمان بأن الحياة شيء جميل. و أنها جديرة بأن تعاش. برغم كل الشقاء الذي تغوص به.