ثلاثة أعوام قد مروا من تاريخ قراءتي لهذا الكتاب ومازلت لا أجد له منافساً. حالةٌ من الشغف قد هالتني حينها، وأرَّقتني ! ربما لأنني لم أجد كتاباً تاريخياً علمياً بتلك النقاوة خاصة في تلك الفترة وتلكم الأحداث.
والله إني كنت أطالع سطوره بتمعُّنٍ كالذي يأكل طعاماً شهياً؛ فلا هو قادر على إمساكه، ولا يروم نفاده!! أقلب كل سطرٍ في ذهني، وأعالج مناظيمه، وأرتب أركانه، وأدوِّن فِي كُنَّاشتي الفوائد، وأدرس عِماده، ويقدح عقلي للفكر زناده. الكتاب لا يناسب كل شرائح القراء من وجهة نظري ونظر كاتبه أيضاً، واعتقد أنه ربما يناسب فئة الباحثين أو من هم أعلى، ومن دونهم وصولاً لطلاب العلم، أمَّا غير تلك الشريحة فلن تسطيع صبراً. هذا الكتاب لن تجده عذباً ولا مستساغاً، وإنما ضحلاً ومستغلق أحياناً كثيرة، لأن صاحبه لم يكتبه على سبيل القصص أو حتى من قبيل السرد التاريخي، ولكنه جمعٌ شبه موسوعي دقيق لمرويات كثيرة ومختلفة بعد تفنيدها وتمحيصها، وإطالة النظر فيها.
كل من قدَّم لهذا الكتاب من علماءنا الأجلاء لم يوفِّ الكاتب حقه في الثناء، حتى وإن كانوا قد سهدوا معه الليل يشرحون له المغلق، ويغدقون عليه بالنصح، والتعليق، والترتيب، والضبط. وأيم الله لقد بذل الكاتب جهداً جماً في بابٍ استحق البذل؛ أجاد فيه وأفاد، وجمع فيه المتفرق، وأجلى فيه المبهم، ورتَّب فيه المختلط، وصحح فيه الخطأ، ثم عصر الفتنة عصراً وصبها صباً في مجلدين من دون إخلالٍ أو نقصٍ. فبارك الله فيه، ونفع به، ورزقه بهجة العلم.
أمَّا عن فواز الشمري نفسه فهو شاب صغير خلوق ذكي ليس مشهوراً عند النخب العلمية أو صغار المؤلفين، ولا حتى كان معروفاً أو مؤثراً في أواسط أياً من المنصات الاجتماعية. والكتاب قد وفر له دفعة جيدة للظهور، استغلها فواز للأسف أسوء استغلال في الرد على سفهاء ومجاهيل النواصب الجدد؛ مما فرّق الكبار من حوله، وجمهر حوله الأحداث. أما فواز الكاتب فقد قدَّم لكتابه مقدمتين في غاية البهاء، أينعهما كانت [المقدمة المنهجية التاريخية] والتي دمج فيها بين منهج المحدثين، ومنهج المؤرخين بصنعة لطافة. لم يأتي ببدعةٍ، ولم يخترع اختراعاً، ولكنه سبق بإعلان صلحٍ رشيدٍ بين رواد الحديث، وحكماء التاريخ، فأخرج لنا سبيلاً مُرضياً ومريحاً لعناء الأولين والآخرين. ثم مهَّده باتقان فنَّان، ليسير عليه بعد ذلك أي إنسان. ورأيي أن هذه المقدمة المنهجية التاريخية لم تكتمل بعد، ولابد وأن تُراجع، وتُناقش، ويُبني عليها، في رسائل علمية متخصصة، فإذا حدث هذا صار لدينا معياراً تاريخياً علمياً مسبوكاً بالذهب.