الحضارة الإسلامية تتجدد بتجدد الحياة للأمة الإسلامية التي وضع سلفها الصالح أسسها التي استمدوا أصولها من القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم اجتهدوا وأعملوا فكرهم فأضافوا وطوروا وجددوا وأبدعوا في كافة مجالات هذه الحضارة التي أضاءت بنورها أرجاء العالم شرقاً وغرباً.
لقد أمضيت في دراسة وتدريس الحضارة الإسلامية ونظمها المختلفة سنين عدداً، وناقشت جوانب متعددة لهذه الحضارة، وأصلت لتاريخ النظم الإسلامية موضحة دور الأمة الإسلامية في وضع اللبنات الأولى لتلك النظم منذ قيام الدولة الإسلامية الأولى وذلك بعد هجرة المصطفى صلى الله علية وسلم من مكة إلى يثرب التي تحولت بقيام الدولة الإسلامية إلى المدينة المنورة العاصمة الأولى لهذه الدولة.
وفيها استكمل النبي صلى الله عليه وسلم بناء هذه الدولة، مدعما أركانها، وفي المدينة المنورة توالى نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم ليتم بذلك القرآن الكريم دستور الأمة حيث يُستكمل البناء وتترسخ دعائمه.
إن الحضارة الإسلامية هي إضافة الأجيال المتتالية من علماء المسلمين من المحدثين والمفسرين والفقهاء والمؤرخين والرحالة والجغرافيين، والفلكيين وعلماء الطبيعة والكيمياء والطب والصيدلة والاعشاب، بالاضافة الى الفنانين من المعماريين والموسيقيين، وعلماء الرياضة والجبر عمارة أفكارهم وجهودهم مما أكد ريادة هذه الأمة، وفضلها على العالم شرقه وغربه.
من أجل ذلك كان اختياري لعنوان هذا الكتاب: "تاريخ النظم والحضارة الإسلامية"؛ والذي كانت أولى طبعاته في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وقد كان اختياري لهذا الموضوع ايماناً بأهميته القصوى للطلاب والباحثين بالإضافة الى ما يمليه ضمير المؤرخ المسلم من ضرورة التأصيل للنظم الإسلامية، التي تشمل النظم السياسية والإدارية، والنظم الاقتصادية، والقضائية، والعسكرية، فضلاً عن النظريات المختلفة التي وضع أسسها العلماء المسلمون في العلوم والآداب، في العمارة والبناء والتشييد، ولقد كان المسجد النبوي الشريف الذي وضع لبناته الأولى محمد صلى الله علية وسلم نواة للمدرسة والجامعة والبرلمان، ومجلسا تعلم فيه المسلمون أدب الدين وأدب الدنيا، هذا المسجد كان النموذج الذي احتذاه العالم للمدرسة والجامعة، ومنه انطلقت اشعاعات الحضارة والفكر والثقافة والعلم، لتتعلم الدنيا على أيدي العلماء المسلمين الذين جابوا الآفاق ينهلون منهم أينما حلوا القيم الحضارية الإسلامية.
وتتضح في طيات فصول هذا الكتاب العوامل الأساسية التي أسهمت في ازدهار الحضارة الإسلامية وشجعت على قيام النظم الإسلامية سياسياً وإدارياً وقضائياً وعسكرياً، ويأتي على رأس تلك العوامل: الحرية الفكرية والمناخ الحر الذي أتاحه الإسلام لهذه الأمة بكل عناصرها المختلفة فالإسلام يساوي بين الأجناس والألوان، ويسمح بتلاقح الحضارات والثقافات، ولا يقبل بانغلاق الأمة على ذاتها وانكفائها على تراثها، وإنما كان لأهل البلاد المفتوحة والشعوب الداخلة في الإسلام دور مهم في إثراء الحضارة الإسلامية واستمرارها وتجددها.
لقد حفظ المسلمون تراث الإنسانية، ونقلوه بدقة وأمانة، وكانوا همزة الوصل بين القديم والجديد وتفاعلوا مع حضارات وثقافات البلاد التي دخلوها حاملين معهم قيم الحرية والتسامح والعدالة والفرص المتكافئة، ومن أجل ذلك كان التطور الدائم والمستمر والتدفق الهائل للافكار والابداع.