في بيتٍ طينيّ، منتصف القرن العشرين، يولد طفلٌ لا صوت له، وتغيب أمّه مع صرخته الأولى. يدور من يدٍ إلى يد، بين الجدّة، والعمّة، والأب الغائب رغم حضوره، والأمَة صويلحة التي تمنحه الحنان، دون أن تمنحه الأمومة.
من خلال عينَيْه الصامتتَيْن، يرصد "محيميد" تحوّلات مجتمعٍ بأسره: عبور العتبات بين الرقّ والحرّيّة، بيوت الطين والحديد المسلّح، المذياع ونمائم الفريج، بين موسمِ التمرِ الذي يحمل معه بواكير الشتاء، وحصاد التين العجيب الذي يتحمّل صيف هذه الأرض.
"أغنية التمر والتين" ليست سيرة صبيٍّ فقط، بل هي سيرةُ حِقبةٍ تاريخيّةٍ عن مدينةٍ سُمّيت يومًا أرضَ الحضارات، وهي سيرةٌ عن هشاشةِ الهويّة حين تتشكّلُ في بيتٍ مزدحمٍ بالوجوه، وفارغٍ من الاعتراف.
يعود الكاتب البديع كعادته في عمل جديد يؤكد من خلالها على قدرته السردية برواية لاتقل جمالاً عن رائعته السابقة الأشهب. هذه المرّة في قلب النخيل بأسلوب سردي بديع ووصف يأخذك إلى عمق المكان رائحة ،طقوس أهله،أحاديثهم وحتى أسماء الأماكن التي أيقظت رغبة مُلحة لزيارتها! رواية تناولت جانب نفسي إجتماعي ببراعة، بأحداث مشوّقة وصمت يهُيمن على بطلها كأنه يتنفس الكون من ثقب إبرة!
استحضرني في أحد مشاهدها بيت لابن الدُمينة " أليس عظيمًا أن نكون ببلدةٍ كلانا بها ثاوٍ ولانتكلمُ"
يبدو أن أغنية التمر والتين لا تبدأ من الحكاية بقدر ما تبدأ من الوعي الوجودي، لم تكن بدايتها تُقرأ كرواية أحداث بل كتجربة وجودية من لحظة الولادة. ولادة محيميد ليست مجرّد بداية سرد، بل بداية سؤال. سؤال عن الوجود، والانتقال، والخوف الفطري من المجهول، ذلك الذي يرافق الإنسان منذ خروجه إلى العالم، وحتى خروجه منه. أسئلته الوجودية جعلت من فكر طفل رضيع فكرًا فلسفيًا يمكن أن يُرى من أبعاد مختلفة مما أراني جدران خيال سامقة من مبتكرها. شدّني في الرواية طريقة تفكير محيميد؛ هذا الطفل الذي يتأمل العالم بصمت يناقش الأعضاء حوله، ويطرح أسئلة وأفكار تبدو أكبر من عمره، لكنها في حقيقتها أسئلتنا وأفكارنا جميعًا. فحين يقول: «وهل هنالك عوالم أخرى ستقبل بوجودي؟» «وجدت نفسي هنا دون تخطيط وإرادة وقد أجد نفسي في مكان آخر دونهما»، ثم «أين المفر؟» أو حتى عندما قال: «ناهيك عن فكرة ألّا يوجد عالم آخر سوى عالمي» «هل هذه أعراض الانتقال إلى عالم جديد؟» لقد فرضت تلك المقدمة سطوتها على تفكيري فما عدت أستطيع تخيل بدايتنا كما كنت أفعل. ظننت أن الرواية ستستقر في هذا المقام الفلسفي، حتى قلبت الصفحات وغذذت السير لأبلغ بؤرة الأحداث، لكنني دُوهمت بأسلوب لم