ربما يكون إصدار طبعة جديدة ومزيدة من كتاب المفكر اللبناني علي حرب الآن ضروري في مرحلة تغلي بالأحداث السياسية والأزمات الدولية والاضطرابات الاجتماعية التي تشهدها الساحات الجماهيرية على المستوىالعالمي والإقليمي والمحلي، يستكمل من خلالها الكاتب ما بدأه في الطبعة السابقة من (ملاك الله والأوطان) في مقالات تتناول قضايا فكرية تتفتح على غير حقل ومجال، بقدر ما هي قراءات في المتغيرات العالمية على غير صعيد وفي غير نطاق.
يقول علي حرب : في كلمتي لتقديم هذه الطبعة الجديدة والمزيدة، بوسعي القول إن الأزمة العالمية التي مدارها الكتاب تزداد تعقيداً واستعصاء، بقدر ما هي أزمة كيانية بنيوية تتعلق بالهويات وأنماط ممارستها أو بالأفكار وطرائق إدارتها. من هنا ألخص قراءتي للواقع الكوكبي بكلمات ثلاث: التخبط والتورط والتواطؤ، سواء أكان ذلك على المستوى العربي أو العالمي.
هذا ما تشهد به معالجة التحديات الجسيمة والمشكلات المزمنة من جانب الدول الكبرى والقوى اللاعبة على المسرح: فالعجز فاضح، سيما في مجال الأمن؛ حيث البشرية تغرق في بربريتها المعاصرة، وبشكل خاص كما تمارسها الأصوليات الإسلامية الجهادية والأنظمة العربية الشمولية، وهي وجهان لعملة واحدة؛ من حيث إدارة الأمور بعقل أحادي، وعنصري، وفاشي.
والبربرية - بالمنظور الوجودي - صنيعتنا جميعاً. هي ما نمارسه من تأله لكي نحصد كل هذا التوحش. إنها حصيلة الأنا النرجسية والنفس الأمّارة والفردية الطاغية، كما هي حصيلة الهوية الموتورة والعقيدة المغلقة والثقافة العدوانية. بهذا المعنى، الكل متورطون ومتواطئون، والكل يصنعون النماذج التي يدّعون محاربتها.
من هنا، يتابع المؤلف - لم تعد تجدي المعالجات بما هو سائد من الأفكار. فمفاهيمنا للهوية والحقيقة والحرية والديمقراطية والمجتمع المدني تحتاج إلى إعادة نظر، بالأخص مفهومنا للإنسان الذي نعلي من شأنه وندافع عن حقوقه. فما يحدث اليوم ويصدم - من فنون الرعب، وصناعة التعذيب، والقتل - يسجل نهاية الإنسان الروحاني والمثالي؛ كما تشهد عليه فضائحه وكوارثه ووحشيته.
هنا مكمن العلة وبيت الداء: نماذج القداسة والعصمة والبطولة والعظمة والنجومية، التي نصنع بها إنسانيتنا، بعقلية التملك والقبض والتحكم. هذا ما ينبغي كسره والتحرر منه لفتح آفاق ومساحات تتيح بناء أو صوغ مفاهيم ومعايير وقواعد جديدة ومختلفة للمشترك البشري.
يتألف الكتاب من إحدى عشرة مقالة جاءت تحت العناوين الآتية: 1- عصر الأزمة: الهوية والحقيقة، 2- الكتابة الفلسفية بالعربية: الإنجاز/المأزق/الرهان، 3- المشهد الفلسفي: التحولات والتحديات، 4- النقد مهمة دائمة: من نقد العقل إلى نقد النص، 5- تحليل الخطاب: فيض المعنى، 6- تحديات العولمة: المشاركة في صناعة الحضارة، 7- البعد المتعدد: علمانية أم ليبرالية، 8- مشروع التنوير وإخفاقه: مكر التاريخ أم حدود الإنسان، 9- منابع العنف: ملاك الله والحقيقة، 10- نهاية المشروع الديني: مأزق الأحزاب الإسلامية، سقوط العدوان الإسلامي، المفتاح تحت الباب، 11- التنين الإرهابي من يصنعه؟: ثالوث الطاغية والمرشد والمثقف، وأخيراً، خاتمة الكتاب: نهاية الإنسان الروحاني والمثالي: الأبواب والمخارج.
