من غياهب الماضي , أيقظ حسنين بن عمّو العلامة عبد الرحمن بن خلدون ,ذات غروب , ليحكي له مجددا سيرة حياته بدء بدروب نشأته بتونس إلى متاهات المغامرة شرقا وغربا في البلاطات وفي الخلاءات. وليذكر ما لم يفصح عنه في لحظات التأنّق والتألّق , كما في لحظات القنوط والهبوط , وليستعيد الذكريات عن حياته الثرية رفعا وحطّا كأنك تعيشها مع رجل طبّقت شهرته الآفاق فاخترق الازمان والأوطان وانتصب حاضرا في الأذهان مقلّبا صفحات كتاب الخلود كأنه مازال يستقرئ الآتي وكأنه مازال يكتب عمّا فات , وكأنما حكايته التي يرويها لك همسات قرب لا كلام غربة وانبتات.
حسنين بن عمو روائي صنع تفرده في الساحة الأدبية التونسية من خلال نهجه دربا صعبا و هو الرواية التاريخية التي حمل لوائها في العالم العربي الكاتب جرجي زيدان،وذلك باشتغاله على فترات تاريخية هامة من تاريخ تونس مثل العهد الحفصي والعهد العثماني و أجزاء من الفترة الاستعمارية فأثمر روايات عديدة لعل أشهرها : “باب العلوج” و”حجام سوق البلاط”و”باب الفلة”و”الكروسة”و “رحمانة “و”قطار الضاحية” و”فرسان السراب”و”الموريسكية “. و أغلب هذه الانتاجات نشرت مسلسلة في الصحافة التونسية منذ ثمانينات القرن الماضي ومنها ما طبع فملا الدنيا وشغل الناس على غرار باب العلوج ورحمانة والكروسة وذلك للأسلوب التشويقي الذي يستعمله بن عمو وحسن توظيفه للوقائع والأحداث والشخصيات التاريخية التي يعرفها الناس. كاتبنا تحولت العديد من أعماله إلى مسلسلات إذاعية آخرها “الموريسكية” الذي تبثه حاليا الإذاعة الوطنية، كما نال هذا الروائي جوائز أدبية وطنية هامة تتويجا لمسيرته في الكتابة التي جاوزت الثلاثين سنة . حسنين بن عمو يحمل صفة إبداعية أخرى يكاد لا يعرفها الجمهور و هي صفة الرسام فمحاورنا أقام العديد من المعارض في السبعينات ثم إنقطع نهائيا و عاود الظهور في 2009 من خلال معرض شامل لمسيرته في الرسم احتضنه رواق بلال بالعاصمة .
سيرة العلامة ابن خلدون في نص هو أقرب لمقالة ويكيپيديا مغالية في التفصيل منه إلى الرواية الأدبية. ذهبت إلى الملك الفلاني، سقط الملك العلاني. صرت حاجبا عند هذا، أضحيت قاضيا عند ذاك الخ. أحداث أحداث أحداث شحيحة المادة إلا من مقاطع سريعة لا تغني من جوع، يقف الكاتب عندها ليستنتج أن أمة الإسلام متفرقة شذى بسبب المصالح الشخصية وأن الحل في الاتحاد، أو ليضمّن مقطعا من المقدمة يفضح المسافة العظيمة التي تفصل أسلوب كتابة البطل وأسلوب الكتابة التي وضعت على لسانه.
ولست أشك طبعا في مدى التدقيق التاريخي الذي ذهب إليه حسنين بن عمو. ذلك أن ولعه بالتاريخ يفوق ولعه باللغة. وإجلاله للحدثِ أكبر من إجلاله للكلمة. ولكن، لا أظن التاريخ كافيا لاكتمال عمل الأدب، حتى لو تعلق الأمر بسيرة تاريخية.
إنني أعتقد أن الغروب الخالد، هو سيرة حسنين بن عمو نفسه المتخفية وراء حياة ابن خلدون، وإني لأراه يتماهى كثيرا مع ابن وطنه ورفيقه في التعلق بالتاريخ، فيحكي ربما عبر سيرة العالمِ، قصته هو ونوازعه، وربما ما أراد أن يكونه لو أنصفته الأيام. وأنى يكن مقصده اللاواعي، فأني لا أغلظ بالقول بفشل المحاولة. فما يفترض أن يكون السيرة الذاتيةَ لواضع علم العمران وقوانينه، لم يزد كثيرا عن الإخبار وقصر عن النظر والتحقيق.
