سلمان الجربوع - شاعر ومترجم من السعودية (الرياض، 1978 ). يحمل ماجستير اللسانيات من جامعة كوينزلاند في أستراليا وبكالوريوس اللغة العربية وآدابها من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض. صدر له: ضباب أليف (2018)، ومحاولة حائط للتعبير عن قلقه (2016). وفي الترجمة: أساطير الخريف (2019)، ثلاث روايات قصيرة للكاتب الأمريكي جيم هاريسون.
علي القول أولًا إنه ليس كمثل محاولة حائط، لكنه كتاب رفيق بالروح، يجدر به أن يكون جليسًا في لحظات التعب! ما زال مسكونًا بهاجس التفاصيل الصغيرة التي تصنع اللوحة الكاملة للحياة، الظل، والهامش وإجازة نهاية الأسبوع، والقلق. من الواضح أن الشاعر قد جرب نمطًا مختلفًا في جزئه الأول، فالشعر أقرب إلى التفعيلة منه إلى النثر الذي خص به الجزء الثاني بقصائده القصيرة، مثل طرفة عين أو مغلاق عدسة آلة التصوير، أو حتى الغفوة يحظى بها النائس وحده! هذا كتاب دمث، ورغم أن الوصف غريب ليطلق على كتاب، فإنه حقيقي للغاية من وجهة نظري على الأقل...
في المحاولة الأولى كان التعبير عن قلق الحائط ، بذات التفاصيل الملتوية والخادعة والمدهشة والبراقة يطل سلمان من الضباب الأليف أو النائس وحده في حديقة النوم ، من العنوان يبدو تضخم الأفكار ، حالات الولادة البطيئة ، كتاب بعنوانين ، شيء مثير ، نعم ، بالتأكيد لا يتكرر الأمر كثيراً ، لكنه يصعّب المهمة على القارىء ، إذ أنه يخطر في بالك على الفور ، أنه لابد من أن يكون الكتاب رائع ، مدهش ، عبقري مثلما قرر أن يكون بعنوانين . كما عودني سلمان شخصياً على التقاطاته الشعرية ، فاجئني هنا في أكثر من مكان وبأكثر من وسيلة ، مثلما يتحسس أعمى حبيبته في الوداع ، وخلف زاوية الشارع الجانبيّ من الفجر ، وحينما قرر أن يتحدث عن الروح قال : وهل تعرف الروح ، أم تدعي ، أم تجدف يا صاحبي ؟ من يدري . انتقل سلمان في ضباب أليف الى مستوى شعري آخر بين قصيدة النثر والتفعيلة والقصائد الموزونة ، كما يظهر جلياً في القسم الأول من الكتاب ، وأما عن الالتقاطات الشعرية فهناك الكثير والكثير كما في قصيدة " ليلي الذي مضى " حيث يقول : حملني الليل الذي مضى ليلي كله جاء في ليلة واحدة ليلي الفقير قلبني في يديه على وجهي وهزّني كأن طفلاً يفرغ حصالته . وفي " شبح المدينة " يقول : الرياض تحاصرني مثل عادتها بالوجوه التي تتشابه في كل شيء وتُفرغني من أناي كما يفرغ الليل أقماره من رحيق الضياء .
وأما في القسم الثاني من الكتاب ، الذي بدأه ب " لماذا تأخرت يا عازف الناي ؟ " انتقل سلمان الى التعبير عن الشعر وكتابته ، عن الطاولة واحتمالات وجودها ، عن حكمة النرجس ، عن المريد الحائر الذي يسأل شيخه الأكثر حيرة : السحابة كشفٌ أم حجاب ؟ ، عن الغروب وحنان الشاطىء ، عن طريق البيت وتعرجات خطوط الولادة على بطون الأمهات ، عن الابتسامة التي تُطيرنا في التقاسيم ، بعيداً جداً ، عن عاشق طينتها الذي يشاهد سقوط الملائكة كلما اهتز نهداها ، وعن التلويحة ، والدوار في معرفة الإجابة عن " كم حقيقةً في الحقيقة ؟" ، عن لا أقسم بهذا البلد ، وعن وعن وعن ...
تنوع شعري لا ينقطع ، وقطرات مكثفة لمطرٍ سينهمر عليك بين الصفحات ، وأتمنى أن لا ينضب المنبع إلى الأبد .
بين سطوره تتنفس اللغة ببطء، وتتعثر، وتنهض من جديد، كما يفعل المرء حين يحاول أن ينجو بشيء من صوته في عالم يبتلعه الضجيج!
وتعليقا عليه أقول:
وكان له من اسمه نصيب: ضباب أليف
تموج قصائده في دوحة الشعر يدركها الفهم حيث شاء إن استطاع إليها سبيلا
وإلّا؟ فلوحةٌ شعريةٌ يغطيها الغبار لها قيمتها ولكن إليها يضلّ الطريق
كأنّ غموضه ليس بعيب .. بل ستار أُسدل فاختبأت خلفه بنات أفكار له من حجبهن مراد أدركت بعضه وحال بيني وبين بقيته الكثير
أو لعلّه بإبهامه اشتهى أن نضلّ قليلا؟ لنرى بعد ذاك الكثير
سطور كثيرة مجاز وتشبيه وإسقاط وصورة رموز وفيرة توارَت خلفها كلماته كمن يخشى الوجود تلوّح ولا تُمسك تهمس لا تُفصح تُغوي القارئ بسُكر التأمّل يناجيها فلا ينال منها إلا شُعاعًا حقائق لا تُكتب إنما تُلمَح بين السطور
أراد الحقيقة فروى الحقيقة وأظنّه قد أصاب كبد الحقيقة في مقتلٍ ذات مرّة… فما من حقيقة سراب ممهور بتوقيعه: ضبابٌ أليف
ورغم تقييمي الضعيف لهذا الكتاب، إلا أنني حين بدأت أكتب مراجعتي، وجدتُها - دون وعي أو سابق قصد - تمتد كأنها جزءٌ منه، لا تعليقٌ عليه! كأنما استحضرت روح الديوان، وكتبتُ بلغته. وإن لم يكن للشاعر من كتابه إلا هذا الأثر، لكفاه.
الجزء الثاني من الكتاب أحلى من سابقه. "بحكمة من رأى نهاية كل شيء نحني أزهار النرجس أعناقها منساقة إلى الموت كأنما في كل نسمة تهب مقصلة تهوي كأنما عليها وحدها يقع وزر الربيع."
ما أجمل هذا الشعر. كتابة رشيقة سِمتُها التعب. هنا القصائد هادئة ومتوازنة، وكأنها كتبت بحكمة من رأى نهاية كل شيء فعلاً. القراءة الأولى لسلمان الشاعر، وأبحث الآن عن "محاولة حائط للتعبير عن قلقه" لأني لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي