حين يهاجر الشعر إلي لغات و أوطان أخرى: أسطرة القصيدة في 'بقايا البيت'!
بدرالدين الرياحي
حفل المشهد الشّعريّ التّونسيّ في بداية التّسعينات من القرن الماضي بأسماء جديدة انخرطت في تجربة الكتابة والنّشر، يحدوها أمل الابداع والإضافة للمدوّنة الشّعريّة . لكنّ المتتبّع لإنتاج ذلك الجيل الشاب ، والذي اقترن أغلب أفراده بكتابة قصيدة النثر ، يلاحظ أنه ظل محكَوما بمظاهر كثرة الأسماء والتكرار والتشابه في الكتابة والغزارة في النشر، دون افراز أصوات شعرية متميزة و أصيلة أبدعت رؤاها الفنية والجمالية الخاصة . بل إن ذلك الكم الهائل من النصوص – مع إستثناءات قليلة جدا ـــ لم يكن إلا دليلا على انحسار الابداع وأزمة الشعر في آن .
ومن أهم تلك الأصوات القليلة المتفردة لذاك الجيل ، يطالعنا إسم الشاعر ميلاد فايزة الذي اختار منذ بداية تجربته مع الشعر، الصمت والابتعاد عن أضواء الحضور والمشاركات في الأماسي الشعرية مفضلا ﺍلقراءة و التأمل والكتابة لتعميق التجربة .
بعد سنتين من تخرجه من قسم الآداب العربية بكلية الآداب والعلوم الانسانية بسوسة ، هاجر الى الولايات المتحدة الامريكية وبالتحديد الى مدينة ميشيغان ، التي اتخذ منها منفى اختياريا ومكانا جديدا لمواصلة العيش والكتابة .
منذ دخوله الى الجامعة كانت أفكار السفر والهجرة والمنفى أحلاما كبرى تسكنه ولاتزال ، حتى أنه عمد مرة إلى نشر قصيدة في جريدة الصحافة التونسية ، منوها في آخرها بأنها كتبت في العاصمة الرومانية بوخارست ، وهو الذي لم يكن آنذاك قد غادر تونس بعد! .
و يبدو أن أحلام السفر والمنفى قد تحولت في شعره الى تيمات أساسية ، إذ نقرأ في كتابه الشعري الأول ﴿بقايا البيت الذي دخلناه مرة واحدة﴾ ، الصادر سنة 2004 عن دار الواح باسبانيا ، قصائد منفى بامتياز، لكنه منفى مخصوص ، أي أنها قصائد تهاجر غالبا الى أوطان و لغات أخرى وأزمنة متخيلة تتجاوز معطيات الواقع و التاريخ وإن أحالت أحيانا على أسماء أعلام أو أمكنة.
فقصيدة بقايا البيت التي جاءت موزعة على ثلاثة أجزاء ، وهي عنوان الكتاب، تطالعنا قائمة على مشاهد عجائبية تبدو قريبة جدا من عالم السحر وأجواء الحكايات والقصص الميثيولوجية ،وهي على نحو ما تذكرنا ببعض مناخات نصي رسالة الغفران للمعري والكوميديا الإلهية لدانتي. لكن رغم هذا التصادي الظاهر مع الأجواء التي ذكرنا ، تتبدّى القصيدة نازعة الى خلق أجوائها التخييلية المتفرد ة و إبداع طقوسها العجائبية المخصوصة ، حتى كأننا إزاء نص ملحمي يرسم فيه الشاعر بطولات الحب والخيال وصراع الانسان/ الفرد مع الزمن والموت ، ويسرد فيه شعريا " بقايا البيت " ، بيت رؤاه السرية و أحلامه الغامضة والمرهفة في الأزمنة البعيدة . ألم يقدم الشاعر كتابه بجملة أدبية لاتخلو من دلالات هامة للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكي تقول : » كنت أريد الخلاص من عتمتي الداخلية العميقة ، وتحويلها إلى نور» . ؟