الزمان هو القرن الرابع عشر للميلاد و المكان مغرب متطاحن متهالك . وباء الطاعون و جحافل الأعراب و عساكر الإسبان من جهة و سلالات متصارعة على إرث موحدي ضائع . بنو حفص في تونس وبجاية وبنو مرين في فاس وبنو نصر في غرناطة و بنو عبد الواد في تلمسان ، سلالات لا يستقر ملوكها على عرش إلا وقد طوحتهم التحالفات المرتجلة بين حلفاء الأمس وأعداء اليوم أو المؤامرات غير المتوقعة . أبناء و أشقاء و حجاب يتقاتلون .. وبين هؤلاء وهؤلاء صبيان يقذف بهم للواجهة لحمل وزر دول لا تحمل من مظاهر الملك إلا الإسم . في هذا الجو المحتقن و المنذر بخراب قادم و في هذه الفوضى العارمة ، تمخض المغرب عن آخر أمجاده ومفاخره ... خاتمة العصور المجيدة و آخر حبة نظمت في سرب آن أوان إنقطاعه . في بيت حضرمي أندلسي طوحت ببنيه الأقدار و سيوف النصارى إلى حاضرة تونس ، ولد ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون الحاجب والقاضي و الفقيه والسفير و المؤرخ وصاحب العمران والذكر السائر . هل أراده المغرب هدية وداع قبل تقهقره الوشيك ؟ أم أنه عبقرية نزلت قبل أوانها ؟ في هذه الرواية تتبعنا حياة ابن خلدون بأماكنها المختلفة من زقاق " تربة الباي " إلى حواري القاهرة عبر بسكرة وبجاية و تلمسان وغرناطة وقرطبة وفاس وقلعة بني سلامة و دمشق و مكة وغيرها .. ووظائفه المتمايزة من الحجابة والكتابة و القضاء وقيادة الحملات . كل هذا سيلعب دورا جوهريا في نحت شخصية ابن خلدون، والأهم ان جعبة التجارب الغزيرة هذه ستكون المعين الأول - قبل مكتبات فاس وتونس والقاهرة ودمشق - الذي استخلص منه العلامة أحكامه واستدلالاته التاريخية . ابن خلدون إنسان قبل كل شيء وهل يرجى من إنسان، نهبت الأعراب في بوادي تلمسان ماله وركابه بل وثيابه ورمته للقفار أين ناله مرض التهاب المفاصل ، أن يغفر لها ويصفح ؟ طبعا لا فالملوك تنتقم بالسيف والنطع أما العلماء فتنتقم بالقلم والمداد . وهكذا فعل صاحبنا . الكاتب هنا لم يتتبع تجارب وتحصيلات ابن خلدون العلمية بقدر ما تتبع مسيرته السياسية . ذلك انه كان رجل دولة بالأساس و صفة العلم التي لازمته ولازمت أسرته من قبله لم تكن إلا معطى أولي أهلهم للاضطلاع بالوظائف السياسية ليمثل بذلك الأنموذج المثالي لمثقف السلطة في العصر الوسيط ، وعلى هذه السليقة كبر وكبر معه طموحه في بلوغ مواقع النفوذ و تحقيق حلمه الأكبر ألا وهو توحيد بلاد المسلمين المتشرذمة ، حلم توسمه في أبي عنان و أبي سالم المرينيين وغيرهم من أمراء بجاية بل وحتى في سلطان التتار الأكبر تيمورلنك .. ولكن مع كل تجربة يخوضها إلا ويصل لنتيجة واحدة ألا وهي الفشل . فالبلاطات المغربية المتهالكة والمنخورة بالسوس والدسائس وملوكها المتلاهون باللذات والصراعات الجانبية و الداخلية لم يستسيغوا تلك الرسالة ولا كانوا أهلا لها ، فهل يرجى من عبدالرحمن الفقيه الضعيف أن يقوم بها ؟ فهو مثقف لا سليل قبائل العرب والبربر المحاربة . وهنا استوعب حكمة التاريخ وعمقه .. ليضع أشهر نظرياته في التاريخ والسياسة والاجتماع : "لا ملك دون عصبية ". فنيا نقف أمام إشكال تقليدي في الرواية التاريخية وتحديدا السيرة التاريخية ، أي عدم وضوح العقدة أو الحبكة لنميل للقول بأن العقدة تختزل في حلم ابن خلدون الساعي إلى تحقيقه ، على مستوى الشخوص الرواية هي رواية البطل الواحد والمحوري وكل الشخصيات الأخرى لا توجد إلا لوجوده . ولكن رغم ذلك فالرواية غاصة بشخصيات متنوعة و متمايزة تماما كابن خلدون ، وهي نقطة تحسب لهذا العمل فرغم قصره إلا انه قدم الكثير من أعلام تلك الحقبة . إذ بالإضافة للسلاطين والملوك - وقد ذكرنا بعضهم سابقا - ظهر الفقيه المالكي ابن عرفة خصم ابن خلدون و الآبلي وابن زمرك وخاصة لسان الدين بن الخطيب . ذلك الرجل الطلعة و خاتمة الحكمة الأندلسية و أحد اهم من أثر في ابن خلدون فكريا و وجدانيا ،الأمر الذي أفرد له بن عمو فصلا كاملا. إجمالا يمكن القول أن الرواية و من خلال دقتها التاريخية ، تصلح أن تكون مدخلا نموذجيا لدراسة ابن خلدون و تمنح صورة واضحة المعالم لسيرته لمن يروم تتبع فكره . فابن خلدون وان غاب بدنه وغربت شمسه منذ قرون إلا أن فكره وعلمه ظل خالدا .. وككل غروب تذهب الشمس ويبقى سحرها .. وابن خلدون شمس من شموس المغرب .