كاتب ومفكر علماني لبناني, له العديد من المؤلفات منها كتاب نقد النص و هكذا أقرأ: ما بعد التفكيك ويعرف عنه أسلوبه الكتابي الرشيق وحلاوة العبارة. كما أنه شديد التأثر بجاك دريدا وخاصة في مذهبة في التفكيك.
وهو يقف موقفاً معادياً من المنطق الصوري القائم على الكليات العقلية التي يعتبرها علي حرب موجودات في الخارج وليست أدوات وآليات فكرية مجردة للنظر والفكر. فهو يتبع منهج كانط في نقد العقل وآلياته وبنيته الفكرية.
منذ فترة وأنا أحاول الحصول على كتاب (علي حرب) بعنوان (أوهام النخبة)، ولم يأذن الله بعد. في هذه الأثناء رأيت هذا الكتاب إلى جانب كتاب آخر هو (خطاب الهوية)، وهو مجموعة مقالات ورسائل ألقاها الرجل في محاضرات وكتبها في صحف أو حوليات، فقلت هذا مدخل جيد لفكره، بالإضافة إلى أنّه جديد الإصدار وهذا يعني أنّه يشمل كثيرًا من الأفكار في صورها الأحدث والأنضج. بدايةً أسجّل رفضي لعنوان الكتاب على الرغم من فهمي لمقصد الكاتب بالإشارة إلى أؤلئك الذي يعتبرون أنفسهم أوصياء على علاقة الله بخلقه، أو أوصياء وقابضين على دلالات الغيب ومعانيه، أقصد عبارة "ملّاك –الله" تعالى الله عن هذا، يَملِك ولا يُملَك. فتقديسنا لله يفرض علينا الحذر في كلّ جملةٍ يرد فيها اسمه العليّ المبارك. ويبدو أنّ الكاتب بعيد عن الإيمان بالله ودينه، وأراه في قراءته للقرآن يجتزيء ولا يشمل (ولربما كان مردّ هذا إلى قراءته التفكيكية للقرآن، والتي لا أراها تتوافق في بعض آلياتها مع طبيعة القرآن العظيم) أمّا الكتاب فهو في غالبه إطلالةٌ رائعة على عالم فكريّ غنيّ يحمله الرجل، وقد وجدتُ فيه كثيرًا مما كنت أعبّر عنه بلساني وحديثي من نقدٍ "للنخبة" المثقفة، وبنقدٍ للمفكرين العرب بالذات، ووافق "فلسفيًا" ما أشتغل عليه منذ مدّة من دراسةٍ للاعقلانية العقل. لغة الكتاب جميلة سلسلة محبّبة، ومواضيعه مُعاشة لا متخيّلة، وهذا ما نحتاجه من مفكّر يسعى للتأثير والتغيير، لا للتنظير فقط. ومع انتهائي أجدني أشدّ إلحاحًا في متابعة نتاج هذا الرجل، والإطلاع على جلّ هذا الفكر بإذن الله.
خلاصة القول: مانحتاج إليه ليس الدخول في التاريخ، بل الخروج منه بسراديبه وكهوفه، من أجل صناعة الحاضر.. فنتخلى عن عقلية الكتالوجات نحو عقلية مفتوحة تكسر النماذج السائدة وتفتح الأبواب الموصدة، وتحررنا من أوهام النماذج والمرشدين والتنانين البشرية نحو المستقبل الأحسن، مستقبلنا نحنُ .. . . كتاب رائع وأسلوب عرضي بأفكار متماشية مع الحداثة الفكرية، يعيبه فقط التكرار في بعض النقاط
† الفكر الحي هو تفكر وارتداد، وهو توتر وتقلب، بقدر ما هو خلق وتحويل.
† لم يعد مقنعا استخدام نفس العدة الفكرية، في مواجهة المشكلات المتراكمة والأزمات المزمنة. فما فشل أو استهلك، من الرؤى والروايات أو من المفاهيم والعناوين، يحتاج إلى التبديل والتغيير، أو إلى إعادة البناء والتركيب.
† أنا أبتكر إذن أنا أكون.
† لم يعد السؤال: من أكون? بل كيف أكون?
