إن البحث عن صورة الآخر هو في حقيقته بحث عن الذات. بهذه الفكرة افتتح تيير منتش كتابه الشرق المتخيل حين قال "لا يحدث هذا الكتاب عن الشرق إنما يحدث عنا" والأمر سيان في هذا الكتاب الذي نتقدم به بين يدي القارئ. إذ لا يحدث عن بيزنطة وإنما يحدث عن الذات العربية والكيفية التي تمثلت بها الآخر البيزنطي.
إن هذا الاهتمام المتزايد بمسالة الآخرية سواء في سياقنا العربي او في السياق الغربي, دائم ما كان يتخذ مرجعية له سؤال الهوية حتى وان بدى غائب في الخطاب ولعل من البديهي القول بان صورة الآخر لا تتشكل في المتخيل كمعرفة موضوعية فهي انفعال مع الذات يتحدد بشكل أساسي من خلال ما يراه الانا الشيء الذي يجعل منها صورة علائقية بامتياز إذ لا يمكن الحديث عن أحدهما بغياب الآخر بل إن الذات لا تتحدد بدء إلا من خلال وضع نفسها في مجابهة ذوات أخرى.
وسنحاول من خلال هذا الكتاب دراسة متخيل بيزنطة عند العرب، وهو وإن كان يتخذ من الآخر موضوع له، فإن الذات تبقى حاضرة بإستمرار، إذ من خلالها يجري إنتاج المتخيل ومختلف التمثلات داخل هذا السياق حاولنا الإقتراب من سؤال الآخرية في الثقافة العربية الإسلامية في لحظاتها التأسيسية الأولى، مُحددين إياها في الآخر البيزنطي، وستسمح لنا هذه العودة إلى الجذور، بفهم آليات تشكل بنية الآخرية، التي تزامنت مع بداية وعي العرب بأنفسهم كقوة مسيطرة.
من أكثر الكتب التي أحبها وأحب قراءتها= الكتب صغيرة الحجم، جميلة الشكل، جيدة الموضوع. وبينما أبحث عن كتاب بالأمس في ركن تاريخ أوربا وجدت هذا الكتاب الذي يتناول موضوعًا مميزًا قليلة الدراسات عنه، وهو "بيزنطة المتخيلة" أو يمكن القول صورة بيزنطة عند العرب في القرنين الأول والثاني الهجري/ السابع والثامن الميلادي، وبيزنطة تتمثل في الغرب الأوربي بالنسبة للعرب في ذلك الوقت، كيف نظروا إليها، وما هي الصورة المتخيلة لها عند المؤرخين العرب. تكمن صعوبة البحث في الفترة الزمنية التي تناولها وهي فترة مبكرة المصادر فيها قليلة التي تتحدث عن بلاد غير العرب، فلم تكن هناك رحلات بعد خارج الجزيرة العربية ولم تكن هناك مؤلفات جغرافية تتناول بلاد الفرنجة، ولم تكن الصورة المتخيلة كاملة بعد؛ لأن الدولة الإسلامية كانت في طور النشأة، فصورة الآخر هي في الأصل ترتبط بصورة "الأنا"، وكيف ينظر "الأنا" للآخر. كان العرب في البداية يرسمون صورة بيزنطة -وفقا للمعلومات السطحية عنها- على أنها الإمبراطورية المنيعة التي إذا ما حاولوا الاقتراب منها أو فتحها سيكون نهاية التاريخ، لكن الأمر اختلف بعد الاحتكاك المباشر بين الطرفين سواء في التجارة أو في الحروب فيما بعد، فكلما قويت شوكة المسلمين وأصبحت لهم دولة مترامية الأطراف تغيرت نظرتهم للآخر، وبدأت هناك كتابات عن الآخر في الأدب والتاريخ، حتى وصلت إلى الحديث عن بنات الأصفر= كناية عن جمال النساء البيزنطيات، وإذا ما حاربوهم سيأخذوا منهن أسرى وجوارى، كتشجيع على الغزو بعد أن كان البعض من المسلمين لا يخرج للغزو خوفًا من الفتنة وهي عدم الصبر في القتال إذا ما رأى جمال البيزنطيات. واللون الأصفر يرمز إلى الجمال فهو في المخيل العربي له دلالة جميلة بالثراء والغنى فلون الذهب أصفر والنقود والشعر الحرير لونه أصفر. اعتمد المؤلف في كتابه في رسم صورة الآخر على سيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام وكتاب المغازي للواقدي وهم فقط المصادر المكتوبة في فترة بحثه التي اتخذها منهجًا له، وإن كانت هذه المصادر لا توضح لنا الصورة كاملة عن الآخر فهي كُتبت في المقام الأول عن السيرة النبوية ومغازي الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك جاءت رؤيته عن الآخر قاصرة عن توضيح المعنى بشكل كامل، أما في القرن التاسع والعاشر الهجري كثرة المصادر التاريخية والتواريخ العالمية وكتب الجغرافيا التي تحدثت عن بلاد شتى ومناطق عدة يمكن رسم فيها صورة واضحة عن الآخر سواء البيزنطي أو الفارسي أو غيرهم، كما ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أنه ينقد أطروحة