كتب الدكتور عبدالدّائم السّلّامي إنَّ الرِّواية إنجازٌ إبداعيٌّ لقلّةٍ من النّاس يستأهل الاحتفاء به من قبل شعوبهم: لأن كتابةَ راويةٍ أو قِصّةٍ أو قصيدةٍ إنما هي شهادةٌ على كوننا أحياء: النّصُّ الإبداعيّ يَحميني مِن موتِ الإنسانيّ فيّ، ويَحميني، من عنف الخارج، ويحميني من مجانية وجودي ذاته، فأن أقرأ رواية، مثلاً، يعني أن أعيشَ حياة لا أحاسبُ عليها يوم الحِساب. أن أقرأ يعني بالضبط أن أحبَّ: القراءة تمرينٌ يوميّ على الحبِّ مثلما أنّ الحبَّ هو تمرين دائم على القراءةِ. وما السّعادة في الأرض إلا حادثةُ فرحٍ نادرة ومكثّفةً: وصورتُها أنْ أقرأَ وأحبَّ ما أقرأ في الآن ذاته: إنّ العاشق قارئ، وكل معشوقٍ في الدّنيا كتاب.
قراءةُ هذا الكتاب، كانت علاجًا شافيًّا لطالبٍ أنهى رسالة الماجستير وسلّمها بانتظارِ موعدِ المناقشة، فنفض يديه من مناهجها وأخذَ يقرأُ بفرحٍ وحبٍّ الكتابُ "النَّصُّ المُعَنّف، دعوةٌ إلى الحريةِ والتمرّد على الالتزام الحرفي بمناهج النّقدِ، التي قد تسهو عمّا في الأعمالِ الأدبيّة من جمال وإبداع ورقي لا تراه عينُ النّقدِ الغربي المطبّقِ والمسقْط بطريقة عنفيةِ عليها. كأن الدكتور عبدالدّائم السّلّامي يصرخ بالقارئ اِقرأُ بحبِّ، اِقرأْ متحررًا من مناهج النقد وتطبيقاتها الاكاديمية الصارِمة... وذلك ورد في مقدمة الكتاب والتي عنّونها الدكتور السّلّامي: "إنّي أراني أُحَرِّرُ كتابًا" إذْ كتبَ: "أنْ أقرأ يعني بالضبط أنْ أُحبَّ: القراءةُ تمرينٌ يوميّ على الحبِّ مثلما أنْ الحبَّ هو تمرينُ دائم على القراءةِ. وما السّعادةُ في الأرضِ إلا حادثة فرح نادرة ومكثفّة: وصورتها أن أقرأَ وأحبَّ ما أقرأ في الآن ذاته: إن العاشق قارئ، وكلُّ معشوق في الدّنيا كتاب. ومِن أهمّ ما في الكتاب، كانَ في الفصل الأوّل: هو المطالبة، النصيحة، والرجاء، أن يكونَ للرواية قبلَ نشرها مُخْرِج رِوائي يتشابه دوره بدور قائد الاوركسترا. فالدكتور السّلّامي يسأل: أليست الرِّواية سمفونية حكائية؟ ... أليست بدورها محتاجةً بدورها إلى "إخراجٍ رِوائيٍّ" لمُكوِّنات مادّتها الحكائيّة تصير به أكثر تَهَيْكُلاً وصَقْلاً؟ ألّا نجد رِوايات كثيرةً ظلّت بعد نشرها باهتةً، منسيّةً وبلا صوتٍ،..." (الكتاب، النَّصُّ المُعَنَّفُ، ص 41).