هي أيضا قصيدة تستعيد بشكل ما أجواء الأسطورة لتكتب أسطورتها الخاصة ، من حيث اعتمادها على روح الاسطورة وطقوسها ونظامها الرمزي أحيانا ، وإرادة قوة الفعل الخارقة للشخوص التي حول الشاعر صفاتها إلى مايشبه نزعة إلاهية تتجاوز طاقة البشري المحدودة ( مثال شخصيتي هوكوواوا ويارا) . والشاعر إذ ينزع إلى "أسطرة " قصيدتة ، فإنه يسعى من وراء ذلك إلى التوغل أبعد ما يمكن في مناطق الحلم و الايحاء والترميز و لكي يمنح القصيدة حياتها الخاصة وسيماتها الحادثة . لذلك تحتفي قصيدة ( بقايا البيت الذي دخلناه مرة واحدة ) وبشكل جد ملفت بعناصر الطبيعة والعالم البدائي الأول و الموسيقى و الجسد ــ من حيث هو رمز للحب وآلية لمقاومة الموت ــ عبر لغة حدسية شفافة تستجلي عالمها الفريد ، وصفا وسردا وتصويرا ، وعبر تكثيف الاستعارة والتنويع بين تقنية المشهد السينمائي والمونولوج والفلاش باك ، وأحيانا بطريقة التضمين و الكولاج مثلما نقرأ في قصيدتي ﴿أوجان جيلفيك﴾ و ﴿بقايا البيت1 ﴾ ، إذ عمد الشاعر الى توظيف مقاطع شعرية باللغة الفرنسية لأرتير رامبو وأوجان جيلفيك ، تبدو لنا على وشك التماهي مع النص الأصلي ، بل إن هذا الأخير حول صميم مدلولاتها إلى دلالات جديدة تتوالد عبر إنشاء وشائج نصية حادثة ( مثال قصيدة أوجان غيلفيك ص16 ) . وبذلك تنفتح القصيدة على أكثر من لغة و صوت ومرجع ، وتتجاوز الى حد كبير مقولات ´´الأنا`` والتراث و الذاكرة ــ التي لاتزال حاضرة بقوة في كثير من الاعمال الشعرية لمجايليه ــ لتكتسب طابعا تثاقفيا يرنو إلى الانفتاح على الثقافة الغربية وقيمها الإبداعية . يقول الشاعر: «
ــ ألم تتعب؟ ــ في دمي بذور السلالات . حالما بمن ألتقي كنت أغنّي ، أصعد الأعالي، حتى أسمّي ما لم يسمّ . (ص55)
تجدر الإشارة في هذا السياق أن الشاعر قد منح في كتابه عناوين ثلاث قصائد أسماء شعراء وفنانين غربيين أمثال غيلفيك ، سلفادور دالي ، وبيتهوفن ، إضافة إلى ذكر أسماء أخرى لشعراء فرنسيين ، وذلك ــ مثلما أشرنا سابقا ــ احتفاء بأ برز أصوات الثقافات الأخرى وتنافذا فنيا مع نصوصها وخبراتها التعبيرية و الجمالية ، مثلما يتجلى في قصيدة ( لوحات لم يرسمها سلفادور دالي) إذ يستعير الشاعر مفردات الرسام وأدواته التصويرية وهذيانه ، فتستحيل القصيدة مشاهد سوريالية قائمة على حدة التخيلات واللاشعور . كما يظهر هذا الحوار مع الآخر وبشكل أكثر جلاء ، في التغني بشخصية الشاعر الفرنسي ارتير رامبو ، وفي ترديد إسمه في أكثر من قصيدة كرمز لتمرد الإنسان/ الفرد على الوجود وتوقه الحارق إلى التحرر من كل أشكال التنميط والإستلاب . وثمة في كتاب ( بقايا البيت الذي دخلناه مرة واحدة ) ما يجيز القول ، إن هناك نفسا رامبويا يلتمع في شعر ميلاد فايزة و يسري في ثنايا عديد القصائد ، من خلال مسحتي الشقاء والحيرة الماثلتين في الأسئلة المتكررة وفي البحث المحموم عن الحرية و الكمال وطرق المستحيل . كما يظهر ذلك أحيانا في نبرة غنائية ذات نفس نوستالجي واستشرافي أيضا ، تتأسس غالبا على التكرار اللفظي والمقطعي والتداعي الحر للصور الحلمية ، وفي استنفار طاقتي الرؤيا والخيال لأعادة اكتشاف عالم الذات الإنساني وتسمية مخبوءاته وأجزائه الحميمية المتوارية خلف الآني و العقلاني والمرئي، يقول الشاعر في قصيدته المتميزة أقمار سمية : «
بللي بالضوء يديك ثمة فراغات أثقل من برودة المرايا في لغتي لكني أمشي أبد ا باتجاه العاصفة . واهبا ضحكاتي لسلال الكائنات الليلية أو باحثا عن مدرج يصل بين يديك المليئتين بالأشجار وطيورنا التي فاجأها صوت الرعاة المجروح بالشمس.
