- رواية غير تقليدية يطل علينا بها الكاتب والصحافي السوري ابراهيم الجبين، و "غير تقليدية" تشمل الشكل العام للرواية وطريقة تقطيعها لمقاطع قصيرة متداخلة، تغيّر لسان الرواي بين فقرة واخرى، تغيّر زمن الروي وتداخل الماضي بالحاضر والمستقبل وبالتأكيد "غير تقليدية" تشمل المضمون الجريء الصادم مع ضخ كمية هائلة من المعلومات على كافة الصعد من تاريخ وإجتماع وسياسة وغيرها.
- عنوان الرواية الثنائي يتكلم عن دمشق التي سماها الامبراطور الروماني يوليان بعين الشرق، اما هايبرثيميسيا والتي تعني "مرض" فرط التذكر وعدم النسيان فحسب الويكيبيديا هناك 20 شخصاً يعانون هذا "المرض" وما استعمال الرقم "21" من الكاتب الا ليدلّ على مصاب جديد. هو او دمشق؟!
- حسناً، ماذا يحاول الجبين قوله في هذه الرواية؟ ما الجديد او المخفي الذي يحاول ايصاله لقارئه؟ من هو القارئ الذي يتحدث معه؟ بالإضافة الى بعض الملاحظات في النهاية.
* الكاتب يقول ان النظام الحاكم في سوريا قد بني على معمودية من الدماء، وهذه الدماء كانت دماء السوريين على مختلف مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية والعقائدية وقد اساء هذا النظام لطائفته بالدرجة الأولى قبل الإساءة لغيرها وما العلمانية التي فرضها لاحقاً سوى قناعاً زائفاً. يبدأ الحديث من اغتيال العقيد عدنان المالكي (وقد اغفل الكاتب نتيجة هذا الإغتيال وتصفية احد اهم احزاب سوريا في ذلك الحين!) ويتابع بالتصفيات والإغتيلات الى وصول الضابط النازي "الويس برونر" الى دمشق وتعينيه مستشاراً امنياً عند الحاكم ونقل التجربة النازية الى الشام وتحويلها الى سجن كبير وادخال "الكرسي الألماني" الى طرق التعذيب التي عانى منها المسجونون (علمانيون، شيوعيون، اسلاميون، متنورون...). وصول "برونر" الى الشام أعقبه وصول "إلياهو كوهين" بإسم "كامل امين ثابت" وهدفه الأول معرفة مكان "برونر" لتصفيته (حيث ان برونر كان من بين المسؤولين عن المحارق اليهودية في عهد النازية) هذا الهدف ما يلبث ان يصبح ثانوياً اذ ان كوهين ينسج علاقة متينة مع الطغمة الحاكمة وما اعدامه الا لحفظ ماء الوجه بعد تغلغله في مفاصل الحكم. هذه المعلومات رافقها مونولوج على لسان حافظ الأسد في آخر ايامه يظهر الجبروت ونظرة الحاكم الى المحكوم.
* يقوم الكاتب بإستعراض لمحات لأسماء كثيرة و "كبيرة" بدءاً من علي سعيد أحمد (أدونيس) والذي قال انه كان يعمل مع المخابرات السورية في بداية حياته، الى "إلياهو ساسون" اليهودي الدمشقي ومؤسس جريدة الحياة في دمشق أيام الملك فيصل والذي انتقل لاحقاً الى الكيان الغاصب وعمل مع مخابراته، الى المكزون السنجاري، الى المحامي البارز هائل اليوسفي، الى الناقد والمترجم والمفكر صبحي حديدي (وهو خال الكاتب) الى سليم بركات والرسام بشار العيسى، الى محمد الماغوط وصولاً الى العلاقة الشخصية التي جمعته مع مظفّر النواب. ومن ثم عبد الرحمن الشهبندر مخطط الثورة السورية الكبرى عام 1925، عبد الرحمن بدوي الفيلسوف المصري، اسامة إسبير، علي الوردي، شموئيل موريه وياسين الحافظ وغيرهم... كل هذا الإستعراض اتى ليوضّح الحالة الثقافية التافهة التي وصلت اليها لاشام من بعد نفي او قتل مثقفيها من جهة ووتدجين البعض من جهة ثانية وخلق طبقة متثاقفة من جهة ثالثة وهذه الأخيرة لا تقل تهتكاً عن النظام الذي يشغلها سواء اكان وجهها موالياً او معارضاً، فالمشغل واحد. يزيدنا الجبين من الشعر بيتاً بفضحه لمسبح العراة المثقفين المتواجد في احدى ضواحي دمشق.
