يقول الكاتب: هذه الطبعة الثالثة من "فقه اللغة وسرُّ العربية" لأبي منصور الثعالبي، نرجو أن نكون قد حققنا فيها رغبات أهل العلم باللغة والأدب من عناية بتصحيح متون القسم الأول )فقه اللغة(، ومن نسبة الشواهد إلى قائليها في القسم الثاني: )سر العربية(.ونحن نشكر هؤلاء السادة المخلصين من العلماء والقراء الذين نبهونا على مافي هذا الكتاب بقسميه من مآخذ وأخطاء مطبعية وغير مطبعية، تلافينا جلَّها في هذه الطبعة بحمد الله.
ماذا أكتب وماذا أقول عن هذا الكتاب ، أظنه مرجع من مراجع اللغة العربية، هو معجم ولكن ليس على ترتيب المعجم العادي، حيث يورد الكاتب الكلمات ومعانيها تباعا في فصول محددة، فصل في كذا وفصل في كذا، قرأت نسخة إلكترونية طبعة دار المختار تحقيق يحيى مراد، الكتاب يضم كتابين القسم الأول كتاب فقه اللغة وهو معجم للمفردات ومعانيها ويتميز بالوفرة والكثرة أورد فيه الكاتب ما يتصل بالكلمات من معان تقاربها وأحيانا يورد جمعها أوضدها أو يذكر مفردها، وموردا أيضا مصادره عن فلان أو فلان من أئمة اللغة، متعتي هنا كانت في تتبعي لكثير من الكلمات في عامياتنا العربية لا زالت تستخدم كما هي أو في معان تقاربها مع ما يطرأ على بعض الكلمات من إبدال للحروف لكنها تفيد تلك المعاني الأصلية لها، ومن هنا نقول أن أغلب كلامنا العامي له جذر فصيح، أما القسم الآخر فهو كتاب سر العربية حيث أخذ الكاتب بتتبع سنن العرب في كلامها في أبواب كثيرة من التشبيه والزيادة والاختصار والبدل والتثنية والإفراد والجمع والجناس والتذكير والتأنيث وغيره من أبواب دقيقة ولذيذة في اللغة، موردا شواهدا قرآنية من كتاب الله تفيد ذلك، في كتاب ممتع عظيم الفائدة وكنز من كنوز اللغة، وهو بلا شك يستحق النجمات الخمس إنما قيمته بأربع كون النسخة التي قرأت كانت غير جيدة الطباعة.
فِقْهُ اللُّغَة وسرَّ العربية. هٰذا الكتابُ من كتب قليلة جدًّا، شُغلت بلغة العرب وأساليبهم، ومأثورهم البياني، وخصوصيات البناء والصياغة والاشتقاق، وسائر معهودهم في استخدام اللغة، أداة راقية منظورة لحمل أرقى الرسالات الإنسانية في الدين والدنيا. كتابٌ نفيس، لا يسعُني وصفه!!.
اشتريت هذا الكتاب عندما كنت في الصف السابع أو الثامن بعد أن قرأت اقتباساً منه في كتاب القراءة فقد اعتدت على جمع أسماء الكتب من الحواشي لكنني سرعان ما قمت بتبديله لأنه لم يرق لي وقتها وقد كان أكبر من فهمي .. اليوم أنهيت قراءته بعد أن قمت بالبحث عنه طواعية وفهمت عظمة أن يقوم أحد بجمع وتوضيح كل هذه الكلمات والمترادفات وإيضاح الفرق بينها .. وقد استغرقت قراءته وقتاً طويلاً فقد كنت أقفز من الحماس لأشارك أخي كل كلمة ظننتها عامية لكنها فصحوية وما أكثر مثل هذه الكلمات حتى أنني اكتشفت أن اللهجة المصرية أيضاً قريبة بشكل لا يُصَدَّق إلى الفصحى وقد ظننت قبلاً أن أقرب اللهجات هي لهجة أهل الخليج العربي ومن ثم لهجتنا نحن أهل الشام لكن يبدو أن كلام غالبية بلدان الوطن العربي وثيق الصلة بالفصحى أكثر مما نتصور! وهناك ميزة رائعة في الكتاب هي إعادتك إلى القرآن فمن المعروف أن الكلام في القرآن دقيق جداً جداً إلى درجة أنك يستحيل أن تستطيع أن تبدل كلمة بكلمة مرادفة لها مهما تصورت أن المعنى سيبقى نفسه لأن الكلمات تتفاوت في الدرجات والاستخدام كمثال على ذلك أسماء المطر فالمطر في بدايته له اسم وعندما يكون متواصلاً له اسم وعندما يحيي الأرض له اسم وعندما يكون في مواسم معينة له اسم وإلى آخر ذلك من الأمور التي يصعب عليَّ توضيحها كما أن لكل شيء آخر