لقد نشئت الأجيال المتأخرة على مسلمات وأفكار ما كان ينبغي لها أن تجد إلى الأذهان سبيلا لولا الجهل المفرط بالتاريخ، فنرى الغالبية العظمى اليوم تسلم بأن اليونانيين القدماء هم من قعّدوا القواعد العلمية وأسسوا الأسس المعرفية، ثم أخذ الغرب أساسات العلوم عنهم فطورها وعمل على الإستفادة منها، فأبدع مهارات الاستكشاف الآفاقية، وتفنن في الإختراع والتكنولوجيا، ومن ثمّ فالمسلمون لا ناقة لهم في التاريخ العلمي ولا جمل، ولا يتعدى دورهم عبر التاريخ حدود الوحشية والدموية، وأن التقدم العلمي لا يتصل بهم من قريب ولا من بعيد، فمسيرة التطور والتطوير شأن غربي صرف على مدار التاريخ لا ينازعهم فيه أحد، وأن الغرب هم حملة الحضارة وممثلوا التقدم والمدنية!!. وبينما تعيث مثل هذه الأفكار فساداً في أذهان الأحيال الصاعدة وتزويراً للحقائق التاريخية، نجد هذا العالم الرحالة الذي يجيد الغوص في بحار التاريخ العميقة يأتي بالكنوز المفقودة والدرر المسلوبة فيجلوا الصدأ عن العقول ويدحض التزوير المبطن في تاريخ العلوم، فيعرف المسلمين بما قدمة أجدادهم من إنجازات علمية، وكيف أنهم ساهموا في عملية التحديث والتطوير ولم يستكنفوا عن حمل الأمانة العلمية طيلة فترة سيادتهم العالمية، فكانوا منارة العلم والمعرفة التي تمتد آثارها إلى عصرنا الراهن. نعم فهدا الكتاب ليس سيرة شخصية، وإنما جولة تاريخية وثائقية منصفة في التاريخ العالمي للعلوم.
ما قام به العلامة فؤاد سزكين لا يتسنى لأحد من أهل عصرنا فعله و ينوء به العصبة من الباحثين الأفذاذ. الكتاب يقدم ما يشبه السيرة الشخصية فى القسم الأول منه يعرض أبرز المحطات فى حياته
الأولى مع نهاية المرحلة الثانوية وقد عزم على الالتحاق بكلية الهندسة،غير أنه دعي لحضور ندوة بقسم اللغة العربية فى جامعة إسنطبول حاضر فيها المستشرق الألماني" ريتر" ويخرج وقد غير وجهته ليكون تلميذا لدى ريتر في قسم الدراسات الشرقية ،ينهل من علمه ويتعمق أكثر في العلوم التطبيقية ومن ثما فى تاريخ العلوم عند المسلمين ليفنى حياته فى طلبها حتى بلغ مأربه وحصل على قصب السبق. وعمل بعد تخرجه من الجامعة حتى يحدث انقلاب ١٩٦٠ ليطرد من الجامعة مع المئات من الأكاديميين. ليكون هذا التحول الثانى الأهم في حياته وهو إنتقاله إلى ألمانيا وبالتحديد فرانكفورت ليحط رحاله فى معهد تاريخ العلوم ١٩٦١ ثم ينتقل لجامعة ماربورج مدرسا بقسم الشرقيات ثم يستقر أخيرا بمعهد تاريخ العلوم بفرانكفورت . وينشر المجلد الأول من مشروع عمره"تاريخ التراث العربي" ١٩٦٧ والذي لقي ترحيبا وثناءا كبيراً وتوالى نشر الكتاب حتى وصل ل ١٦ مجلدا ! لم يكتف بهذا الإنجاز العظيم لكن سعي فى تحول جهود الباحثين فى مجال تاريخ العلوم الإسلامية لتكون فى إطار مؤسسي،فقام بتأسيس معهد لتاريخ العلوم الإسلامية ( معهد تاريخ العلوم العربية-الإسلامية بفرانكفورت )،وفوق هذا ولنشر الوعى والتأكيد على أهمية إسهامات المسلمين بين عموم الناس فى أوربا أولا ألحق بالمعهد متحفا الآلات العلوم الإسلامية ليتم وضع فيها نماذج مجسمه لما أخترعه المسلمون على مدار تاريخهم فى مجهود جبار من العلامة فؤاد سزكين أصبح واقعا يراه الناس،ثم كرر هذه التجربة فى تركيا وبني متحفا على نفس المنوال وصل ما تم صناعته ٨٠٠ آله فى متحف ألمانيا !