ثمة فراغات أثقل من برودة اللغة في المرايا وأثقل من كلماتي الغارقة في أحشاء سمك المحيط.(ص26)
ولعل أهم ما يسترعي الإنتباه في قصائد ميلاد فايزة ، هو أن أغلبها يطالعنا موسوما بنبرة غنائية رهيفة أحيانا ، ومكثفة وعالية أحيانا أخرى حسب نوعية الموضوع و مراحل نمو النص وحركته . ويطغى حضور تلك النبرة الغنائية أكثر خاصة في القصائد التي تدور مواضيعها حول الحب والطفولة أو في تلك التي تستعيد زمن الماضي ( مثال قصائد سمية الثلاث) .
و حضور النبرة الغنائية في شعر ميلاد فايزة إنما يخفي وراءه شعورا دفينا بالغربة و يفصح عن ذات قلقة تجاه وجودها وأسئلته ، لكنها أيضا ذات تطالعنا مصرة أبدا على تفجير قلقها و تحويله إلى صور حلمية متدفقة ، و دهشة أسئلة لا تكاد تخلو منها قصيدة . أسئلة يولد عبرها الشاعر آفاقا واسعة من الترميز و الإيحاءات والدلالات ، متوسلا في ذلك ــ مثلما نقرأ في قصيدة خاتم سمية ــ بلغة ذات خصائص متعددة ، تجمع بين الذاتي والتأملي والبصري ، وغالبا ما تنزع إلى تكثيف التعبير والإستعارات وتنويع الصور الشعرية :«
صغيرة أيتها الغرفة وليس لنافذتك ستارة أفتح بابك على ليل ثقيل أعمى ، ليس على العتبة نجوم أو صوت يلون حزن الزهرات قبل اختفائها في الريح. . أملأ يدي ماء وكلمات لأفك سر الأغنية ، لأعلق صورتها على الجدار الندي . لسنوات أفكر في بابك مغلقا أفكر في أنوار صغيرة تختبىء في الخزانة . . من يفتحك حين أمضي ؟ من يهبك شمسا أوحكاية ؟ من يعيد إلى معصمك أساور الفجر؟ أو يضع على العتبة عطش الجبال المورقة في عش طائر؟
ثمة أيضا في قصائد ( بقايا البيت الذي دخلناه مرة واحدة) لهجة ذاتية قوية ، تتجلى من خلال طغيان ضمير المتكلم المفرد بصيغة الأنا ، التي تنتسب لها أغلب الأفعال ودلالاتها . ولاشك أن الشاعر أراد أن يقدم لنا في عمله الشعري الأول زخم تجربته الذاتية باستيهاماتها ورؤاها وتطلعاتها ، لذلك تبدو بنية القصيدة مطبوعة بنزعة أوتوبيوغرافية ، لعل من أهم ميزاتها هو خروجها أحيانا عن نطاق ذاتيتها و انفتاحها على التقاط الموضوعي ، في تلقائيته وحرارته . كما تتبدى لنا متخطية لزمن الماضي ، لتنغرس بقوة في بؤرة الحاضر، حاضر الكتابة المشرئبة إلى استشراف الآتى وابداعه ، من خلال الإستعمال المكثف لصيغة الأفعال المضارعة التي تمنح دلالات وتدلالات القصيدة استمراريتها في زمن الحاضر واتصالها أيضا بالمستقبل .
ويمكن القول أن ما يميز شعر ميلاد فايزة في عمله الأول ، هو بلوغه شعرية عالية تنم عن قدرة كبيرة في تصريف القول الشعري وفي خلق جمالية مخصوصة ، عبر توظيف عديد الأنماط التعبيرية والأسلوبية في كتابة قصيدة النثر . ويبدو لي أن قصيدته هي الأكثر صفاء وامتاعا مقارنة مع ما حاوله أبناء جيله ، فهي قد تجاوزت لغة البوح الغارقة في النثرية والمباشرة ، وقطعت مع تهويمات التجريب وما نتج عنها ، من نصوص خاوية فنيا . إضافة إلى توقها الكبير إلى التفرد والمغايرة . إننا إزاء صوت شعري متميز في مشهد ثقافي تونسي كثرت فيه الأسماء وندر فيه الشعر .
بدرالدين الرياحي فيينا
(المصدر: جريدة أخبارالأدب المصرية بتاريخ 9 أفريل 2006 ) http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/is...