† الأحرى أن تعامل الأفكار كنمط من الوجود الحي ينفتح على كل الصعد والمجالات، أو كنتاج معرفي خصب وثمين يشارك فيه الفاعلون في مختلف القطاعات، كل بحسب مهنته وخبرته وإنجازه. والأحرى أن تعامل كفعل مبدع يسفر عن خلق المعطيات والموارد أو الشروط والوسائل التي تمكننا من الإقامة والحضور والعيش معا في هذا العالم الأرضي الكوكبي. ومَن هذا شأنه يفكّر بعقل مدني، سلمي، تبادلي، فلا يعمل بعقلية الانفراد والاستقواء أو الاقصاء، بقدر ما يعمل بمفردات التعدد والتنوع أو الشراكة والتداول أو التركيب والتحول، سواء في ما يخص العلاقة بين مكونات المجتمع وفئاته وقواه، أو في ما يخص العلاقة بين الجماعات البشرية والهويات الثقافية، أو فيما يخص المقاربات والخيارات المتعلقة بحل المشكلات أو بتحسين شروط الحياة.
† ان أكبر الأخطاء وأفدح الخسائر تأتي من المتألهين، ممن يدّعون احتكار الحقيقة ويحتقرون الناس، من الفلاسفة والأنبياء، القدامى والجدد.
† نحن لا نعيش في كهوف التاريخ وسراديب الماضي، بقدر ما نقيم في العالم، بفضاءاته وأمكنته ومسارحه ومنصاته ومنابره... فإما أن نسيء الإقامة فيه بتحويل معطيات وجودنا إلى عوائق ومآزق، وإما أن نحسن الإقامة، بالاشتغال على أفكارنا وعلى وقائع حياتنا، بخلق معطيات جديدة، تتيح لنا أن نتغيّر لكي نحسن إدارة المتغيرات ومواجهة التحديات. ولذا لا عودة، إلى الوراء، كما نتوهم، لا إلى صدر الإسلام ولا إلى العصر الجاهلي، لا إلى العصر العباسي ولا إلى العصور الوسطى، لا إلى عصر الأنوار الغربي ولا إلى عصر النهضة العربي. إن أهل هذه العصور قد عاشوا أزمنتهم بسياقاتها وظروفها، بمفاهيمها وقيمها، بأدواتها ووسائلها... وأما الذي يريد العودة إلى ما مضى، على سبيل المماهاة والتطابق، فإنه يخدع نفسه ويجهل هويته، لكي يحصد العجز والإخفاق، بقدر ما يتعامى عما هو مندرج فيه أو منخرط في صنعه في واقعه الراهن. والحصيلة هي تخريب الحاضر وتلغيم المستقبل.
† العطل كامن في الافكار، ما دامت علاقتنا بوجودنا هي علاقة فكرية.
† ان الحقيقة ليس مجرد معرفتنا بالواقع على نحو مطابق، بل هي ما نقدر على اختراعه وصنعه أو انجازه وأدائه، لغة ومفهوما، أو تخيلا وتركيبا، أو إدارة وتدبيرا. الأمر الذي يضع حدا لمزاعم الوصول إلى الحقيقة التي هي مسار وبناء، أكثر مما هي قبض وتملّك. ولذا، فهي تبقى قيد المراجعة والتشكيل والتحول. وتلك هي إشكالية الحقيقة ومحنة المعنى: من يبحث عن الحقيقة النهائية يضل عنها، ومن يدّعي القبض على المعنى لا يحسن سوى انتهاكه.
† ان الفكرة الحية، الخصبة، ليست هي التي تطبق وفقا لما هو مرسوم أو مخطط، بل هي التي تخضع للترميم أو التطوير، في ميدان الممارسة وعلى محك التجربة.
† في داخل كل منا يستوطن عنصري أو فاشي أو بربري أو أحمق أو مجنون أو فاسد أو مخطئ، بقدر ما يعتور كينونتنا من النقص والجهل أو النسيان والنفاد، وبقدر ما تنسج إنسانيتنا من الطمع والجشع والتكالب أو من التطرف والتعصب والتشدد.
† المشكلة ليست في غياب الإنسان أو نسيانه، من قبل هذه الجماعة أو تلك، أو هذا المذهب أو ذاك. المشكلة هي في الإنسان نفسه: في كونه ليس على مستوى ما يدّعيه من القيم والمبادئ أو ما يدعو إليه من العقائد والشرائع، يستوي في ذلك، صاحب المشروع الديني والمذهب العلماني. فنحن نعاني من فرط إنسانيتنا بمختلف صورها العلمانية والدينية، الماورائية والغيبية، اللاهوتية والناسوتية.
