سارقة الابتسامات تقدم المجموعة القصصية " سارقة الابتسامات" مجموعة من الرؤى الحياتية المتجاورة، لتشكل معا لوحة موزاييك تتقاطع فيها ألوان الحياة، حيث المراوحة بين العالم الداخلي للأبطال والخارجي المعاش هو الثيمة الرئيسة في هذه القصص التي تمور بانفعالات شتى يمكن لأي فرد أي كانت مكانته أن يجد فيها تقاطعات مع لحظات مر بها. يبدو الاحتفاء بالألم ورصده جزءً لا ينفصل عن روح تنشج بعمق وهي ترتق فراغات مستباحة ، سواء بسبب ضغط الحياة اليومية أو لأسباب ذاتية غائرة في العمق لترجع إلى سنوات الطفولة والصبا، إلى جانب مرايا المجتمع الثقيلة في سنوات النضج. ومن الواقعية إلى الفانتازيا، يجد القارئ أن الكاتبة قسمت مجموعتها إلى ثلاثة أقسام هي : "أبيض وأسود"، " رحيل"، " رفيف الأماكن"، وفي كل قسم ثمة موتيفة مشتركة توحد بين عوالم القصص وتفاصيلها الصغيرة، هناك ألم المرض الذي ليس له علاقة بالهوية بل بالإنسان ككل،هذا الألم الذي يراوح في تدرجاته بين الجسدي والنفسي في انسجام يتداخل فيه الأبيض والأسود، وهناك الحنين المراوغ، والتاريخ الذي يُسائل الجغرافيا عن تحولات الأماكن وتغيراتها، لتظل الأسئلة مطلقة بلا إجابات يقينية.
سارقة الابتسامات: الحافة بين موت وآخر بعكس القصة الشهيرة تدفع أماني خليل في مجموعتها "سارقة الابتسامات" الصادرة حديثًا عن دار صفصافة سندريلا إلى الهرب عند الثانية عشرة مساءًا بحثًا عن حريتها .. سندريلا التي ليس لديها شيء بحسب أغنية نينا سيمون " "Ain't Got No, I Got Life، والتي تمثل في قصة "الثانية عشرة" ما يشبه تعويذة المقاومة للابنة / الأم في مواجهة الأمير / الأب الذي استيقظ من موته كأنما يقيم حفله الخاص .. تحاول الابنة إنقاذ نفسها، بالانفلات خارج المسار الذي قطعته خطوات الأم، لكنها تدرك أن الأمر لا يتعلّق بها فحسب، وإنما بالحياة نفسها؛ لذا سيتم تثبيت الوقت في القصة عند الثانية عشرة مساءًا كي تصبح لحظة التحرر ممتدة كزمن كوني، وبالضرورة كحقيقة بشرية شاملة .. تكافح الابنة / الأم للنجاة بما لديها ـ بحسب أغنية نينا سيمون أيضًا ـ وهو حياتها / حريتها، أي ما يمثّل الواقع بالنسبة للراوية، والماضي بالنسبة للأم الذي يسعى للمحو، والبدء منذ اللحظة القديمة على نحو مضاد .. ورغم تثبيت الوقت عند الساعة الثانية عشرة إلا أن دقات الساعة كانت تتواصل "كأن حدثًا جللًا سوف يحدث"، وهو ما يشير إلى تحوّل الوقت المثبّت إلى مجاز تحذيري على حافة النهاية أو الموت .. إما أن تحصل هذه اللحظة على أبديتها أو يلتهمها الفناء .. كأن الزمن الفعلي يواصل التقدم حول الوقت الذي تم تجميده، وليس هناك سبيل لإيقافه إلا بتحويل هرب السندريلا إلى وجود أصلي للعالم .. يمكن النظر إلى استخدام سندريلا "المناقضة" للدراجة كدليل على هذه اللعبة .. امتلاك سرعة إضافية لإنجاز الأمر قبل انتهاء الوقت .. الهرب، واستبدال اللحظة العابرة بلحظة ثابتة، وتعميمها