أكن لأتخيله، فقد كانت اللغة فصيحة جدًا ومستقرة، وفجأة أجدني أرى ريحان الذي لا يتوقف أنفه ولعابه عن السيلان، وأُردِفت بـ "خيط سعبولة إبراهيم التي لا تكاد تنقطع" أو حتى "عسكريم رسيول". فلم أتمالك نفسي إلا أن أضحك، وعندها شعرت أنه يُتربص بي، ومن ثَم يُطلق عليَّ برصاص النكات على حين غِرة، ففجأة قال أبو راغب أن مرزوقًا سيغدو حمارًا ممتازًا - رُغم نهايته التي لم أتخيلها-، أو ربما الجدة التي تتعوذ من إبليس بسبب المروحة، وتغطي وجهها بسبب التلفاز، وحتى وصف "الأستاز شوكت" الذي لا يمكنني منع عقلي من تخيله بكل تلك التفاصيل. أخذ الخيال بتلابيبي فضحكت تارةً وتَعجبت أُخرى، «تختلف الأسباب والطريق واحد» فقرأتها بعيون مختلفة لمعرفة ماهيتها، فقد ضُمخَّت بما لا يمكن توقعه. أما في السرد بين الفصول، وعلى مستوى البنية لا الحكاية، فقد كنت أمخُر عُباب بحرٍ يُأخذ على يدي فيه فلا أعرف له خلاصًا، مما دفعني إلى التمهل وإعادة التوغل في النص، إذ يتنقل الصوت بين الشخصيات دون تصريح مباشر، كانت حركة ذكية لجعلي أقرأ مرتين عوضًا عن مرة. شعرت وكأنني أشاهد فيلم سيرة ذاتية قديم، في فترة لم أعلم عنها سوى القليل أو ربما بعدها لا شيء، أعيش مع الشخصيات في بيوتهم، مزارعهم، يغمرونني بأفراحهم ويُسقَط في يدي حين أرى أحزانهم، وأجمل ما أرى هو سماء محيميد التي أحبها وكانت عزائه. ووسط هذا التزاحم السردي والوجداني، أذهلني ما قاله العم فوزي لذا سأوثر على نفسي بكلام العم فوزي فقد أخذ كلامه مني كل مأخذ «الموت ممل فهو شيء حتمي، وتفقد الأشياء رونقها وغموضها الجذاب حين تكتشف حتميته، بينما الحياة مليئة بالأشياء التي تنتظرنا لاكتشافها، قم وابحث عن احتمالاتها الممكن منها والمعقد، ناقصة هي حكاياتنا إن لم نغص في معانيها المبهمة، فدع الحتمي لأنك لن تغير فيه شيئًا وتوجه إلى الممكن الذي تستطيع تغيير كل شيء فيه إن شئت» تفاجأت قليلا بتصرفات راغب وبدأ الأمر يحتدم في الرواية حقًا وبدأت قراءتي بالتسارع أكثر فأكثر، فقد حمي الوطيس وتوالت المصائب وفجأة انزوى النص إلى أكثر ما لم اتوقعه وربما أتحاشاه ولا ألفه بطبيعتي، فما زلت لا أستطيع قراءته، تلك المساحة لم تكن حقًا الأقرب إلى ذائقتي، ولكنه انجرف في طريقي وهو ما حصل مع محيميد في الثليثية 1967 وما بعدها، فمضيت في القراءة لا ألوي على شيء حتى تحدث محيميد فجأة فلانَ لي بصيص أمل بأن يتحدث يومًا ما، ولكن للأسف ما زاد الطين بلة أنه لم يعد كما كان أو ربما كان هكذا طوال الوقت. وعندها كانت البداية هي النهاية والبداية لما بعدها.
