" حشرة تتخلق من الليل .. من رغبة الناس في النوم بلا فزع .. من الأصوات الخافتة التي تنبعث من المنازل دون قصد .. عيونها عشرات النوافذ في البنايات التي لا ينبعث منها جميعا إضاءات : نوافذ مضاءة .. و نوافذ أخرى مطفأة .. تماما مثل البقع التي تظهر في العين .. عين الحشرة التي تَحُط فوق المدينة دائما في الصباح تطير .. أعرف هذا لأن صوت طنينها يختفي .. في مرة سوف تطير بالمدينة معها .. و نصحو جميعا و نحن في عش مظلم لزج .. و عشرات اليرقات تستعد لالتهامنا ، لأنها تحتاج أن تكبر .. لتصبح حشرات غير مرئية تطن في مدن أخرى"
خفيفة ورشيقة. مثل ماعهدنا من حرف ضيف فهد. الاختيارات الدائمة للقراءة عندما أشعر بالملل. إنه دائماً يكتب كمن يريد قتل الملل ويصل إلينا هذا الشعور بالتأكيد. أزعجني كيف انتهت سريعاً.
مجموعة ضيف فهد "جدار على امتداد العالم" تحتوي أربعين نصاً سردياً بين النص القصير جداً والنص متوسط الطول، وكما تتفاوت في الطول تتفاوت في مقدار ما تصنعه من انتباه وفضول. والنصوص التي تغزل الفضول المتقصي – إن صح التعبير- كثيرة لكني سأكتفي بمثال واحد هنا، رغم أن ذلك يظلم نصوصاً كثيرة تتميز بعمق وجمال وجدة تستحق الثناء من وجهة نظري: في نص "خياط يستحق القتل" نكون بحذاء احتمالين حول قياسات الخياط التي جعل منها ضيف موضوعاً على قدر من الغرابة! إما أن إحدى يدي البطل أنحف من الأخرى في منطقة الساعد، وكان الخياط من قوة الملاحظة بحيث كان الشخص الوحيد الذي تنبه لهذا الضمور الخلقي الطفيف للغاية، وإما أن يكون هناك عيب في أخذ القياسات كما ينبغي. وفي ما لو افترضنا أن الخطأ كان من الخياط، وكان الساعد طبيعياً مثل الساعد الآخر تماماً، فهل سيغير خطأ كهذا من غرابة الأمر؟ إذا كان الحديث عن الغرابة فإن تغييراً كهذا سيطعنها في الصميم، فبدلاً من أن يتحدث الكاتب عن الاحتمال الأول، ويبني عليه بالتالي عالم نصه الغريب وتساؤلاته الأغرب، سيتحدث عن الموضوع من الاحتمال الآخر، وستكون هفوة الخياط هي البديل الأقرب. ومن المحتمل ألا يتغير طرح التساؤلات نفسها في النص القائم غير أنها ستكون باتجاه لماذا كان هناك خلل في أخذ القياسات؟ لكن الخطأ البشري المتمثل في زلة الخياط أمر وارد، فأي غرابة في هذا الأمر؟ محل الخياطة هو أرشيف المدينة الوحيد في جعل الأزياء على قياسات محددة ودقيقة، وهو المحل الذي يعول على أصغر وحدات القياس لينفذ تخصصه المعروف في إضفاء الملاءمة الشكلية والجمالية على اللابس. لذلك يعد السجل المهني الأهم الذي لا يضارعه في تدوين القياسات محل آخر. لكن أين الغرابة في خطأ بشري كهذا؟ حينما يبدر من الخياط انحراف ضئيل في أخذ القياس المطلوب فإننا بدون تردد سنرد الخطأ إلى مقترفه الأساس، وسنطالبه بإتقان لا يتسرب منه سنتمتر واحد هباء؟ وفي ما لو استبدلنا "لو لم يكن خللاً في أخذ القياسات"، كما تقول جملة النص الأولى، بأخرى تقول إن الخلل بدءاً وانتهاءً كان في تحوير القياس الأصل إلى آخر خاطئ اقترفه الخياط، هل سيعثر النص على مفارقة مثل "لم تنتبه أمي عندما كانت تراقب كل شيء"؟ أو هل تشبه في وقعها المروع هذا التساؤل " أنا لماذا لم أنتبه لأمر بهذه الأهمية"؟ هب أن خياطاً ألقى بإبرته الماكرة في قياس زائف لكن الجميع تنبه لمكر الإبرة مباشرة بعد أول تجربة في لبس الثوب، سيطرح الجميع الملاحظة الاعتيادية عينها غير أن الملاحظة الفريدة التي لا تتكرر بسهولة لن تكون هنا وإنما في الاحتمال الآخر، في كون أحد الساعدين نحيفاً بفارق يسير أكثر من الساعد الآخر الطبيعي. لكن هذا في الواقع هو ما جعل الأم تفقد اعتدادها بسلطتها في مراقبة كل شيء، فالفارق الخفي لم يكن في الملبوس وإنما في اللابس، في ابنها الذي طالما قالت إنها تعرف عنه كل شيء. و لن يجرب الأب والأخوة وكذلك المعلم والآخرون بل حتى البطل نفسه لن يجرب الدهشة العظيمة التي ستولدها الملاحظة الفريدة، وستكون الخسارة كبيرة جراء استغراقهم اليومي في ملاحظة ما هو ظاهر ومتجل والعجز عن رصد ما وراء ذلك. في النص الماثل يكون هذا الاحتمال هو الاحتمال النافذ وهو القصة ذاتها، لأن قياسات الجسد ثابتة، حيث الأطوال والأحجام غير قابلة أبداً لتغيير قانونها فجأة من تلقاء نفسها، وعليه، تتوالى التساؤلات، يجر بعضها بعضاً، لبناء مفارقتها التهكمية. وهي مفارقة تهكمية لأن العمل أشار إلى فرق ضئيل في أحد الساعدين ليبني عليه انهيار منظومة كاملة من المراقبة اليومية التي تطال كل شيء لكنها كانت تفتقر إلى عمق تحتاجه لتدفع عن نفسها جاسوسية تمارسها على الجميع في الخفاء، وتظن أن سيطرتها محكمة ومتأبدة، وهي في حقيقتها مراقبة ناقصة لكونها مراقبة بشرية محكومة بالنقص وإن تظاهرت بالكمال، كانت تفتقر إلى هوية الساعد السوي الذي لا تكتمل فاعلية اليد وكفاءتها واستواء خلقها بدونه، ولا يتحقق تغيير فعلي إلا به.