* شخصيتان اثنتان ركّز عليهما بشكل متواتر: الأمير عبد القادر الجزائري إبان عيشه في دمشق وحمايته للمسيحين بعد أحداث 1860 في جبل لبنان، تصوفه ونظرته العالمية للتقارب بين الأديان ونظرته الثاقبة لما تحاول فرنسا فعله من تفريغ الشرق من المسيحيين. والشخصية الثانية ابن تيمية في سجنه في القلعة والقاء الضوء على وسطيته وتحديثاته ومحاولة استعادته من تفسيرات الظلاميين لكلامه، وهذا يتضح بالأسئلة التي حاول الكاتب ان يسأله اياها عن ابن عربي وغيرها من المواضيع..
* الكاتب حاول تفسير "ظوشة النصارى" بردّها الى صناعة الحرير وربطها بتدمير هذه الصناعة، وهو محق الى حد ما فمعظم الأحداث الإجتماعية ترتكز على اسس اقتصادية او من اجل مكاسب او مظالم اقتصادية!
* يعرّج الكاتب على مسألتين ترتبطان بالشأن اللبناني بشكل وثيق، اولهما قصة الشاهد في إغتيال رئيس الوزراء اللبناني والمسألة الثانية قصة اغتيال عماد مغنية. ففي الأولى قال ان هناك معلومات لم تكشف للإعلان وانا لم اقرأها في كتابه هذا. ام في الثانية فقد ذكر ان احد الضباط السوريين قد اخبره ان البطانية العسكرية في سيارة عماد لم تحترق ومنعوه من التحقيق في الجريمة وانه لا يمكن ان يكون الموساد قد اغتاله هناك.
* ان الحوار الذي نقله الكاتب بين الملك فيصل الأول وعبد الرحمن الشهبندر يظهر عظمة الشهبندر اولاً وحب الكاتب العظيم لبلاده ثانياً. ومن هنا يمكننا الإنطلاق لتحديد القارئ السوري بالدرجة الأولى كهدف للكاتب وقرّاء بلاد الشام بالدرجة الثانية، لكن هذا لا يجعل من الرواية قاصرة لأنها ستفيد القارئ في اقصى الأرض بطرح اسئلة كثيرة!
- كل هذا الإستعراض كان مقدمات (حسب الكاتب) لإندلاع الثورة السورية التي بدأت بكتابة بعض العبارات على جدار مدرسة في درعا.
- ختاماً، رواية استثنائية بمضمونها تحديداً وبطريقة العرض. ليست سهلة وتحتاج الى التركيز ومعرفة التاريخ الحديث لسوريا. تخللها بعض الكبوات مثل الإشارة الى علاقة للأمير عبد القادر بالمحفل الماسوني! والإكثار من استعمال اسماء الطوائف، والتعاطف الكبير هنا وهناك.
أحب ان انهي هذه المراجعة بإقتباس مقصود من الرواية، والإقتباس هو لمظفر النواب طبعاً:
ص 197:
"سنصبح نحن يهود التاريخ، ونعوي في الصحراء بلا مأوى"
بعض الروايات تتوقع أن تبهرك فتخرج منها مخذولاً، والبعض الآخر لا تتوقع منها الكثير فتدهشك في نهاية المطاف. بالنسبة لي، عين الشرق تنتمي إلى النوع الثاني. فبعد بضع صفحات من السرد المتنوع المتوثب بين الأزمنة والأماكن والشخوص، توقعت أن يصيبني الإنهاك ويداهمني الملل، لكنني وصلت إلى آخر صفحة وأنا أتمتم: هل من مزيد؟
"لا يسألني أحدٌ عن الحدث، فالحدث في هذا الورق هو الحركة الكبيرة للوحة الرمل في تكوينات الشام، لا حركة الشخوص."
هذه الجملة هي العبارة المفتاحية للرواية، عليك أيها القارئ ألّا تبحث عن الحبكة وأن تكُف عن انتظار الحدث الرئيسي. كل ما عليك هو أن تسلم كفّك لابراهيم الجبين ليأخذك في جولات لحواري وأزقة دمشق، شاركه طاولة في مقهى عتيق بصحبة شاعر فذ أو ناشط متحمس أو متزلف عتيد. توقع مع كل فنجان أن تتغير المناظر من منطقة إلى أخرى، من حقبة تاريخية إلى التي تليها، من قصة موثقة إلى خاطرة عابرة، من مشاعر شخصية إلى تقارير إخبارية. سيصطحبك من المقهى إلى السجن، ومن البرامكة إلى زقاق الجن، ومن دمشق إلى دير الزور، كل ذلك وهو يتحدث دون انقطاع. انصت جيداً وستتلذ بكل جملة وبكل كلمة.