بدأتُ قراءة هذه الرواية قراءةَ مترصّد، ناصباً لواء الإغارة عليها، إلا أنها هزمتني باسترسالها الهادئ وسردها اللطيف، حتى انقلبتْ فغزتني هي، واستولتْ على اللواء فطرحته أرضاً، عندها التحقتُ طوعاً بركابها. نقلنا المؤلف أو نقل إلينا أجواء تلك الحقبة التي نسج فيها حكايته، بدأت الحكاية عام ١٩٥٢م وانتهت عام ١٩٧٣م، استطاع المؤلف أن يدخلنا في أجواء تلك الفترة التاريخية بكل براعاة. الطفل اللاواعي كان واعياً في هذه الرواية، وكأن الانكشاف الذي حدث في آخر الرواية هو عبارة عن تجلٍ لتفاصيل الحياة منذ الولادة وحتى الموت، أي أن الرواية عبارة عن شريط تفاصيل الحياة الذي يمر على الإنسان حال احتضاره. استرسل المؤلف في الوصف دون تشبيهات أو استعارات قد تشط بالنص، وحتى دون كلمات قد تقوّي النص من الناحية اللغوية، اكتفى بما متداول وسائد. أعطى الكاتب المَشَاهِد وصفها بما تستحقه، بلا إطالة مملة ولا اختصار واختزال مخل. عادة ما يكون استخدام اللهجة العامية نشازاً عن إيقاع النص، لكنها شكّلتْ إيقاعاً هارمونياً متسقاً مع جملة النص، فلن يشعر القارئ بالنشاز؛ مع فائدة إضافية، وهي تعزيز اللهجة الأحسائية التي لا بد أن بعض كلماتها ترجع إلى أصول عربية فصيحة، وهذا وجه مهم من أجل إحياء اللهجات التي تحوي كلمات فصحى وإنقاذها من الفناء حتى في طريقة نطقها. تتناوب شخصيات الرواية في الحديث، تبدأ مقطعاً وتظن أن المتحدث هو ذاته الذي استفتح به الكاتب الفصل، لكن من خلال السياق يتبين لك أنه شخص آخر، ليت أن الكاتب جعل لكل شخصية نبرتها الخاصة حتى لا يقع الالتباس عند القارئ. " أيعقل أن العالم يغفر للقاتل ولا يغفر للأبكم" هذا الاقتباس يختزل مقصود الرواية، هذا العالم مبني على المتناقضات واللامعقول، ولو كان هناك اتساق في هذه الحياة فإنها ستكون جنة لا يريد أحد التخلص منها.
في رواية أغنية التمر والتين للروائي السعودي عبدالله الحوّاس نجد الحياة والموت، الحرّية والقيد، الغياب والحضور، الزمان والمكان، الأمومة والتخلّي الصوتُ والتلاشي في السّكون؛ ثنائيات تشكّل بتضادها وانحيازها لكونها مساميرَ تثبّت وجه الحكاية في جسدَ السَّرد الذي شكّله الحوّاس بمهارة لغويّة عالية وبأدوات تستند على محزونٍ معرفيّ واسع قوي الأركان فلسفيًا ونفسيّا تاريخيّا وجغرافيّا. الرواية حكاية وجع امتدّ منذ الصرخة الأولى لمحيميد، تلك الصرخة التي وأدت قبل أن تغتسلَ مِن إثم الخطيئة التي لم ترتكبها، وظلّت عالقة في حلقهِ كما لو أنها حصاة تؤلمه كلّما نظر إليه أبيه نظرة تذكّره كم كان قاتلًا لأمهِ دون أن يعي. والرواية حكاية عتقٍ من رقٍّ دون انعتاقٍ من ثقل الأسرار، فسرّ صالحة كان سببًا في أن تظلّ رهن العبوديّة معنويًّا بالرغم من صك عتق رقبتها.
في الرواية حكايات كثيرة ولدت في مرحلة حرجة لحظة انبثاق النور من رحم الظلام، تلك الحكايات تؤرّخ لمرحلة مهمّة من تاريخ المملكة، وهذا بحدّ ذاتهِ تجسيد من الحوّاس لأهمّية دور المثقف في حفظ سرديّة تاريخه بكلّ ما فيهِ من تفاصيل.