† وعقيدة الاصطفاء هي الآفة والجرثومة الفتاكة، كونها تزّين لصاحبها أو لمن يؤمن بها، بأنه وحده يملك مفاتيح الحقيقة والايمان أو الهداية والاستقامة، وأنه وحده هو الأصدق والأحق والأشرف والأفضل، أما الآخرون فهم على ضلال أو من أهل النفاق والبدعة والكفر...
† وهذا هو مآل المعتقد الاحادي، الأصولي، الاصطفائي: الاستبداد، الإرهاب، الالغاء الرمزي للآخر، استئصاله الجسدي كما هي الحالة القصوى. والمخرج هو تفكيك هذه العقيدة، التي لا تولّد سوى التخلف والفقر والعنف. والبداية هي الاعتراف بأن الأصل ليس الوحدة، بل الاختلاف والتنوع والتعدد، وأن الهوية الحيّة، الغنية، هي التي تُفهم وتُمارس بصورة مفتوحة، حرة، متحركة، متجددة، عابرة، بوصفها أمام المرء، لا وراءه، أي قدرته على الخلق والخرق والتجاوز، وعلى النحو الذي يمكنه من صناعة ذاته وممارسة خصوصيته، بصورة مثمرة وبنّاءة، راهنة وعالمية. وأما الهوية التي تُمارس بمنطق المماهاة والثبات والعبادة للأصول والنصوص، فإنها تصنع الحروب وتحول الناس إلى قطعان بشرية، بقدر ما تتحول إلى مأزق لأصحابها.
† ان الإنسان لا يولد حرا، بل يولد ويحمل معه سلسلة قيوده وأغلاله من المحرمات والعادات أو من الأنظمة والمؤسسات. وهكذا فالأصل هو القيد والاستعباد. وأما الحرية فهي صناعة وتحويل وعمل متواصل لتفكيك القيود، تماما كما أن الاختلاف هو الأصل، وليس الوحدة والمماهاة.
† المثقف يفكر ويعمل بعقلية نرجسية تجعله يتماهى مع من يفكر على شاكلته أو من يثني عليه، ويستبعد المختلف والمعارض، تماما كما يفعل الحاكم الذي يطارد أو يلاحق معارضيه.
† في ضوء الشواهد الفاضحة، أتساءل: هل نحن حقا نحب الحرية والعدالة والحقيقة. من السذاجة أن نصدق أنفسنا. فالمرء، سيما المثقف المصاب بآفة النرجسية وعشق الذات، لا يحب الحرية، بقدر ما يهوى الفرادة والتمايز والتفوق وممارسة النفوذ أو السيطرة. وتلك هي إشكالية الحرية: نحن ندّعي عشقها ولا نعمل إلاّ على ما يؤول إلى إلغائها. الأمر الذي يعني إعادة النظر في المفهوم، من وجهين: الأول أن الحرية ليست نقيضا للسلطة أو ضد النظام. فمن لا سلطة له لا حرية له. والذين تصوروا الحرية كفردوس ليبرالي وقعوا ضحيتها أو استبدوا بها. الثاني ان الحرية ليست طبيعة فطرنا عليها، أتى مَن سلبها منّا، وإنما هي شيء يبنى بصورة متواصلة، بالعمل والمراس، بالكدّ والجهد، بالانتاح والانجاز، بالصناعة والتحويل. بهذا المعنى، فالذي يمارس حريته هو الذي يجترح قدرته ويمارس فاعليته وحضورها، بما يخلقه من الوقائع، في حقل عمله، أو محيطه، أو مجتمعه، أو في العالم. ولذا لا حرية لمن لا دور له أو رأي أو صوت.
† لا وجود لفراديس على هذه الأرض. لأن الأصل هو الهوى والطمع أو الاستبداد والتمييز. وأما العقل والحرية والمساواة والشراكة، وسواها من المزايا والقيم والقواعد، فإنها ثمرة عمل متواصل على الذات والمعطيات أو على الشروط والقيود، بالجهد والمراس والصناعة والتحويل أو التجاوز والتركيب. ومع ذلك، فهي مجرد قشرة خلقية أو حضارية يسهل تمزيقها وانتهاكها. إنها أبنية هشّة تحتاج دوما إلى إعادة البناء، على سبيل التعزيز والإثراء والتطوير.