لماذا أجد متعة وانسجاماً في رواية غير خطية تخلو من حدث رئيسي بينما أفقد تركيزي واهتمامي برواية منظّمة عالية التنسيق عامرة بالأحداث الجوهرية؟ الأمر محير حقاً. ربما لأن شغف الكاتب بمدينته المعشوقة يتسرب بين الأسطر حتى يصيبك بالعدوى. وربما هي تلك القصص الواقعية عن رجالات السياسة والمثقفين. أو لعلها اللغة السلسة المنزهة عن استخدام مفرادت حجرية أو مجازات بلاستيكية.
إذا قررت الالتحاق بهذه الرحلة فستُسلم ابراهيم الجبين المقوّد ولا يمكنك مطالبته بأي شيء. فلا يمكنك استبقاؤه في محطة ما لمعرفة المزيد، مثل حديثه عن آخر أيام حافظ الأسد. ولا يمكنك استعجاله إذا لم يعجبك الوضع مثل محاولاته لإنصاف ابن تيمية. من غير الوارد أن تطلب منه المضي حتى النهاية دائماً فهو يتركك حيث يشاء، مثل سرده لقصة الجنرال النازي الذي يقطن دمشق. ولن يسمح لك بالنزول إذا ضقت ذرعاً في بعض المواقف كقصته عن مسبح العراة. بل أنه قد يسلم المقود لشخص آخر كي يقطع جزءًا من المشوار أثناء غيابه. ليس لك من الأمر شيء هنا فهذا السائق شديد الاستقلالية، يصادق اليهود ويذود عن السَلَف، يأكل مع الفقراء ويجادل المثقفين، يشجب النظام وينتقد المعارضة. على أي حال، تأكد أنك في ضيافة دمشق وبمعية أحد مثقفيها الكبار، ستكون رحلة رائعة إذا خضتها دون تحفظات أدبية أو ثقافية.
عين الشرق وفرط التذكر الإرادي السرد المتقطع والمتناثر على شكل قطع معزولة بثلاث نجمات يُلزمك أن تبذل جهداً يماثل جهد تجميع لعبة البازل لتكوين مجموعة كبيرة من الصورة المحصورة ضمن إطار واسع.. تبدو اللعبة لطيفة عندما يساعدك الكاتب بالعثور على القطعة المناسبة حين يقاطع نفسه كثيراً بما يشبه الاعترافات أو ربما الإفادات. يلعب دور شاهد العيان الذي يتطوع ليروي تلك الأحداث التاريخية حتى التي سبقت ميلاده فيمزجها مع راهن فج لتتشكل الصورة التي يرغب في إظهارها. يضع الناشر توصيف "رواية عربية" على نص ابراهيم الجبين المسمى عين الشرق ولكن الكاتب نفسه غير مكترث بالتسمية ولا يبالي إن لم يكن العنوان يشابه ما كتبه بل كان حريصا أكثر على توصيل شهادته بتفريغ تجاويف ذاكرته المليئة بالأسماء والصور والتقاطعات والأخيلة على شكل سرد قصير مركز، بأسلوب صحفي مع جرعة تشويق عالية الشحنة يسارع الكاتب إلى قول ما يعرفه قبل أن يندثر وكأنه الشاهد الأخير. كان الجبين ملهوفاً لاطلاعنا على مجموعة من الحقائق ذات الشكل التاريخي ولكنها لازمة في الوقت الحاضر لترسيخ حقائق أخرى أو لجلاء ما طمس أو ما أريد له أن يكون غامضاً. يختلط الوطني بالشخصي وتتبعثر الأسماء المشهورة والمغمورة على صفحات الرواية ويعيد الكاتب توصيفها أو اتهامها ويعيد تسميتها وإدراجها تحت عناوين جديدة مستنداً إلى ذاكرته وأحياناً "جراب" مليء بالوثائق أقرب إلى قبعة لاعب الخفة الذي يخرج منه التاريخ على شكل بوالين صغيرة تفقع في وجهك أو ترتطم بالأرض محدثة قرائن جديدة، كل ذلك يحدث داخل الحضن الكبير الذي يحفظ الكاتب تفاصيلة والمسمى دمشق أو عين الشرق كما يقتبس الكاتب من الرومان. الكاتب المريض بذاكرته التي ترفض أن تتجاهل كل ما يمر بها، يصادق رساماً