كزمن كلي قبل نهاية الحياة .. سيدعم هذا الدليل أيضًا الدم النازف من باطن قدميها نتيجة الضغط على بدال الدراجة .. لم يكن الهروب هيّنًا، وكأن هذه الدماء هي ثمن عدم ترك الحذاء قبل الهرب، أي ما يعادل نزف الحياة ذاتها .. لكنها ليست دماء الراوية وحدها بل دماء الأم أيضًا، ليس لأنها ترتدي حذاء الأم ـ كما في القصة الشهيرة ـ بل لأنها كانت تحمل قدمي أمها أيضًا أثناء الهرب .. على جانب آخر، يمكن مقاربة الدماء بصورة عكسية، باعتبار أن النزيف هو تخلّص من أشباح الإخضاع البدائية التي كان الجسد مسكونًا بها، أما ذلك الذي يشبه التطهّر فقد كان ينبغي إنجازه في أسرع وقت ممكن .. لكن هذه الصورة ليست عكسية على نحو كامل، فهذا الخلاص من الأشباح ـ نتيجة تأصلّها الغيبي ـ قد يعني نزف الحياة ذاتها أيضًا .. ربما يقودنا هذا إلى التفكير في أن التحرر هو الآخر جزء من الموت .. أن الموت والتحرر شيء واحد، كليهما شرط للآخر، حيث تُفقد الحياة، أو الصورة الحية للموت عند محاولة الحفاظ عليها خارج التسلّط المهيمن، أو عند تجريدها من القهر .. كأن هناك ما يشبه الحكمة تتجسّد في رغبة الراوية بنهاية القصة في شراء مشط باللون الأزرق السماوي بينما تفكر في أن الهواء يبعثر شعرها وهي فوق الدراجة .. ربما مشط بهذا اللون سيجعلها أثناء التحرّك بالدراجة أشبه بطائر .. كأنها حيلة لأن تكون هي الإله الذي ليس لديها .. الحكمة التي تقول بأن تلك هي طبيعة الحياة التي تمتلكها حقًا .. الطبيعة الحلمية العاقلة، الكاشفة للتحرر، كمجاز، وكفخ عقابي في مواجهة جنون اليقظة ـ وفقًا لفيسوافا شيمبورسكا في تصدير المجموعة ـ الذي تعود إليه سندريلا كما لو كان كابوس الغياب في نوم عميق. "أصبح الرجل حرًا أخيرً. انفصل جسده تمامًا من الجدار. نزل على الأرض، وسار تجاهي خطوات، وعلى وجهه ابتسامة شبحية. جسده مفرود في كامل أناقته غير المألوفة على المكان، كأنه أتى من ستينيات القرن، أو كأنه مغنّي روك غربي أتى إلى هذه المدينة بسبب خطأ في القدر. خُيّل إليّ أنه يشبه أبي. كان يحاول أن يقول شيئًا، لكني خفتُ بشدة حتى كاد قلبي ينخلع من صدري". علينا أن ننتبه إلى أن الهيئة الأنيقة الملونة التي منحتها الراوية في القصة للرجل المرسوم الذي يشبه أباها، وانفصل عن الجدار "كأنه مغني روك غربي" ليست مجرد سمة احتفالية، عدائية بالنسبة لها؛ إذ أن خوفها الشديد الذي دفعها للهرب ثم الجلوس إلى إحدى موائد المقهى، وشعورها بالصفو والجلال والسكينة، كل هذا لا ينفي أن ثمة من أعطى لهذا الرجل تعويضًا ما عن التصاقه الطويل بالجدار ولو بشكل مؤقت، وهنا يجب ملاحظة استخدام تعبير مثل "يحاول الهرب"، وكذلك "أتى إلى هذه المدينة بسبب خطأ في القدر" .. الرجل يشبه الأب، ولكنه أب يجدر أن يتحرر هو الآخر. "ليس من السهل عليّ أن أخبرك تلك الأمور الدقيقة بيننا الآن، لكن من العدل أن تعرفي كيف كانت الأمور. سنوات انقضت دون أن أحظى براحة النفس، بقبلة شهية، بمضاجعة ممتعة، بنزهة على شاطئ البحر، أو بتربيتة في عيد ميلادي. كيف تملّك الخوف قلبي؟ كيف أكل الحزن ملامحي يومًا بعد يوم؟ كيف حملت هذا البيت فوق رأسي كي أحمي رؤوسكم؟ ليس من السهل أن تنتقلي من بيت أبيكِ إلى بيت رجل يعتبر نفسه أبًا لكِ؛ أنتِ الفتاة المهذبة في حضن أبيكِ، لست العاشقة في حضن رجلها الأثير، الخائفة أمام معلمها، العاصية دومًا أمام قس اعترافها، الباكية أبدًا من ذنب لا تعرفه، التائهة بلا خطى ولا طريق". في قصة "حقائق صغيرة عن السيد بابا" لن نتعرّف فحسب على حياة الأم التي أرادت الابنة تضليلها في قصة "الثانية عشرة"، أو المصير الذي أرادت الابنة أن تنقذ الأم منه عبر العودة لتفادي البداية في القصة نفسها؛ بل سنتعرّف أيضًا على تأكيد لهذا التعويض المؤقت الذي منحته الابنة لأبيها، وذلك حينما نقارن بين "المرض الذي أقعده عن الحركة"، و"حياته التي تسرّبت بين يديه دون أن يعرف معنى السعادة الحقيقية" كما وصفته الأم في قصة "حقائق صغيرة عن السيد بابا"، وبين الحياة التي دُفعت لأوردته، وكذلك حركته، وانتزاع نفسه خارج الجدار مبتسمًا، وفي كامل أناقته في قصة "الثانية عشرة" .. كأنما كانت سندريلا تحقق أمنية أمها في الانفلات قبل فوات الأوان، وقبل أن تحدث القصة من الأساس، وأن تحرم الأمير من أن يكون أبًا آخر، ولكن دون مرض يقعده عن الحركة. "عند أبواب المدارس، تقترب من الصغار. تعرض عليهم الحلوى والعصائر. تسألهم عن ابن وهمي في مدرستهم. تقول أنه مريض وأنها تريد أن توصل له الشطائر التي نسيها بالمنزل، أو تقول أنه نسي دواءه. كان بعض الأطفال يخافون منها ويبتعدون بظهوره، وفي آذانهم نصائح الأمهات وتحذيراتهم من الغرباء، ولكن بعضهم يبقى ويتبادل الحديث مع المرأة، فإذا آمن لها، وضعت كفها على جبهته، وسرقت ابتسامته، بعدها يبقى متجهمًا، عيناه مليئتان بالدموع، ووجهه شاحب للأبد". لهذا فإن الابتسامات المسروقة في قصة "سارقة الابتسامات" هي حيوات تسكن المرأة سارقة الابتسامات نفسها، والتي لا يدري رجلها شيئًا عنها .. سرقة الابتسامات هو الفعل ذاته الذي كانت تمارسه الزوجة / الأم في قصة "حقائق صغيرة عن السيد بابا" .. فالابتسامات المسروقة هي ابتسامات هذه المرأة "السارقة" داخل تنويعات الألم الذي يعيش في جسدها .. نفس أشكال المكابدة المخبوءة للمرأة التي كانت تسرد حياتها مع زوجها لابنتها، ولم تنجح في التملّص منها .. هنا تتوقف المرأة عن أن تكون شخصًا محددًا، وتتحوّل إلى الذات الأنثوية كوجود .. فكرة أو هاجس الحياة عن تعاستها .. الحياة التي تقتل نفسها حينما يكون هناك سبب أزلي ومطلق يضطرها لذلك .. الرجل لن يكون شخصًا محددًا هو الآخر، وإنما يتحوّل إلى الذات الذكورية "الجائعة" واللامبالية .. المبرر المحتمل الذي يجبر الحياة على تدمير نفسها من أجله .. الدافع الاستعبادي الممكن، الذي يبقى متبطلًا دائمًا بعد نهاية هذه الحياة ـ أي حياة