† ان فكرة خصبة واحدة، قد يكون لها مفاعيلها التنويرية والتحررية أكثر بكثير من عشرات الخطابات التبجيلية دفاعا عن الذات، أو الهجومية تبخيسا بالغير.
† أنا من جهتي لم أعد أستسيغ مفردات النخبة والصفوة والعبقرية والعملقة والبطولة، وسواها من ألفاظ التفخيم والتعظيم. مثل هذه الألقاب ليست علامة القوة والغنى والعلوّ والامتلاء. بل هي، على العكس، تصدر عن نفوس غير سويّة يعتورها الضعف والهشاشة والنقص. وهي، إلى ذلك، تفضح أصحابها الذين يرفعون شعار المساواة أو الدفاع عن مصالح الناس وحقوق الإنسان، فيما هم لا يحسنون سوى ممارسة التمييز والإقصاء، بقدر ما يعتبرون أنفسهم الأحق والأعلم والأفضل والأشرف والأرقى... وهذا مبنى النخبوية: احتق��ر الجمهور واحتكار المعرفة، تنزيه الذات وإلقاء التبعة على الغير.
† ان النتاج الفلسفي قد أسهم في تشكيل الوعي والثقافة، لدى شرائح واسعة من القراء أكثر مما فعله الأدب والشعر.
† ان الفلسفة ليست ثقافة تخص أمة دون أخرى أو شعبا دون آخر، وإنما هي عالمية بالتعريف، من حيث منتجها من المناهج والمدارس أو النظريات والمفاهيم.
† لو كانت الحرية طبيعة لأصبحت ضرورة، ولما كان لها معنى أصلا. ذلك أن الحرية هي نتاج وعي ونمط من التفكير وشكل من أشكال اهتمام الإنسان بذاته وبعلاقته مع الآخر، أي هي ثقافة، بمعنى أنها اشتغال دائم على الذات والوقائع بالجهد والمراس على النحو الذي يتيح للمرء أن يمارس سلطته وفاعليته وأن يكون له دوره وأثره. ولذا فالحرية ليست فردوسا ضائعا نستعيده، بقدر ما هي مسار من الإبداع والتحوّل والبناء لا يتوقف.
† المتنوّر هو من يملك الجرأة على استخدام عقله، أو يمتلك قدرا من الاستقلالية الفكرية، على نحو يتيح له الخروج من قصوره أو تحرره من أشكال الوصاية التي تخنق حيويته أو تقتل طاقته الخلاّقة.
† ان مشكلة العقل هي داخلية، بنيوية، إنما تكمن في بداهاته الخادعة أو قوالبه الجامدة أو أنساقه المغلقة أو ممارساته المعتمة أو آليته اللامعقولة... وهذا يعني بأنه لا توجد عقول صافية يفسدها شيطان يسوس كما حسب ديكارت، أو عقول محضة خالية من شوائب التجربة كما حسب كنط، وإنما العقل هو ملابسته للامعقولاته واشتغاله عليها لجعلها معقولة، أي هو مراس ودربة وصناعة وتحويل...
† والنقد الفلسفي يتوجه أولا نحو الذات. وهذا هو معنى التفكير الذي هو ميزة الإنسان: ارتداد الواحد على فكره ومراجعته لما يعرفه بالمساءلة والمراجعة أو بالتأمل والتفكك. أمّا نقد الحاكم أو الكاهن، فهو نقد خارجي برّاني. وهكذا فإن مشكلة الفلاسفة هي بالدرجة الأولى مع أفكارهم التي يمكن أن تتكشف عن قصورها أو تُستهلَك ويعتريها الصدأ. من هنا حاجتها إلى الفحص والدراسة، بالعودة النقدية على الذات. من غير ذلك تتحول الأفكار الخصبة إلى قوالب جامدة أو إلى مذاهب مغلقة، وربما إلى متاريس إيدولوجية تعمل على نفي الواقع وتمويه المشكلات. بهذا المعنى، ليست مشكلة العقل في خارجه، كما ظن فلاسفة عرب، وإنما تكمن في داخله، إذ العقل لا ينفك عن إنتاج لامعقولاته من الأوهام الخادعة والمسبقات المعيقة أو الممارسة المعتمة. من هنا حاجته الدائمة إلى مراجعة منتجاته وإخضاعها للنقد، من أجل تطوير صيغه وتحديث أدواته أو توسيع آفاقه.