الكثير من الأسماء وكل اسم بالطبع يحمل معلومة جديدة وسمت جديد ويستخدم في صورة بلاغية معينة وهذا ما دفعني دفعاً إلى البحث عن الكلمات المذكورة في القرآن (الكتاب أشار إلى معظمها) ومقارنتها مع الترجمة الألمانية التي كانت قاصرة في معظم هذه الكلمات عن توضيح المعنى بدقة .. كما أن القسم الأخير من الكتاب أصابني بالذهول الشديد والإحساس بالسعادة الغامرة .. أساليب الكتابة والتشابيه وكل تلك الأمور موصوفة بدقة شديدة ونحن -الناطقون بالعربية كلغة أم- نستخدمها ببساطة شديدة دون أن ندرك أصلاً أن لمثل هذه التراكيب قواعد وأن القرآن الذي نمر على آياته بسرعة يمتلك من البلاغة ما لا يمتلكه أي كتاب آخر مع أننا نعرف ذلك لكن نطقنا بالعربية يجعلنا معتادين على كل هذه الأساليب دون أن نستنكرها كأن نكني عن المثنى بالجمع ونذكر أمرين لكننا نخصُّ واحد منهما بصفة وما إلى ذلك .. وهذا الشيء الفطري الذي نتمتع به هو ما يسمى بإحساس اللغة "Sprachgefühl" الذي يجعل صاحب اللغة الأم يعرف بسهولة استخدام التراكيب ودلالة الكلمات دون أن يدرسها بشكل تخصصي وربما يعجز عن توضيحها لمتعلم هذه اللغة وقد حدث هذا معي أكثر من مرة أثناء تعلمي للغة الألمانية ولم يستطع المدرس -مع أنه خريج قسم الأدب الألماني والتاريخ- أن يوضح لي إحدى القواعد واستخدام بعض الكلمات عينها مرتبطة بالأفعال "Nomen-Verb-Verbindung" .. فهل نقدّرُ يوماً هذه الهبة العظيمة كأشخاص نتقن اللغة العربية -رغم كل مصائب الوطن العربي والضريبة المعاشية لكونك شخص عربي- التي تمتلك ملايين الكلمات بحيث يبدو من المستحيل تقريباً على الأجنبي أن يحيط بفهم هذه الأمور التفصيلية الدقيقة ويتذوق بلاغتها -هذا الأمر حتماً موجود في كل اللغات لكن من البديهي أنني مؤهلة للكلام عن العربية فقط. وهل نتوقف عن النظر لمثل هذه الكتب على أنها كتب قديمة ولا تلزم ونفضل عليها تلك الكتب السريعة التي لا تطلب دور النشر القائمة على طباعتها من الكاتب إلا أن يدفع ويعرف كيف يسوق ويحضر مصمماً بارعاً للغلاف كي يعوض عن مقدار القمامة الفكرية التي سيصطدم بها القارئ! أما القرآن الكريم فهو مسؤولية الأدباء وعشاق العربية وأولئك الذين يفهمون معانيه جيداً ليجعلوه قريباً من فهمنا نحن العوام إذ لا تكاد تقرأ كتاباً يتناول القرآن الكريم إلا ويكون تخصصياً جداً بحيث يشق عليك فهمه والمشكلة لها تبعات كثيرة لاسيما في هذا الزمان الذي وهى فيه التعليم وانقطع الكثير من الناس عن المدارس بسبب ظروف الحرب وفقدوا صلتهم ببلادهم حتى أنك ترى على مواقع التواصل الاجتماعية كوارث في حق أبسط القواعد مثل أل التعريف والتاء المربوطة والمبسوطة "لم أتحدث بعد عن الهمزات" ومن المؤكد أن لا حافظ للعربية مثل القرآن الكريم بحيث أتحدى أي عاشق للغة العربية ومحب لبلاغتها ألا يأخذ القرآن بمجامع قلبه ويجذبه رغماً عنه بغض النظر عن مقدار قراءته (أتحدث هنا عن الفكرة من ناحية المبدأ وليس من ناحية العمل). وأنا أعرف أنه يصعب في بعض الأحيان على المتخصص في أمر ما أن يبسطه لغيره وأن ثمة واجبٌ شخصي تجاه مثل هذه الأمور لا يمكن إغفاله لكن هذا المطلب أصبح ملحاً في هذا العصر الذي يعتقد الكثير من أهله "مع الأسف مثقفوه أيضاً" أن القرآن الكريم كتاب قديم تعاليمه مُختَلف عليها مقاصده مبهمة ولغته قديمة لذلك لا يصح لعصرنا .. ومعاذ الله أن تكون معجزة النبي الكريم آنية أو بعيدة عن حياتنا أو جاءت لتضيق علينا .. ويبقى السؤال الذي لا أستطيع التوقف عن التفكير به: من أين جاءت اللغة العربية؟؟