عجوزاً يحمل ذاكرته في كيس، يخرج منه الأشياء فيتغير الواقع، الشاعر المرموق المرشح لجائزة نوبل كان عنصراً في الشعبة الثانية وهي جهاز القمع سيء الصيت المعروف بالمخابرات، والجاسوس الذي سارعت السلطات إلى شنقه مجرد مبعوث، يعرض الإعلام الرسمي جزءاً من سيرته، أما الجزء المهم فموجود داخل كيس الذكريات، كان هذا المبعوث يبحث عن أحد رجال هتلر الموجود في عين الشرق، مابين إبقاء القارئ متربصاً ومنتظراً، وبين الإدلاء بالحقائق يقدم الجبين هذه المعلومات حيث الزمن هو الثابت الوحيد، فالذاكرة المثخنة بالوقائع كالكيس المتين الذي لا يسرب شيئاً. يرفض الجبين أن يقول كل شيء دفعة واحدة، يعتصر نفسه قطرة قطرة، ويحافظ على أيقونة الثلاث نجمات، وتأتيك المعلومات وكأنها تتسرب من شخص يُحتضر يحتاج إلى حقن مقوية ليكمل اعترافاته، تتكاثر الحكايا وتتقاطع، والأسماء تولد أسماءً جديدة، وتشعر أن الكاتب يبطئ سيره عند نقاط محددة يريد أن يسهب عندها، لا يخونه تدفق الذاكرة ولكنه يرغب في إعادة عرض بعض أجزائها مرة ثانية. تتقاطع سيرة مجموعة "حراس الأرض" العلوية وهي ثلة من المدعين ممن عرفهم الكاتب مع حادثة سجن الشيخ ابن تيمية، يدخل الكاتب إلى سجنه ويحاوره منتزعاً منه براءة لم يستطع الإثم الباطني أن يطمسها، يتحيز للسجين صاحب المواقف الجريئة ويحرص أن يفند آرائه كلها ولا يستثني فتاويه المثيرة للجدل والتي تدين "حراس الأرض" حتى قبل أن يولدوا. يظهر العشق الكامن لعين الشرق أو دمشق عند الكاتب وهو يلاحق سيرة الأمير عبد القادر الجزائري، ويتوقف حيث يجب أن يقف عند "طوشة النصارى"، حيث كان الأمير أميراً، هنا لا ينبش الكاتب ذاكرته بل ينبش الجدران والأرصفة والحارات القديمة التي سالت فوقها دماء النصارى، وحيث أثر دعسات أقدام الأمير، ويجد وقتاً لينحي ذاكرته جانباً ويستدعي حلاً أشبه بنظرية المؤامرة عندما يصر على أن "الطوشة" كانت مكيدة أريد بها ضرب صناعة النسيج الدمشقية الناشئة، وقد تم ذلك بنجاح بتحطيم أجهزة إنتاج البروكار والأقمشة الفاخرة، وقتل الصناعيين المهرة أو إجبارهم على الرحيل، ثم بث الذكر بالمستثمرين ليحملوا روؤس أموالهم ويغادروا البلاد، وقد تم كل ذلك بسلاسة حل لعبة سودوكو سهلة. لم يعتمد الكاتب على ذاكرته لابتكار هذا الحل كان الأمر بحاجة إلى استقراء اقتصادي ذي طبيعة صناعية، ودون الالتفات إلى بنية الشارع في أواسط القرن التاسع عشر ولا إلى إرث ابن تيمية الذي خرج بريئا بأثر رجعي من محكمة الكاتب. لا نستطيع أن نطبق على هذا النص مقولة رولان بارت بتنحية الكاتب عن نصه فور إنجازه، إذ يبدو النص كفتاوي ابن تيمية تحمل نكهة عصرها وثقافة كاتبها، ولا يمكن فصلها عنه أو فصله عنها، وهو ملىء بلواعج شخصية معذبة بذاكرة ترغب أن تلفظ ما تحتويه، والمشاعر الخاصة طاغية في العلاقة مع الشخصيات والأحداث والأشياء وحتى الاستنتاجات، ولم يكن الكاتب بحاجة إلى جهد تبرئة ابن تيمية فالرجل بريء فقد كان محكوم بقوانين ظرفية أراد أن يحطم بعضها كما يفعل كل المبدعين، ولكن الجبين أراد أن يسبغ عليه شرعية معاصرة، وبدا متعلقاً بالأمير الجزائري أكثر من دمشق، عندما لاحقه