† ان الفكرة الفلسفية، ليست مجرد تماسكها الشكلي أو قانونها الذاتي، بقدر ما هي طاقتها على خلق مجالها التداولي، بحيث تفعل وتؤثر بقدر ما تُختبر وتوضع على المحك، إنْ في حقول المعرفة أو في ميادين الممارسة. وهذا شأن الفكرة الخلاّقة، الحية والخصبة. إنها تسهم في تغيير المشهد على مستوى من مستوياته، بحيث تغيّر صاحبها وتغيّر علاقته بسواه، وتخضع هي نفسها للتجدد أو للتغير والتحول، بخلقها وسطا للتداول أو مساحة للتبادل، أو بترجمتها إلى أداة للمعرفة أو نموذج للتنمية أو قواعد للحياة المشتركة.
† من يفكر بعقلية نخبوية لا يسعه أن يحرر سواه، وإنما يريد استتباعه أو السيطرة عليه، بل يحاول احتقاره من حيث لا يعقل. وهذا شأن من يدّعي امتلاك الحقيقة واحتكار الوعي والفهم والعلم: احتقار الناس بالتعامل معهم كجمهور لا عقل له يحتاج إلى من يفكر عنه ويقوده. هذا مبنى النخبوية الفكرية، أي الجانب المعتم والخارج عن دائرة الضوء.
† من لا يحسن صناعة نفسه لا يمكن أن يُسهم في تحرير سواه أو في تغيير واقعه وبناء مجتمعه.
† شأن العمل الفلسفي من حيث مفاعيله: قد يوقظ الواحد من سباته ويتيح له ممارسة حيويته الفكرية، بالتمرّس على التفكير النقدي المستقل، وعلى نحو يحرره من عقلية القطيع، بقدر ما يحرره من أوهام اليقين القاطعة. مثل هذا اليقين المطلق هو الذي يخلق المجال لولادة الهويات المغلقة والعصبيات الفاشية والأصوليات الإرهابية والقطعان البشرية. وقد يتعدى مفعول العمل الفلسفي ذلك، إلى ما يتيح لمن يتمرّس بقراءته التفكير بصورة مغايرة، لتشكيل وجهة نظره أو كتابة نصه وبناء عالمه الفكري.
† انه بالرغم من كل عهود التعليم الخلقي والإرشاد الديني والتنوير الفلسفي، يزداد العنف وينتشر الإرهاب على المسرح الكوني. والتصدي لهذه المعضلة، يحمل الواحد على الإقرار بتناهيه ونسبية آرائه، كما يحمله على التخلي عن الادّعاء باحتكار الحقيقة وتجسيد القيم، وحده دون سواه. ومَن هذا شأنه لا يتعامل مع هويته بمفردات المماهاة والثبات والنقاء الثقافي أو الاصطفاء العقائدي، بل يفكر بمنطق "الاعتراف المتبادل"، ويتعامل مع الآخرين بلغة الحوار والتداول والشراكة، أكانوا شركاء في الوطن أو نظراء في الإنسانية.
† وإذا كان للعنف أساسه في الطبع الحيواني، إذ هو مبرمج في "الجينات البيولوجية"، فهناك عنف رمزي مصدره "الشيفرات الثقافية"، هو الذي يفسر كيف أن الإنسان هو أشرس من الحيوان بما لا يقاس، في ما يمارسه من العنف، ذبحا وحرقا وبترا، أو رجما وسحلا وسلخا.
† ...المسؤولية تتعدى المعترك السياسي لتطال جبهة الثقافة: نمط الوعي، منظومة الإدراك، طريقة التفكير، سياسة الهوية، النظرة إلى الآخر... فنحن صنيعة أفكارنا وضحاياها في الوقت نفسه.
† الأصولية هي المنبع الأساسي لإنتاج العنف ونشره.