" ما الحياة إذن؟ وما معناها إذا لم تدرك أنك أعقل عاقل في خوضة مجانين ؟ " هكذا أنهي تجربتي الثانية مع الكاتب التونسي حسنين بن عمو وهي تجربة محمودة ومميزة.. الغروب الخالد هي رواية عن سيرة العلامة عبد الرحمان إبن خلدون ، يرويها إبن خلدون بنفسه بتوسّل الكاتب ضمير المتكلم في سرد الحبكة الروائية. يتكلم إبن خلدون عن سيرة حياته المليئة بالأفراح والأتراح ، بالملاهي والمآسي و بالتشريفات والنكبات. عبر 57 عاما من حياته الممتدة لقرابة ثلاثة أرباع القرن. كانت كافية بثراء تجاربها لإفراز قريحة العلامة وبما تفتق عنه ذهنه ليؤلف لنا مؤلفاته المشهورة. ما شدني للرواية هي بُعدها عن جمود السير الذاتية المعروف وذلك بإعتماد ضمير المتكلم محرّكا للسرد ، فبن عمو أحيى إبن خلدون من قبره ليحكي لنا بنفسه سيرة حياته بلغة سلسة وبسيطة جدا . غير أن الرواية - وحسبما أرى شخصيا - تتجاوز مجرد كونها سيرة ذاتية ، بل تطرح قضايا ومواضيع أعمق. ففي الرواية نجد عرضا خفيا لعلاقة المثقف بالسلطة ، بل وتساؤلات عن دور المثقف ومهمته تجاه المجتمع وتجاه الدولة. ( قصة ابن الخطيب وحتى مجن ونكبات ابن خلدون نفسه ) بل لم يلبث أن يجعل الدولة نفسها مركز التساؤل سواء في بنيتها ( تمركز السلطة بيد رجل واحد : السلطان او الحاجب - سلطة العصبية القبلية ) أو في علاقتها مع المثقف و رجل الدين والرعية. صدرت الرواية سنة 2006 وأعتقد أنها جسارة وإمتياز للكاتب بإدخال هذه المضامين للرواية بشكل رمزي في ذلك الوقت اي زمن حكم بن علي. ( هذا لو صحت نظرتي للرواية ) لكن هناك ما يعيب الرواية بعض الشيء وهو الاسترسال بعض الشيء في سرد الأحداث التاريخية وكأننا أمام كتاب تاريخي وليست رواية تاريخية. وأيضا نوعا ما غياب وصف الأمكنة أو الملابس أو الأبنية في الرواية قلّصت حسب رأيي محاولة الكاتب إزالة الجمود عن سيرة إبن خلدون الذاتية... ومما أعاق تمام إندماجي مع الرواية. عموما هي تجربة أدبية محمودة جدا وأنصح الجميع بقراءة روايات حسنين بن عمو.
صفحاتٌ خفيفة الظلّ عذبة اللغة والحكي ترسم بها ريشة حسنين بن عمو لنا ابن خلدون التاريخ والسيرة بإيجاز لا يخلو من أنسٍ وتشويق، يصاحبها شيئ من ابن خلدون الإنسان، وشيء من ابن خلدون الذي يشارك الكاتب التراث والهوية.. رحلة عمرٍ بمحطاتها الأهم وأسفارها وسنينها وأيامها، معدودةٌ مُرتبة.. تبدأ بغروب الشمس على أسطح مدينة تونس مشهودا من أعلى صومعة جامع الزيتونة المعمور وتمر بمغارب كثيرة على البر والبحر لتستقرّ أخيرا بمصر.. تغلبُ على الكتاب صبغة الدقة التاريخية على حسابِ الإبداع التخيُّلي الذي يسمحُ فيه الكاتب لنفسه بالتأليف والتخيُّلِ في صُلبِ إنسانية الشخصية وينأى السردُ عن كل ما لم يُدوَّن تاريخيا وما لم يُحدّد وقتُه واسمهُ وما لم يثبُت أصلُه وهو ما لم أعتدهُ في حكي حسنين بن عمو عندما ينسُجُ خياله شخصيات ككواكب صغيرة تدور في مجرات الزمن الأعظم.. في هذه المرة يحكي لنا ابن خلدون الثابت والمتحرّك في معمعة حكمٍ إسلاميّ متردّ لا يثبتُ على حالٍ يستعيرُ عراب الرواية التاريخية التونسية لسان ابن خلدون لا ليحدّثنا عن ابن خلدون وحسب، بل ليحدثنا عن أنفسنا الخاضعة لقوانين التاريخ، الغافلة عن الفكر واللغة والهوية..
وأقتبسُ عن قلمه ما يلي: • وتساءلتُ في قرارة نفسي سؤالا ألحّ عليّ: كيف لهذا الوجه المليح أن يخفي نفسًا خائنة؟ الحُكمُ عقيمٌ ياابن خلدون، وأعقم منه رجاله، فمن أجله تعمى البصائر والقلوب ويضحّى بالعزيز للفوز به..
بدأت أدرك وأنا في بجاية أسباب تزعزع السلطنة الحفصية بإفريقية ودوام انقسامها وأسباب انهزام السلطان الراحل أبي الحسن المريني، سلطان المغرب، بسبب كثرة العصبيات العربية والبربرية بهذه الأوطان، فهؤلاء وخصوصا البربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تُحصى، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر، فكيف لدولة مهما كانت قوتها أن تتحكم في هؤلاء؟ ••
" كان خلوي إلى نفسي بمثابة ضرب سياط لعقلي كي يستفيق متسائلا عن أصول الأشياء والكشف عن الأسباب وما يترتب عنها من نتائج والبحث في العمران البشريّ ودواعي نشوئه وأسباب انحلاله..""
"أنا أمام الملك القشتالي والمترجمُ ينقلُ عني الكلام، ��كتشفت أمرا هاما غفل عنه الكثير من أهل السلطة واللغة عندنا من الذين يزعمون أنهم علماء، كأنهم يحملون لوحدهم مشعل المعرفة وما دروا ان بهم نقص، جهلة بالآخر، وأنا منهم.. أدركتُ ساعتها أنني مبتور الجناح لأني بحاجة إلى الآخر يترجمُ لي وعني"
رواية بعبق مختلف، بكتابة إيقاعية و لغة تتناسب و الحقبة المذكورة. نحن بصدد التعرف على العلامة عبد الرحمان بن خلدون الطموح، المغامر، الحالم بتوحيد المغرب تحت راية الإسلام، المتعطش لٱستعادة أمجاد آل خلدون و الأندلس بإنهاء سنوات التيه و الشتات. لكن تلاعب القدر بأحلامه و نخر روحه و عقله داء السياسة. كان في خضم الأحداث السياسية و تلاطماتها فأصبح جزء ا من التاريخ. سيرة مفاجئة لما كنت أتخيله عن بن خلدون،حيث تتناول جوانب صادمة من حياته كانت قادحة لولادة مؤلفه الخالد:المقدمة.
قراءة هذا الكتاب كانت بمثابة رحلة عبر الزمن . نقلنا فيها الكاتب الرائع حسنين بن عمو إلى عالم المؤرخ و العلامة الفذ عبد الرحمان إبن خلدون و قام بإحيائه (مجازيا ) ليسرد لنا ما شهده خلال ترحاله و أسفاره المتعددة. كما وصف لنا ما حصل بمختلف البلاد اللتي زارها من تصارع و تطاحن على الحكم طمعا في السلطة . أخبرنا عن حلمه الأسمى بتوحيد بلاد المغرب و هو الهاجس الذي كان يدفعه لتقلد مناصب رفيعة في العديد من البلاطات و الممالك التي مر بها . كما أنه أطلعنا على ما مني به من علم و معرفة من خلال معاصرة العديد من رجال الدين و العلماء و الفقهاء و كيف كان تأثير كل منهم في حياته وشخصه . كل هذه الظروف و العوامل مهدت لعملية إستخلاص الحكمة من التاريخ و العمل على قرائته و التعمق فيه و إستنتاج العديد من النظريات التي قرر بطل الرواية فيما بعد أن يدونها و ذلك من خلال تأليف "مقدمته" الشهيرة و الغنية عن التعريف. في الكتاب طرح للعديد من التساؤلات أهمها تحري دور المثقف في الحياة السياسية و علاقته بالسلطة و بالمجتمع و مدى تأثيره في تسيير أمور الدولة . أنصحكم بقرائته لتبين كل هذا و أكثر . حتى و إن لم تكونوا من أحباء الروايات التاريخية فإنه سينال إسحسانكم لا محالة .