النص المعنف كتاب النص المعنف لعبدالدائم السلامي. عبدالدائم السلامي كاتب تونسي. إن لديه لغة سامقة محكوكة بالبلاغة، ومرتدية لبوس الطلاوة، يتصرف في القول كيفما أراد، ويأتيه المعنى حيثما أراده وربما تجاوز معناه لفظه.. تكون فقرات كتابه مقطعة في تماسك، كأنها بيت شعري، ثم هو إذا تكلم عن أمرٍ أحكم قبضته عليه حتى يخنقه فهو في هذا كما قيل عن الأصمعي أنه (حتف الكلمة الشرود). يتحدث بعربية خالصة من الشوائب خلوص اللبن من الغبش، مستدلا بالعلماء الأفذاذ والأدباء الأكابر من الشرق والغرب، من السلف والخلف ببيان قد حسنت ديباجته، وبعرض منطقي يسرق عقول الرجال، ويسلب قلوب ربات الحجال. عنيف في بعض المواضع وتشعر أنه يعطيك فصل الخطاب فيه كقوله (لا توجد موضوعية في النقد مهما ادعت المناهج ذلك، وحدهم الأموات قد يكتبون -إذا كتبوا عن النصوص- بموضوعية عالية) فهو ينفي قطعا الموضوعية ويحيلها إلى الأموات دلالة على انتفائها في عالم الأحياء. قلمه كسيف الحجاج حاد جدا كحدة آرائه، إنه لا يتلطف ولا يضع مساحيق المجاملة، إنه حلّاق بلاغي يحلق رأس الحقيقة حتى يزيل عنه "المدح" الزائد. لا يضع مراهم على الجروح، بل لديه مقلاع يقلع الوريد من أساسه.. هذا الكتاب لا يصلح للقراءة دفعة واحدة وإلا أصابت قارئه بالتخمة وربما شرق ببعض حروفه فيعجل لقدومه ربه غير راضيا.. إنه يحتاج لرياضة، ومسايسة والتوقف عند حروفه وحدوده، والتمهل جدا في المشي على تلك الأرض التي اخترعها المؤلف لينظر القارئ موضع قدمه حتى لا تزل فتزل الأخرى بعد ثبوتها.. لطالما قلت (إن تحت التراب نوما طويلا) ولكن الليل الطويل هو من أراد أن يلتهم هذا الكتاب في جلسة واحدة، إنه طُعم، وخندق، وفي بعض مواضعه كمين.. إنه يخاتل القارئ من وراء القضايا ويلوّح بسيفه كأنه ملاعب المنايا.. وله آراء غريبة جدا كقوله في النصوص الأدبية الضعيفة: (لعل ما بدا لنا ضعيفا الآن هو نفسه ما سيكون بذرة تجديد أدبي قد نموت قبل أن نتذوق ثمرتها) فهو من جهة يثبت أن لها إبداعا خفيا، وأيضا يقول أن هذا الضعف ينبهنا ويحفزنا لما يعتري الحركة العملية الكتابية من وهن أو قوة. الكتاب يحمل في هامشه روائع كالتي في المتن تماما. وذكّرني هامشه ما قاله الدكاترة زكي مبارك في كتاب عبدالقادر حمزة (على هامش مصر القديم): (ولم أجد كتابا يكون فيه الهامش أغزر من الاصل قبل أن أعرف كتاب عبدالقادر،فارجو الالتفات إلى هامش هذا الكتاب أكثر من الالتفات إلى الاصل)، على أني لا أدعو إلى هذا في كتاب الأستاذ لأن الأصل أغزر من الهامش. إن المؤلف يدعو في كتابه إلى أن تكون القراءة خالية من الكيماويات المنهجية، ويريد أن يعود بالقراءة إلى صدرها الأول لتتخلص من كراس الشروط لتعود القراءة بضة نقية. هذا الكتاب ثوري فهو يثور على المنهجيات والنظريات ويطالب بالوحدانية والفردانية وأن يكون القارئ هو منهجه نفسه وأن يتذوق النص بخبرته وبمقياسه وألا يستعير من القوم أدواتهم، على أنه لابد أن يكون القارئ متمكنا من فنون لغته ومقولاتها نحوا وصرفا ومجازات. ثم إنه أعجبني جدا في فكرة "المخرج الروائي" وهي خلاف المحرر الأدبي، ولعل قائد الأوركسترا أقرب فكرة إلى المخرج الروائي للعمل الروائي. والعجيب عنده أن يعلي من شأن القارئ؛ بل يجعل القارئ هو المخوّل الوحيد للنقد لأنه (لا يلبس قفازات منهجية)! وعندي أن القارئ -بوصفه المطلق- لا يجب أن يحظى بهذا الشرف؛ فما أكثر القراء، وما أقل الفاهمين للمقروء. ليست القراءة بحد ذاتها شرفا يخوّل صاحبها النقد والانتقاد؛ لأن القراءة لم تكن غاية أبدا، بل هي وسيلة للمعرفة.. وهو يحاول أن يخفف عن نفسه حينما يقرأ نصا جميلا فيقول: (لا عليك، إنك اخترت أن تجيد الاستمتاع بالأدب على أن تكتبه، وإن جودة الاستمتاع بالأدب لأرقى أنواع الأدب نفسه). وعندي أن هذي متعة الكسالى والبطالين، إذ كيف بالتفرج والتلذذ والاستمتاع يكون أرقى الأنواع؟ إن الكاتب الفاعل الذي ينتج هذه المادة الممتعة لهو الأحق بأن يكون أرقى الأنواع؛ ولكنها النفس التي تحبب الخلود للراحة وتزين من عملها البسيط.. هذا الكتاب عبارة عن (ملاكمة أدبية) ومباراة نقدية على الوزن المفتوح (الوزن الثقيل)..كما يلعبون الملاكمين في الوزن الثقيل ضربات قليلة لكنها موجعة وقاتلة.. لا وجود للنقد من فئة وزن الريشة في هذا الكتاب.. لقد ذكرني السلامي بعبدالسلام هارون في كتابه قطوف أدبية.. بهذا الكتاب يعيد لنا السلامي وهج النقد كما كان في الرعيل الأول.. الكتاب من إصدارات دار مدارك يقع في 187 صفحة من القطع المتوسط، والصادر عام 2020م.