ـ ولا يشعر سوى بجوع لن يشبع لمزيد من السعادة التي لا تسرقها المرأة إلا من نفسها. "الخوف وحش عملاق وأنا خائفة. تراجعت عن أن أدس خطابًا لزوجي بين طيّات القمصان، أو في صندوق بريده. كانت تلك الفكرة قد راودتني في الليلة السابقة؛ أن أخبره أنني أريد الطلاق، وأن حياتنا انتهت، وأني لن أخرج من المستشفى للبيت ثانية. لكن ما جدوى هذا الكلام إن مت في النهاية. إن نجوت فسأضطر لمواجهته بما أريد، وإن رحلت، فبلا إجابات أفضل. ربما لو تركت تلك الفقرة من حياتي معلقة بيضا، فسيكون ذلك أكثر نبلًا وعدلًا، وربما لا ينتبه لصندوق بريده بالأساس". يمكن للتحرر، أو بالأحرى للتصوّر الخاص عن التحرر أن يُستبدل بما قد يساعد على الاستمرار في الرضوخ .. على كتمان الألم الناجم عن مواصلة الإذعان .. بما قد يضاعف الألم الناجم عن عدم الانفلات أو التأجيل المرغم للتملّص .. الحلوى مثلًا في قصة "ماكنتوش" .. إنها قد تعادل شيئًا مشابهًا "ابتلعته" الأم في قصة "حقائق صغيرة عن السيد بابا" كي تبقى مكانها .. كأن "ماكنتوش" هي صورة أخرى للموت الذي يبدو أن الراوية قد نجت ظاهريًا منه في القصة التي تحمل الاسم ذاته بعد عملية جراحية .. لذا فالنجاة ليس سوى تنقّل بين الأشكال المختلفة للموت .. هذا ما يتم تمريره عبر قصص المجموعة .. خلق حواف مصطنعة بين ما يبدو أنها الحياة والموت .. حواف وهمية يتم تكوينها من أجل تلك اللحظة التي يكُتشف خلالها أنها مجرّد ظنون تقتضيها مسايرة الزمن .. بين الحرية، والانكماش داخل المصيدة الحتمية .. بين الوقت الذي يخلو من الحياة كمهلة غير معلومة تنتهي فجأة كما في قصة "الخميس التالت"، والموت الذي يعقب هذه النهاية .. الحواف التي تدعي قدرتها على الفصل بين مصائر متباينة بينما الدم ينزف من قدمي سندريلا في جميع الأحوال .. هل أرادت سندريلا ـ بذاكرة الشعر الصبياني القصير كما في قصة "في البيت القديم" ـ أن تقبض على الشراهة الذكورية داخل خيالاتها قبل أن يضع أحدهم بيد خائنة زبدة الكاكاو على شفتيها وهي تحتضر كأنه الاحتفال الهازئ للعالم بيوم ميلادها كما في قصة "رجل زبدة الكاكاو" ـ كأن الراوية في قصة "ماكنتوش" قد ماتت حقًا، وعلى شفتيها زبدة الكاكاو ـ أو يتمادى الشعر الأبيض في قتلها كما في قصة "خيط رمادي"؟ .. حتى يكون بوسعها حينئذ أن تخلع أسنان الرجل عندما تكون أسنانها هي، فتخلّصه من قدرته الراسخة على المضغ، وبالتالي يمكن للابنة حين تساعد نفسها على وضع طلاء الأظافر، أو تعاون أمها على هذا داخل الترام ـ عندما تقوم بذلك الفعل للفتاة الغريبة ـ أن تمتلك أي قدر من الحماية الملتبسة، أو تزيح الإبهام عما يُفترض أنها الحماية؟ .. ربما أرادت أن تمنح الذات الأنثوية تاريخًا مغايرًا بعد ما يشبه فقدانًا تامًا للذاكرة الكونية التي لا تثبّت أبدًا تلك اللحظة التي يتردد خلالها صوت نينا سيمون داخل رأس السندريلا. جريدة "أخبار الأدب" ـ 1 سبتمبر 2019