† لقد بدأ الأسلام دينا ودولة، ولكن هذه الصيغة لم تعد صالحة، في هذا العصر، إذ من المستحيل أن تدار الدول وتبنى المجتمعات بتصورات الماضين للعالم ونماذجهم في العيش وأنساقهم الفقهية. لا مجال للعودة إلى الوراﺀ، بعد أكثر من قرنين من الانخراط في العالم الحديث والإفادة من منجزاته، إلا على سبيل الزيف أو ممارسة الإرهاب. من هنا فإن طرح الشعارات الدينية، أو السعي لأسلمة الحياة، انما هو مشروع يعمل ضد الدولة والمجتمع والحياة. أكثر من ذلك. فالدين بات مشكلة لأهله، بالدرجة الأولى، لأن تنظيم الحياة وبناﺀ الأوطان على أساس العقائد والشرائع الدينية، ولكل عقائده ورموزه، انما يوقظ الذاكرة الموتورة ويحرك الفتن النائمة ليغلب منطق العصبيات المغلقة والهويات الفرعية على المنطق الوطني الجامع، فاتحا بذلك نفق الحروب الاهلية، سيما في البلدان ذات التركيب المجتمعي المتعدد، الطائفي أو المذهبي. من هنا فإن قيام الدولة المدنية، العلمانية، المحايدة، والتي تبنى على أساس المساواة في المواطنة الجامعة، والتي لا تتبنى عقيدة طائفة معينة، قد بات مطلبا لا مهرب منه واستحقاقا لا يمكن ارجاؤه، لأنه يردع الطوائف عن بعضها البعض، بقدر ما يتيح لها أن تمارس خصوصياتها الثقافية بحرية، ولكن تحت سقف القانون لا فوقه ولا ضده. بذلك ينفتح المجال لكي يمارَس الدين، لا كمشروع سياسي أو مجتمعي، بل كمشروع خلاص فردي، أو كنظام خُلُقي جامع، أي بوصفه حقلا من الحقول المجتمعية يتفاعل مع بقية الحقول، لا أكثر ولا أقل. وهذا أفضل له ولأهله وللبشرية جمعاﺀ.
† التقليد لا ينتج سوى تشويه للذات أو مسخ للغير.
† انه لا واقع يتغير، إن لم تتغير أفكارنا عنه، أي علاقتنا به، إذ الفكر الفعال هو بوجه من وجوهه علاقة بالحقيقة وصلة بالواقع.
† المفكر هو الذي يخرج على منطق الهوية والعقيدة، ويمارس خصوصيته على نحو عالمي، بقدر ما يثير أسئلة حقيقية، أو يبتكر صيغة فذة على صعيد العلاقة بالوجود، أو ينتج مفاهيم خارقة في قراءة العالم والتعامل معه.
† العمل الذي يتمتع بالفرادة والأصالة والجدّة، هو لكل الناس، سواء كان الأثر لأفلاطون أو لابن خلدون، لابن سينا أو لديكارت، لابن عربي أو لهيدغر. بهذا المعنى أسعى إلى تجاوز الثنائيات السائدة على ساحة الفكر، كثنائية الأصالة والمعاصرة، أو التواصل والانقطاع، أو الإسلام والغرب، وسواها من الثنائيات القاصرة والخادعة، التي تعرقل عمل الفكرة وتموّه حقيقة المشكلات. فالمهم عندي أن أجدد فكري. ولا فرق عندي أن أشتغل على الفارابي أو على ديكارت...
† مهمتي أن أبتكر وأجدد، لكي أمارس علاقتي بوجودي على سبيل الفاعلية والحضور والازدهار، شعاري في ذلك: أنا أخلق إذن أنا أكون.
† وهذا شأن كل شعار يتحول إلى أقنوم يقدس أو صنم يُعبد. هذا مآل كل عنوان يعامَل بوصفه حقيقة مطلقة ونهائية: أن يتحول من شعار للتحرير، إلى آلة للاستعباد...
† القداسة هي غطاء للحجب والكبت، بقدر ما هي مصنع للعنف والإرهاب...
† الليبرالي ليس هو الذي يرى إلى المجتمع بتعدد مكوناته وتياراته وقواه، وحسب، بل هو الذي يرى إلى هويته بوصفها منسوجة من التعدد والتوتر والتعارض، بحيث يملك وعيا مضادا يرتد به على أفكاره، لكي يفكر بطريقة مختلفة، في ما يحدث ويستجد، أو يتشكل ويتحول، كي لا يستعمره إسم أو أصل أو نموذج.