وحاول التقرب من أحفاده ليتعرف على تفاصيل الأمير الدقيقة. ملأ الجبين صفحات مدونته بالأسماء وبالأحداث بطريقة صحف التابلويد، عنواوين مثيرة تثير شهية التعمق، ولكن الكاتب توقف عند العنوان ليعرض الذي يليه. كان مثيراً عندما عرَّفنا على صداقة الأسد الأب بأحد مهندسي الهولوكوست، وكان صادماً عندما قرأ علينا سيرة جديدة للجاسوس إيلي كوهين، وكان فضائحياً عندما عرفنا أن في دمشق أو "عين الشرق" مسبحاً للعراة رفض الكاتب دعوة للتمرغ في مياهه كل ذلك كان موجودا في ذاكرة الكاتب "الكاش". للكاتب الحق في أن لا يسمي هذا النص رواية، رغم وجود ملامح حكائية وطغيان سيمياء الرواية، فقد لجأ إلى تقطيع السرد، على شكل منولوجات منفصلة يمكن أن تكون بعضها فقرات حرة مقطوعة العلاقة بما يحيط بها، واضطر أن يكون إخبارياً أحياناً محافظاً على صيغ التقارير مع محاولة إثارة الدهشة والإعجاب بطرافة المعلومة، ودمشق التفاصيل والجغرافيا كانت ملمحاً مهماً وحاضراً ولكن كوعاء حيادي لكل المزيج التاريخي الذي نشره أمامنا، فلم يظهر من عين الشرق إلا الاسم وولع الكاتب. كان الحضور الأكبر لإعادة ترتيب بعض المشاهد المهمة وإدانة الديكتاتور والإثم الذي اقترفه بحق المدينة. بدأ الكاتب نصه غاضباً ومتحمساً ومتعجلاً أيضا وقال معظم ما يعرف فيما هدأ في القسم الثاني وحرك شخصية الأمير عبد القادر الجزائري كثيراً، وفقد حسه الصحفي وكاد أن يقطع علاقاته مع كيسه الإخباري المثير. كانت عين الشرق نصاً يسهل التعامل معه، ويمكن أن تجد بين شخصياته وأسراره ما تتفق معه دون أن يأخدك بعيداً أو يدلك على مصدر أكثر عمقاً، يكتفي بتلاوة عناوينه ولا يجبرك على تصديقها، ولا يلزم نفسه بتسليم وثيقة واحدة من وثائق الكيس عليك أن تثق بذاكرة ابراهيم الجبين ولو كانت "مريضة" بالهايبرثيميسيا.
مشكلتها أنها لا تشفي الظمأ ...القصص المقصقصة هذه لم تسمح لأي حكاية من الحكايات بالاكتمال، عندما أنهيتها شعرت بأنها أعطتني قصصاً كثيراً لا نهايات لها .. و أنا على يقين أنني سأسير الآن في دمشق ترافقني حتماً كل التفاصيل التي لم اكن أعلم عن أغلبها شيئاً باحثة عن نهايات حقيقية و أسماء حقيقية لكل تلك القصص.
عادة لا أحب الروايات التي تسرد مشاهد عديدة و مشتتة الى حد ما و لكن إبراهم شدني من أول الرواية إلى أخرها حتى مع وجود قفزات "نينجا" و تحولات كثيرة في السرد و لم تزعجني جميع هذه التقاطعات و القفزات بل بالعكس أحسستها ضرورية في أحيان كثيرة. يوثق الكاتب أحداث و شخصيات و أماكن و مواقف كثيرة حصلت في دمشق و أجزم أن أمور مشابهة كانت تحصل أيضا مع مثقفين كثر في كافة المدن السورية و لكنه الأول في تدوينها بهذه الكثرة والتفاصيل و السرد الجميل. شكرا إبراهيم على الوقت و الحياة الموازية التي سردتها و ذكرتني ببعضها أو أدخلتني إليها في عين الشرق.
الكاتب السوري إبراهيم الجبين يقدم في روايته "عين الشرق"، التي تُعرف أيضًا بعنوان "هايبرثيميسيا 21"، لمحة معقدة ومتشعبة حول مدينة دمشق. الرواية تتجاوز حدود المكان لتشمل العديد من المدن السورية وحتى مدينة دورتموند في ألمانيا التي يعيش فيها الكاتب حاليًا.