فتنة الوصف في مجموعة (سارقة الابتسامات) لأماني خليل د. ندى يسري مدرس الأدب العبري الحديث والمقارن بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية تمثل مجموعة (سارقة الابتسامات) للكاتبة أماني خليل نموذجا للكتابة بعين وقلب امرأة، فرغم أن كثيرا من النقاد يعيبون مسمى أدب المرأة أو الأدب الأنثوي، إلا أنّ هذه المجموعة – في نظري- تمثل نموذجا لعين المرأة حين تصف وتحكي وتختار مشاهد بعينها لتلقي عليها الضوء دون الأخرى. وإننا إذا قلنا إنّ هذه المجموعة تنتمي إلى هذا النوع الأدبي فهذا لا يكمن في تخيّر أماني لموضوعات بعينها تخص شؤون المرأة أو دواخلها، فكم من كاتب رجل تحدّث عن المرأة وبرع في وصف مشاعرها، ولكننا إذ نقول هذا فلأن وصف المرأة وزاوية رؤيتها للأمور تختلف، بل وتخيّرها ما تصف -لاسيما في فن القصة القصيرة الذي يكره طول الوصف- يعبّر عن عين امرأة تحيك المشهد وراء المشهد، وتستخدم التفاصيل دونما ترهُل في السرد لتخدم الصورة وتصنعها بعين ماهرة. والحق أنّنا يجب أولا أن نفرّق بين مصطلحين نقديين كثيرا ما يختلطان في أذهان المتلقين، وأحيانا الدارسين؛ وهما: الوصف، والسرد. فالوصف يأتي ليقطع سيرورة التدفّق السردي وجريانه، فيبطئ من حركته وسريانه، ويرى بعض النقاد أنّ الوصف قد يكون أكثر ضرورة للنص السردي من السرد، إذ ما أيسر أن نصف دون أن نسرد، لكن ما أعسر أن نحكي دون أن نصف. ولعلّ كتاب الناقد الفرنسي (فيليب هامون): (في الوصفيّ) يعد من أبرز الكتب التطبيقية في نظرية الوصف، إذ نجد أنّه يحّول الوصف من تقنية مرافقة للسرد إلى تقنية تتصل ببناء القصة ذاتها. ويمكننا أن نقول إنّ السرد ديناميكي حيوي لسيرورة الأحداث وجريانها، يدفع عجلة الزمن إلى الأمام، أمّا الوصف فهو ستاتيكي ثابت يتميّز بجنوحه للتأمل والوقوف. أي أنّ الوصف والسرد نقيضان. فالسرد حيوي دافق، أمّا الوصف فثابت ساكن. أنواع الوصف في (سارقة الابتسامات): 1-وصف الأماكن: المكان مسرح الأحداث، وميدان للكشف عن الانفعالات النفسية، والقاص يستخدم المكان ليشكّل تفاصيل واقع ما يكتب، فهو بالنسبة له ليس مكانا ذا أبعاد هندسية فحسب، بل ساحة للانفعالات النفسية، حيث يصطبغ المكان بشخصياته وطقوسهم. تصف أماني خليل الأماكن في مجموعتها لا لهدف الوصف ولكن لتنقل للقارئ الصورة التي تريد رسمها في قصتها (بقعة شمس عبر انفراجة الشيش): "في الصباح كانت بقعة من الشمس تطلّ على الغرفة من انفراجة الشيش الصغيرة التي انفتحت قليلا بفعل الهواء، لتسقط على الكنبة التي تضمهما معا. رأسه صار ثقيلا على رأسها العاري... ألقت نظرة على المكان حولها، الكنبة، والوسائد والكؤوس ومفاتيح الدراجة النارية، بينما كان هو لايزال يغط في نوم عميق." لا تسترسل أماني في وصف إلا ما يلزم وصفه من المكان، فلا نجد عندها إسهابا يضر بمتن القصة، فكل تفاصيل المكان التي ذكرتها تعمل على صناعة الصورة المرادة عن ليلة حب قطعها ضوء