عزيز العظمة بعنوان "العرب والبرابر"، ومع ذلك أشار إليها في ثنايا الكتاب بشكل هامشي من دون توضيح هذه الأطروحة وهدفها ومحتواها ومن ثم رؤيته هو المغايرة لها. الكتاب -كما ذكر المؤلف- يتناول فترة قليلة المصادر لذلك جاءت الصورة الآخرية بسيطة، لكن يُحمد له تناول موضوع مميز جديد في الدراسات العربية، يكتسب أهمية إذا ما تمت معالجته في العصر الذهبي الإسلامي والاحتكاك المباشر بين الدول الإسلامية والغرب فيما بعد. وهناك شيء آخر لفت نظري يحاول المؤلف إضفاء البعد السياسي على علاقة "الأنا" بالآخر مثل التجارة والمجاورة والانبهار بالآخر دون التركيز على البعد الديني الذي هو الأصل، فالآخر موجود منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المخيل العربي، عندما نزلت آية "الم، غلبت الروم..."، وفي الحديث الشريف: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها...، وصورة الآخر قد رُسمت عندما دُفن أبو أيوب الأنصاري تحت أسوار القسطنطينية في غزوة من الغزاوات في عهد يزيد بن معاوية الأموي. وأخيرًا الكتاب جميل وسرده ممتع ولغته رائقة، أنصح بشدة به، حيث إنه صادر من دار نماء العريقة التي أكن لها كل حب وتقدير. د. محمد عبد العاطي محمد
كتاب مهم بالرغم من صغر حجمه، يتناول موضوعا يندر الاهتمام به هو دراسة الآخر في مرايا الذات، مؤكدا أن تحقق الذات والوعي بها لا يتأكد أحيانا إلا بالنسبة إلى آخر مقابل لها، فبالرغم من أن الدراسة عن بيزنطة في الظاهر، إلا أنها في حقيقتها عن المخيال العربي الإسلامي حول بيزنطة، كيف تشكل؟ وكيف عبر عن نفسه في الأدبيات الإسلامية المختلفة؟
تمثل بيزنطة بالنسبة للأمة الإسلامية منذ تشكلها حتى استمرار نموها في العصور الوسطى كيانا اختلف النظر إليه من الرهبة والمهابة في أول الأمر، إلى الندية، إلى المنافسة والصراع المشوب بشيء من الإعجاب؛ فهي أقوى إمبراطورية ظلت تنافس الإمبراطورية الإسلامية بعد سقوط إمبراطورية الفرس، وبزوغ نجم القوة الإسلامية على الساحة العالمية، وهي - بيزنطة - صاحبة المدينة المشتهاة "القسطنطينية" حلم الفاتحين والغزاة، التي حاولت العديد من الجيوش فتحها عدة مرات؛ حتى أن سقوطها ارتبط في المتخيل الإسلامي بنهاية العالم وظهور الدجال وفتن آخر الزمان.
وقد سلط الكتاب الضوء على الاهتمام الإسلامي ببيزنطة أو الروم، كما أطلق عليها المسلمون، مهتما بالقرنين الأول والثاني للهجرة؛ لأن بفهم صورة بيزنطة فيهما نعرف بدايات التشكل الأولى لعلاقات العرب مع الروم من ناحية، وتشكل الوعي بالآخر المنافس من ناحية أخرى، وقد لجأ المؤلف لفهم ذلك إلى مصادر السيرة والمغازي المبكرة التي أشارت ولو باقتضاب إلى بيزنطة وعلاقة المسلمين بها وبالقبائل المتحالفة معها.
ولا يخلو الكتاب من نظرات نقدية في قراءة بعض الروايات المتعلقة بتفاعل المسلمين مع الآخر البيزنطي منها مراسلة النبي (ص) مع هرقل التي ذكرتها المصادر دون أن تشير إلى محتواها، حيث يرى المؤلف أن الأمر لا يبدو أنه دعوة دينية بقدر ما يمكن أن يكون طمأنة لهرقل بعدم وجود أي نية للغزو من قبل النبي وأصحابه. كذلك ذهب المؤلف أن الهدف من غزوات مثل مؤتة وتبوك إحكام السيطرة على عرب الشمال، واستعراض القوة أمامهم، ورأى أن مصادر المغازي تناولت بعض هذه الأحداث بشيء من المبالغة. وتطرق الكتاب إلى نقد بعض كتابات المعاصرين مثل "عزيز العظمة" الذي حاول ان يدرس نظرة العرب إلى الآخر فوصفها بأنها "ثنائية حدية" أي نظرة استعلاء، فاستدل المؤلف على نفي ذلك ببعض مصادر التراث حيث تم وصف الآخر بصفات عدة منها الحسن والتي على سبيل المدح، وإن كانوا لم يصلوا إلى قدر العرب بطبيعة الحال.
مثل هذه الدراسات التي تدرس المتخيل مهمة؛ لأنها تعكس جزءا من الذات أكثر مما تعكس حقيقة الآخر الواقعي، وكما أن هناك متخيل عربي عن الآخر، هناك متخيل غربي عن العرب والإسلام، دراسته دراسة نقدية، يمكن أن تقرب الأفهام، وترصد تطور العلاقات، وتساهم في تشجيع دراسات أخرى تفرق بين الحقيقي والمتخيل، لعلنا نتعارف بدلا من الصراع.