† التاريخ يصنعه كل الفاعلين، بصرف النظر عن مهنهم ومواقعهم وقدراتهم، تماما كما أن التاريخ، كعلم أو فن، لم يعد يقتصر على تاريخ العظماء من الملوك والأبطال والفاتحين أو من الأنبياء والرسل والقديسين، فضلا عن الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين... وإنما هو تاريخ الإنسان العادي ورجل الشارع، كما هو تاريخ المجتمع بكل دوائره وهوامشه وعوالمه السفلية المستبعدة أو المنسية. وما يستبعد يفعل بصورة مضاعفة وفاضحة، سلبا أو إيجابا.
† نحن لسنا ضحايا نفايات التاريخ، بل ضحايا الادعاءات الطوباوبة والتمويهات النرجسية أو التشبيحات المثالية للفاعلين الاجتماعيين، كما تتجسد على السواء، لدى الحداثيين والتراثيين من أصحاب المشاريع التنويرية والتقدمية، أو من أصحاب المذاهب العلمانية والأصوليات الدينية، لدى مُلاّك الأوطان والقضايا أو مُلاّك الله والكتب المقدسة.
الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات متنوعة قرأ من خلالها علي حرب المشهد الفكري، والفلسفي والسياسي الراهن بفكر بنيوي ونقدي.
هذا الكتاب يدور حول فلسفة المعنى والخَلقْ الفكري المتولد من النقد الذاتي للفكر أو الفكرة في عملية توالدية مستمرة عبر مقاربات عقلية لا تسعى للمحاكمة أو الإدانة بقدر ما تسعى لتشريح وتفكيك العلَة في الأصل( الذات والموضوع) باجتراح أسئلة جديدة، وإثارة الإرث الفكري والعقلي للخروج من مأزق الاصطفاء والتأليه الأحادي في الرؤية والفكر الشمولي . بمعنى آخر سعى للخروج من الفكر والعقل الممنهج، بتجاوز الثنائيات وإعادة تعريف الأشياء.
والمواضيع التي استفاض بها عبر قراءة المجريات، وفهم الوقائع وتشخيص المشكلات ونقد النقد" من نقد العقل الى نقد النص" هي ( الهوية - التراث- الموقف من الآخر- الحداثة والعولمة-الديمقراطية بتياراتها الأيدولوجية والمجتمع- الاستنارة والحرية - الانسان والانسانوية). وذلك بتوظيف أو استخدام العقل التداولي و المنطق التحويلي وغيره.
علي حرب ذو فكرٍ تنويري. سعى من خلال هذا الكتاب الى تخليص القارئ من داء تجنيس العقول وأسلمة المعارف، بحسب التقسيمات القومية او الدينية، كما في مشاريع نقد العقل العربي او الاسلامي او الغربي، بمجابهة الفكر بالفكر وإعمال العقل بنقده وتهذيبه.
من الكتابات العظيمة التي قرأتها هذه السنة .. ، أول كتاب لي مع السيد حرب وبالتأكيد لن يكون الأخير ..، أنا سعيدة جدا بالكتاب فنادرا نجد كتابات عربية عظيمة وجادة ..، العيب الوحيد في الكتاب هو وقوع السيد حرب في بعض التناقضات فلقد عاب الاخرين من مثقفين او اصحاب ايدلوجيات او مشاريع ثقافية بالنرجسية وهو وقع فيها رغم تبريراته الدائمة بنفي ذلك ..، كما انه عاب عليهم النظرة الطوباوية للمجتمع وعاب الاحادية ووقع في ذلك فهو يتوقع من المجتمعات ان تحمل نفس الفكر النقدي التفكيكي الذي يتبناه وكلنا نعلم انه من المستحيل أن يتفق الجميع على منظور واحد او رؤية واحدة ولابد من الاختلاف والتنوع والتفاوت الفكري بين الناس ، كما انني اعيب عليه في رؤيتة الضبابية لأمور كثيرة منها الحقيقة التي يؤكد مرارا أن لا احد يمتلكها .. من يمتلكها اذن ؟؟ وكيف السبيل لإحقاق الحق بين الأحزاب او التيارات الفكرية والأيدلوجيات التي تمزق المجتمعات والحقيقة غائبة ؟؟ انا اعتقد أن الحقيقة موجودة والطرف الأصح هو من يثبت وجودها بالبراهين العقلية والمادية والعلمية الصارمة