‫القطائع: ثلاثية ابن طولون‬

by Reem Bassiouney

القوة تعطي المصداقية لكل الأفعال، والهيبة ترضخ النفس دومًا.

هي كمدن الحكايات تهون الأيام ولا تأتي برزق ولا نبات... أين الأثر؟ وماذا تبقَّى؟ هل تبقى شيء؟

أشكو إلى الله أن الدمع قـد نفــدا وأننـــي هــالك من حُبِّكُم كمدا قالوا الفراق غدًا لا شك قُلتُ لَهُم بل مَوتُ نفسي من قبل الفراق غَدا ابن المعتز (شاعر عباسي)

لا بد أن تموت لتحيا، ولا بد أن تحزن لتموت ثم تحيا حياة أكثر عمقًا وأكثر معرفة. لا معرفة بلا ألم يسبقها، ولا حياة بلا موت يسبقها، ولا فهم بلا حزن يسبقه.

هناك حكمة وسر في التخلي، لابد أن تتخلى وأنت تشتهي وتطمع وليس بعد أن تيئس وتزهد. لا بد أن تترك الدنيا وهي تفتح ذراعيها بالأماني وليس بعد أن تذوق مُر صدقها وحقيقة توحشها.

تتجلى الحقيقة دومًا لمن يبحث عنها ويعترف بغفلته ثم يصبر على معرفتها. غدًا أو بعد ألف عام سيعرفون أنهم غافلون.

ترجو البقاءَ بدارٍ لا ثباتَ لها فهل سمِعتَ بظلٍّ غير منتقل الطغرائي- شعر عباسي

لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا لكنهُ راغب فيمَــن يعـــذِّبُــهُ فليس يقبل لا لومًا ولا عـذلا عنترة بن شداد (شاعر جاهلي)

الغربة لا علاقة لها بالمكان، بل بالصبِّ والندم. والوحدة تتغلل في ثنايا الأضلع لحظات الحيرة والوهن.

- يا حمقاء، قلت لك حنان الرجل عندما يريد شيئًا كالزرع الشيطاني لا جذور له. لِمَ لا تفهمين؟

من يشرب السراب لا يكتفي، يريد أن يرتوي ولا يرتوي، ستستمر في المحاولة ولن تصل.

من يهدم هو عدو للبشر، ومن يبني باقٍ بعد الفناء. ليس المُصلح مثل الفاسد، وليس الباني مثل الهادم.

- ألم أقل لك؟ الحقد والكره باطنهما الشوق والعشق. ستفهمين مع الوقت،

الرجل كالقط البري كما قلت لك؛ لذا يأتي عندما يريد، ويرحل عندما يريد، لا ولاء له ولا رغبة في الاستقرار.

أَغَرَّكِ مني أن حُبكِ قــــاتلي وأنكِ مهما تأمري القلب يفعلِ وما ذَرَفَتْ عَيْناكِ إلا لتَضْرِبي بسَهمَيك في أعشار قلبٍ مُقَتَّلِ امرؤ القيس

وفي وقت اليأس والخوف يسطع الصدق وتُخلَع كل الأقنعة.

عاجزون عن المقاومة. أحيانًا برضانا وأحيانًا رغمًا عنا.

هي أرواح تتلاقى يا بني، وأحيانًا تتلاقى أرواح متباينة، ويسكن أصحابها كلٌّ إلى الآخر وهو يعرف أن في السكينة أمانًا.

تُرى هل سيبقى من أحمد شيء؟ ولو بقي فبم سينطق؟ - وهل تنطق الأحجار؟ - بل لا ينطق سوى الأحجار. الكلمات تخرج من أفواهنا ثم تتلاشى مع ذرات الهواء وصرخات الحروب، أما الأحجار فتبقى لتذكرنا بما كان. لولا أحجار الملوك القدامى ما بنى أحمد مدينته ولا مسجده.

قال جعفر: وفي الحكي معرفة وشوق وابتغاء ونجاة. كلنا نبغي السرور، والسرور ليس في العاجلة ولكن في الآخرة، هو من علامات الجنة، والحكي يذكرنا بأن ما نرى ليس كافيًا، وما نفعل ليس كافيًا، نحارب وننتصر ولكن ما لا نفعله أكثر بكثير مما نفعله. استمع إليَّ، في الحكي الصادق الكثير من الطمأنينة والقليل من الحزن.

يا عبد الرحمن لو تخليت عن الدنيا بعد أن انهزمت بها خلاف لو تخليت عن الدنيا وأنت تملكها بلا منازع، هذا تخلٍّ وذلك تخلٍّ. القدرة في التخلي وقت الامتلاك، وليس التخلي وقت ضياع الملك.

قال الراهب يومًا للأمير: هناك حكمة وسر في التخلي؛ لا بد أن تتخلى وأنت تشتهي وتطمع، وليس بعد أن تيئس وتزهد، لا بد أن تنكر الدنيا وهي تفتح ذراعيها بالأماني، وليس بعد أن تذوق مُر صدقها وحقيقة توحشها. سأحكي لك كل شيء.