تطرق المؤلف لبعض آرائه السياسية وأفكاره وتوصياته وختم الكتاب بجولة وثائقية في اختراعات المسلمين.
اقتباسات : - "ولقد تعلمت الروسية بعد عامى الثالث والخمسين،والبرتغالية بعد عامي الستين،ولم أتمكن من فهم المصادر الأصلية المكتوبة بهاتين اللغتين إلا بعد ذلك." ص١٦٩ - لما سئل بتوصية لما كان ف مؤتمر بالكويت من ٢٥عاما قال:"أوصيكم أولا بالزهد الحقيقي،أي التنازل عن النعم الدنيوية،وربما كان بإمكاني أن أعيش في ظروف أفضل،لكنني منذ ثلاثين عاما أخرج من منزلى فى طريقي إلى المعهد وأنا أحمل حقيبتي وبداخلها قطعة صغيرة من الخبز فقط،وعندما أصل إلى المعهد أخرج هذه القطعة الصغيرة من الخبز وأتناولها مع قطعة صغيرة من الجبن أو المربي الخالية من الدهون،لتكون هذه وجبة غدائى التي لا يستغرق تناولها عشر دقائق،وثانيا أوصيكم بالصبر الجميل،حافظوا عليه وضعوه نصب أعينكم"
-سألنى -يعنى أستاذه ريتر - بعد يوم أو يومين من بدء عملي معه قائلا :كم ساعة تذاكر فى اليوم يا فؤاد،فأجبته : أذاكر ما بين ثلاث عشرة ساعة إلى أربع عشرة ساعة يوميا،فرد على بقوله: لن تستطيع أن تكون عالما بهذا الكم من المذاكرة،إذا أردت أن تكون عالما فعليك زيادة عدد هذه الساعات. فبدأت بعد هذا الكلام مضاعفة العدد تدريجيا حتى زدتها إلى سبع عشرة ساعة.
-يقول فؤاد سزكين نقلا عن ريتر : إذا أردتم الكتابة سريعا تكتبون دون وضع النقاط على الحروف،لكن هذه الطريقة تصعب عليكم القراءة كثيرا،فهذه السرعة هي سرعة العلماء،ولا يستطيع قراءة المؤلفات المكتوبة دون تنقيط سوى العلماء،وأما السرعة الثانية فهي الكتابة بالتنقيط دون التشكيل،فكتابة هذه الطريقة وقراءتها سواء بسواء فى المستوى والسرعة،وهى مناسبة ومقبولة لدى عامة الناس،السرعة الثالثة هى تلك التي تكتب بها الكلمات منقوطة ومشكلة وهى موجهة للمبتدئين وميزة هذه السرعة أنه بإمكانكم ملاحظة أخطائكم بسهولة لكن كتابتها تأخذ وقت أطول،ثم ألتقط الأستاذ ريتر ورقة وكتب اسمه بالحروف اللاتينية ثم مازحنى قائلاً: هذه هي سرعة الحمار،ولا يمكن الكتابة فى اللاتينية إلا بهذه السرعة أما المؤلفات المكتوبة بالعربية فقد دونت بطريقة مدهشة،إذ تتمتع بسرعات وطرق مختلفة فى الكتابة عبر هذه السرعات الثلاث.