كل المقالات في هذا الكتاب كُتبت برصانة ومنطقية، كل المقالات هي دعوة نحو قراءة متأنية لأدبنا المعاصر، تتطلب المرونة أو كما قال عبد الدائم: "خالية من الكيماويات المنهجية".
اسمتعت بهذا الكتاب اللذيد بنداوة لغته و هو ينأى في مقالاته عن الدراسات الأكاديمية الجافة، و يختار أن يكتب النقد كتابة موازية للنص الأدبي، بجماليات اللغة و إلماحات الكتابة دون أن يتنازل عن لغة النقد.
كتابٌ ماتعٌ، وكلُّ حديثٍ عن فعلِ القراءة وعالم النصّ؛ مُحبب إلى قلبيّ. هذه التجربة الأولى مع المؤلف؛ أحببت لغته عالية ، وثقافته الموسوعية في تشريح النصوص واستبطان كنهها. فجأة تقرأ نصًا لابن قتيبة أو إمام الناثرين الجاحظ ثم ينتقل بك بسلاسة عذبة ومرونة إلى آراء رولان بارت ونُقّاد ما بعد الحداثة.
القراءة حدث ملحمي ينقذنا من الكلل اليومي بل هي فعل إنساني تمجد فيه الكتابة بطولتها فينا لنمجد نحن بطولتنا فيها وتحفزنا لأن نكتب أسطورة شكوكها وشكوكنا المتصارعة.. النقد فعل إبداعي لن يوجد إلا خارج مدرجات الجامعة أي في الميدان العامة حيث تعيش النصوص وشخصيتها وقراؤها.. في كل نص جملة واحدة تأسر القارىء وبقية جملة لاتزيد عن كونها أدوات لغوية خادمة لها..
كتاب مقالاتي، مؤلف من مقالات بمواضيع متنوعة تجمعها مادة الأدب والقراءة والرواية العربية.
عنوان الكتاب يبرره الكاتب في أحد المقالات حيث يدعو قراءه لبناء علاقة مع النص، أن يحل القارئ في النص ويحل النص فيه، بما سماه "الحلول القرائي" مبتعدين عن مساطر القراءة المنهجية التي تحمّل النص ما لا يحمله أحياناً بل وتسلبنا أحلامنا الخاصة وحريتنا وتعنّف النص. يدعونا الكاتب لأن نمتزج بالنص ونذوب فيه لتحقيق غاية فعل القراءة عبر التأثير والتأثر، فقراءةٌ لا تغير في قارئها هي قراءة عقيمة، ونص لا يغير قارئه هو نصٌ عقيم.
بالمجمل كتاب لطيف، لكن يعيبه كثرة حواشيه، واستطراده بلا داعي في بعض الأحيان، ولغة الكاتب كانت متكلفة بالنسبة لي.
ساعد هذا الكتاب في كبح عجَلات النقد لديّ، و أثمَر بداخلي ما يُشبه حسًّا قرائيًا أكثر مرونةً و احترامًا لأدبيَة المقروء. عبرَ تذكيري بأنَّ"مُستقبلَ القراءة هو في أن تكون خاليةً من الكيمياويات المنهجيَّة، و كرّاس الشروط الجاهزة"، مُمتنة لِما مدَّه لي من مُتعة غير مشروطة لكلّ مقروء.