النهار المتسلّل عبر انفراجة الشيش. وفي قصة (قطار أرض الموالح) تمرّر أماني بعض الوصف المكاني، دونما استرسال أيضا لتقدّم صورة عن البلد البائسة التي لم تذكر اسمها، والتي منيت بالأحكام العرفية، لسبب نجهله، وهي لا تسهب في وصف القطار بل تكتفي بذكر أقل القليل من الأوصاف، ثم تتجه لتصف من في القطار، والذين صاروا وكأنهم جزءا من صورة المكان يكملون بؤسه. "كان القطار قد فقد لونه السماوي، وتحوّل بفعل العوادم والدخان وقلة النظافة إلى الرمادي المقبض... كان بعض الركاب يغط في نوم عميق بينما البعض الآخر يقاوم النوم بمحاولات شرب الشاي، أو بالوقوف على مداخل العربات، الليل والإرهاق فعلا فعلهما بالركاب..." وفي قصة(مواسم) يعبّر وصف المكان عن شخصية صاحبته بل وخلفيتها الثقافية والاجتماعية: " البيت أنيق في حي راق توقفت نساؤه عن تلك العادات وزين شرفاتهن ذات البورسلين الفاخر بالورود. كانت هي الوحيدة التي تصرّ على تعليق الثوم وتقول: " سلو بلدنا" تتجه رؤوسها للسماء وعروشها للأرض كأنها في حالة صلاة." 2- وصف الشخصيات: تدخل الأوصاف الشخصية في حساب المتلقي عند التأويل، ذلك أنها تعدّ مكونا من مكونات بطاقة الشخصية لدى المتلقي، والموطن النصي الذي تبنى فيه المعارف الضرورية للكفاءة التأويلية للقارئ والاشتغال السيميائي للنص. وهو ما يحفّز القارئ في بناء الرؤية التأويلية لسلوك الشخصية الحدث القصصي كما في قصة: (خيط رمادي) التي تستخدم فيها الكاتبة تقنية الوصف لتوصل للمتلقي تبدّل حال بطلتها بين عز أبيها وترددها على بيت زوجها غضبا تارة، وصلحا تارة أخرى، وتبدّل الحال بعد موت الأب وترك الزوج لها إلى غير رجعى. " كانت زهرة امرأة فتية الجسد، سمراء البشرة لها حلاوة أبناء الجنوب، كحلاء العينين، بشرتها خمر مصفاة، بلمحة حزن لا تخطئه عين. تجلس زهرة عند أبيها بالاسابيع، تبيع وتشتري معه في دكانته الصغيرة تنظف البيت وتطبخ، تذهب إلى السوق فتشتري للجيران معها، الجميع يعرف ذكاءها تمضي الأيام وهي عند ابيها ثم يأتي زوجها ويعيدها عي والولدين...." تقدّم لنا الكاتبة البطلة وحياتها المذبذبة غير المستقرة من خلال الوصف، بل وتضع بين السطور القارئ في موقف المتعاطف مع زهرة، حيث تجبره من خلال وصف الشخصية جسديا ومعنويا على أن يشعر أنها لا تستحق تلك المعيشة غير العادلة وهذا الزوج مدمن الحشيش. تقوم القصة على تقنية الوصف الشخصي لزهرة لتصبح ركيزة أساسية في البناء السردي، فمن خلال وصف طبيعة شخصيتها التي توحي بالأنوثة الطاغية التي وضعت في كنف رجل لا يستحقها يتعاطف القارئ معها، ثم يصنع هذا التعاطف مقدمة لمصير زهرة القاتم. "كانت زهرة حبيبة النساء من الجارات والأقارب. تعرف زهرة وصفات تنعيم الجلد، وتزجيج الحواجب، تعرف طرقا لتعطير الجلد وتنعيم الكعوب، تفوح منها روائح الخشب والكافور والحناء. تهبّ ريح المسك من إبطها إن رفعت ذراعها، لا تخجل أن تحكي عن ألاعيبها الجنسية