شدة الولع تؤدي إلى توغل الأنانية، فيصبح العالم طوفانًا والنجاة في مقلتيك. بل يصبح العمر بلا نجوم، والنجم المضيء يستعصي ظهوره. التعلق آفة مثل حب الذات. اليوم أتعلم أن حياة الظلام والنجم في مكانه مستقر أفضل كثيرًا من أن أطلب من النجم أن يقترب فأحرقه.

ابتسم وقال: يا أميرة.. التعلق أنانية والشوق أنانية وشدة العشق كالإسراف في القتل، لا تُسمن ولا تُغني من جوع. بل تزيد الضعف واليأس.

عقل العاشق كعقل العصفور لا يرى سوى عشه، ولا يفقه لغة البشر.

وقالوا لو تشاء سلوتَ عنها فقلت لـــه فإنـــــي لا أشاء بهـــا حب تنشَّأ في فــــؤادي فليس له -وإن زجر- انتهاء قيس بن الملوح شاعر أموي

متى يولد الأبطال؟ ابتسم وهو يفكر. يولد الأبطال وسط ضجيج الطامع وشراهة القاتل. لا بطل يولد في بيته وسط دفء النار والغطاء الصوف المطمئن.

قالت: تستطيع المرأة أن تجد الرضا بلا حب، وأحيانًا لا يأتي الحب سوى بالخراب. ولكن السعادة كلمة تعني الكثير. لا سعادة لنا هذه الأيام. كلنا.

لا بد أن يجازف الإنسان ويغامر مرة على الأقل في حياته وإلا فسيموت بدون أن يعرف طعمًا للارتواء.

وهل يستطيع أن يتخلى؟ ليته يستطيع. يتشبث ويأمل، وفي الأمل غواية وخيانة. هو الأمل يطمس النهار ويجعل الليل مبصرًا، هو الأمل يزيل الرغبة في العيش والنجاة. هو الأمل لا تخلٍّ يصلح معه ولا استسلام.

ثم أكمل سعيد بن كاتب الفرغاني وهو يخرج رقعة و يكتب في بطء: «في محو المدينة رائحة الخوف وطعم الخطر وفي محو المدينة حرب على الذاكرة بالسيوف والرماح وفي محو المدينة نقمة ونعمة، فالمدن الراحلة تكمن في الذاكرة المدن الراحلة دومًا بشمس ساطعة ومبانٍ شامخة عند البحث عن المدينة يلفظ القلب أنفاسه الأخيرة نأت المدينة فاستيقظ المسافر دنت المدينة فغفل ساكنوها. هذه حكاية مدينة غير كل المدن، في بنايتها التقاء بين العدو والحبيب وفي أزقَّتها اقتراب من هوة كلها كنوز، لا ترحم من يتردد ولا تتعلق إلا بمن يفنى بها. قالوا لم تكن هنا، ولا هناك، قالوا بل كانت عند جبل يعصم من الموت، قالوا سكانها تناثروا حول الأرض بلا ذاكرة ولا معرفة. قالوا الأجداد لملمت أحجارها في حفرة قعرها أعمق من قاع البحر ثم طمسوا معالمها ليحموا الأوراق من التلف. قالوا الوقت يتلف القلوب، ويوهن الجسد، ويودي بكل المدن ولكن على هذه الأرض لا آثار تفنى ولا تاريخ يضيع. هنا يتقنون الاحتفاظ بكل الأوراق حتى لو لم يقرءوها.

خِــلُّ قَــريبٌ بَعيـدٌ فـي تَطَلّبِهِ والموت أسهل عندي من تَغَضُّبِهِ ولي فؤاد إذا طال العذاب به طار اشتياقًا إلى لُقيا مُعَذِّبِهِ يَفديكَ بِالنَفسِ صَبٌّ لو يكون له أعَزُّ من نفسِهِ شَيءٌ فَداكَ بِهِ البحتري شاعر عباسي

هكذا هو الإنسان، لا يصيب الهدف إلا في المعارك، أما في الحياة فبصيرته لا تتبدى ولا تفوز.

هذا الطريق يطول به وكأن النهاية لن تأتي،

الذي حل به؟ لِمَ يفكر فيها هي فقط وكأنها كل الكواكب والشموس؟ لِمَ تعلو الدقات ويسطو الشك ويخرب؟ أي سارق يسطو على يقين الأمل، هل أصابه الجنون أم لم يصبه بعد؟ لِمَ يطارده ظل شرير يمتص دماءه كلما تحركت الشمس من موضعها؟

الصداقة كما الحب تأتي دومًا على حين غرة، بلا قواعد ولا تدبر.

قلت لي: إن للمدن عمرًا كالبشر، وإن المدن العامرة تحث على المعصية، وتدعو الغزاة إلى أسوارها.

أما نحن فأول من يهلك، ومع ذلك نطغى ونتكبر.

هل وصلت إلى ما تريد؟ سؤال يعجز البشر عن الإجابة عنه.