الجبين يتجنب السرد التاريخي التقليدي ويختار أسلوبًا مبتكرًا يشبه اليوميات والاعترافات. يستخدم فن الكولاج لتقديم مجموعة من القصص والشخصيات المتنوعة، مما يعكس الفوضى العارمة في تاريخ دمشق وتنوعها الثقافي والاجتماعي.
الرواية تستكشف حياة العديد من الشخصيات، بدءًا من الطبقة المثقفة وصولًا إلى الأثرياء وأفراد المجتمع بأكمله. تبرز الصراعات بين الجمال والقبح، الرهافة والصلافة، اللطف والعنف، مع التركيز على حالة دمشق اليوم وتأثيرات الحصار والحروب.
الكاتب يُخصص مساحة كبيرة لتسليط الضوء على العديد من الشخصيات، بما في ذلك أصدقاؤه ومعارفه الشخصية. يشير إلى تأثيرات الأفراد عليه وكيف أثروا في تكوينه الإبداعي، بما في ذلك الشاعر علي أحمد سعيد والناقد والمترجم صبحي حديدي.
الرواية تتحدث أيضًا عن حقب تاريخية مختلفة، من الرومان إلى العصور الحديثة، وتربط بينها بشكل جديد ومبتكر. يظهر الكاتب قدرته على إعادة بناء تاريخ المدينة بشكل مبتكر وفني، مما يجعل "عين الشرق" تبرز كعمل أدبي فريد من نوعه.
في روايته "عين الشرق"، يُطلعنا الكاتب السوري إبراهيم الجبين على ملفات تعريف شخصياته، ما بين الحقيقة والتضليل، حيث يستمر في لعبة تخفي الهويات حتى نهاية القصة. يمكن للقارئ الملم بتاريخ دمشق ومجتمعها الثقافي التعرف على مُعظم الشخصيات المتنوعة، مثل جمال وآصف ووديع، رشيد ومعسرْتي، ستناي وعُلا. الجبين يختار مُسميات غير حقيقية لشخصياته، ويركب أقنعة تُخفي أسرارهم وتُعقّد الأحداث. يتلاعب بمفهوم الهوية، ويقدم دمشق عبر الزمن بمظهر مختلف يعكس جمالها وتعددية طوائفها وثقافتها.
الكاتب ينتقل بين العصور والأزمنة، يدافع عن شخصيات متنوعة مثل ابن تيمية وجماعة "حراس الأرض" العسكرية الباطنية. يضع كل هذا في إطار متشعب يمثل دمشق بشكل فني وتأريخي، ويظهر التلاحم بين الأديان والأعراق والطوائف في لوحة فسيفسائية.
تنتهي الرواية بشكل مفاجئ في جدار مدرسة في درعا، حيث يكتب أطفال يعبرون عن ثورتهم. تظهر الختمة السياسية المباشرة، ورغم التنوع التاريخي والفلسفي في السرد، فإن الكاتب يُظهر أن الواقع السوري الحالي يفوق كل الرموز والتأويلات الأدبية.
شذراتٌ من سوريا، كتبها ابراهيم الجبين مما عاشه و عرفه هناك، من دير الزور إلى الجغجغ إلى عاصمة بني أمية و مركز الإشعاع الحضاري، من البداوة و رحلات أجدادنا و ترحالاتهم إلى مذابح و إبادات و تهجير إلى نضال و تحرر و تنوع فاستبداد و انغلاق و واحدية، و الكثير الكثير من العفن الذي غلف أرواحنا و ذاكرتنا و تاريخنا و حاضرنا و حقيقتنا.
كتاب يجمع التدوين التوثيقي مع الوصف و البلاغة الأدبية، فتارة نرى الكاتب يتحدث بلسان حافظ الأسد بعد وفاته و تارة يروي لنا حياة السوري العادية و تاريخ جلسات مطولة و ��لاقات عميقة مع مثقفين سوريين من مختلف المشارب.
رائحة الطائفية المقرفة تفوح من السطور الأولى لهذه الرواية، و تمنع القارئ من الاستمتاع بأي اسلوب أدبي (إن وُجِد). سرد منحاز ل أحداث تاريخية، مع إضافات درامية و وردية لكل ما حصل أو اراد الكاتب أن يحصل.