مع زوجها أوقات الرضا... تأتي زهرة وتروح على بيت أبيها كل عدة أسابيع، وإذا بدأت مفاوضات الصلح بين الزوج والأب تذهب زهرة للسوق لتشتري الحناء وتعجنها بالماء وماء الورد والحجر الأسود فتختفي الشعرات البيضاء التي تظهر من جانب طرحتها سهوا أو عمدا. يظهر قدمها نظيفا وكعبها محمرا ورطبا وناعما، ملونا بحمرة دم الغزال، إن ظهرت تلك العلامات علمت أن الصلح قد تم..." أمّا حين يتبدّل الحال يأتي الوصف معبرا عنه، ليلقي بالعلامات الواضحة في طريق القارئ ليعرف أنّه بعد موت والدها لا صلح ولا أمل في بقايا أنوثتها التي كانت تتفنن في إبقائها. " خفتت رائحة المسك من جلبابها الأسود، وظهرت شعرات بيضاء من جانب الحجاب الذي أهملت إحكامه على رأسها. مرّت شهور تلتها شهور أخرى امتلأ رأسها بالشعر الأبيض فعرفت أنها لن تعود مرة أخرى."
أمّا في قصة (حقائق صغيرة عن السيد بابا) يتداخل وصف الشخصية من الخارج والداخل مع وصف أفعالها لتصنع صورة مغايرة لما كانت تظنه الابنة عن أبيها وفضحته رسالة الأم لها بعد وفاته. " الحقيقة أنا أعرف كيف أهدرت حياتي السابقة في النظر لوجه بابا الرجل الذي تعرفيه بحق... كان بابا يعمل لساعات طويلة كي يؤمّن معيشتنا في ذلك المستشفى البعيد الذي لم يكن دخله يكفي من العمل فيه يكفي لسد احتياجات بيت بسيط من زوجة وطفلة صغيرة لكنني كنت أدس في جيبه النقود التي أتحصل عليها من مساعدات الأهل كان بابا يشتري لك ملابس العيد إذا ذكّرته أن العيد على الأبواب، نذهب بك إلى حديقة الحيوان إذا أخبرته أنك صرت طفلة واعية تحتاج إلى توسيع مداركها .... " تقوم القصة على عصر وصف شخصية السيد بابا، أو وصف الصورة المستترة وراء شخصية المرحوم السيد بابا ، لا وصفا جسديا أو شكليا بقدر ما هو وصف لشخصيته من خلال المواقف والأحداث التي تعاقبت على الأم. " كان بابا أبا جيدا إذا أخبرته كيف يتصرف كيف ومتى يجب أن نختار اصدقاءك متى ارتفعت حرارتك ومتى يجب ان نذهب بك إلى الطبيب..." 3- لغة الوصف: تعتمد لغة المجموعة على لغة التصوير الشعرية تلك اللغة التي تعتمد على التصوير الاستعاري والترميز واللغة الشعرية القائمة على الانزياحات اللغوية والمفارقات التصويرية فضلا عن المراوحة بين المحكي والمسرود. وتأتي شعرية اللغة في هذه المجموعة لتشف عن رغبة الكاتبة في أن تقدّم الواقعي شديد القسوة في بعض الأحيان في ثوب شفيف يجعلك تتعاطف أكثر ما يجعلك تكره الواقع أو تتقزز منه. وختاما، تأتي هذه المجموعة للمبدعة (أماني خليل) بوصفها نموذجا لسرد التفاصيل الحياتية التي قد لا تسترعي انتباه كثيرين، لكن حوّلتها عين أماني لنسيج حكائي مميز. نشر بأخبار الأدب 28/3/2020
قصص مكتوبة بلغة حميمية ومبهجة أحيانا، وحزينة أحيانا، والقصة التي هي عنوان المجموعة مخيفة، لكن بالمجمل لطيفة قصة مواسم هي أكثر قصة أحببتها في المجموعة .. دفعتني لتجربة سمك الدينيس لأول مرة، لأن القصة لمست شيئا فيني ..